الأوزاعي.. بعلبك النازحة إلى بيروت مقام وشاطئ وحكايا
تقول الرواية الأولى أن المدعو عبد الرحمن ولد في بعلبك ودفن غريباً على مدخل بيروت الجنوبي في قرية تدعى “الحنتوس”.
عرف بأنه كان شفيعا لليهود والمسيحيين والمسلمين آنذاك، ويعتبر من أول مدوني العلم في الشام.
يوم وفاته، اقترح أحد المؤرخين تسمية ساحة السوق الطويلة في وسط بيروت التجاري على اسمه، تقديراً لما قدّمه من منزلة تعليمية عالية.
تقول الرواية الثانية، في خمسينات القرن الماضي، باخرة قد غرقت على شاطئ قرية “الحنتوس”، طلب من أهالي الأطراف إنقاذ الركاب مقابل ليرة ذهبية عن كلّ ناجٍ، الأهالي حضروا، أنقذوا، واستوطنوا. نصبوا خيمهم على الرمال، وهي ما تعرف اليوم ب “عشوائيات المباني”.
أبدوا شجاعة هائلة وتكافل وطيد في عملية الإنقاذ . استقر الأهالي في هذه المنطقة وأصبح الشاطئ وجهتهم الأخيرة، وبنوا أسلوب عيش فطري ووجداني وعلاقة سليمة مع هذا الشاطئ، وعاشوا على خيراته حتّى يومنا هذا. فإن العاملين في مرافئ الصيادين ومرافئ بيروت، تعود جذورهم الى أهالي الأقاصي وناصبي الخيم.
تقول الرواية الثالثة , أثناء الحرب الأهلية في لبنان , سكّان الأطراف لجأوا الى الحنتوس ملاذا آمنا .
دائما ما تذكّرني جميع تلك الروايات بمطلع قصيدة عصام العبدالله ” ما في مدينة اسمها بيروت , بيروت عنقود الضيع ” , على وجه التحديد قرية “الحنتوس” , وهي ما تعرف اليوم ب “الأوزاعي” التي سمّيت على اسم امامها ” عبدالرحمن الأوزاعي” .
بالرغم أن سكان اليوم لا يعرفون من هو جارهم الوديع الذي لا يطرق باب جامعه وضريحه كثيرًا، حتى وان كان التاريخ يروي لنا، أنه كان امام بيروت وسائر الشام، المغرب وصولا لبلاد الأندلس.
إلّا أن مصيره كما مصيرهم واحد، وهم غرباء الأرض الذين يحملون هويات تذكر ولادتهم من قرىً ومدن مختلفة لكن سيرتهم تشبه سيرة الامام الأوزاعي الذي دفن غريبًا عن أرض الولادة.
سكان الأوزاعي يعيشون ويموتون في مقبرتها التي أخذت تمتد في أزقتها الداخلية وأصبحت تسمى “حي المقبرة”.
“أحياء في أحياء”
لم يعرف طريقها أي خريطة تنظيم مدني ولم تشق نواحيها جرّافات ووزارات تخطيط.
أهل الأوزاعي بنوا منازلهم على أكتافهم وشيّدوا جدرانها كتف على أخرى . الشبابيك تطل بعضها على بعض والمصطبات أمام البيوت تذكّر بعادات قراهم وبلداتهم، ليس بالضرورة كلّ شارع يؤدي إلى شارع آخر وليس كل حي ينفذ على آخر.
أهل الأوزاعي بنوا منازلهم على أكتافهم وشيّدوا جدرانها كتف على أخرى . الشبابيك تطل بعضها على بعض والمصطبات أمام البيوت تذكّر بعادات قراهم وبلداتهم، ليس بالضرورة كلّ شارع يؤدي إلى شارع آخر وليس كل حي ينفذ على آخر.
المسميّات عشوائية كما يطلق على أبنيتها، بعضها يشير الى تاريخ ذهبي مضى، كحي “الميامي” و “فلوريدا” وبعضها يشير الى قرىً هجرت منذ عقود كحي “أهل بليدا” على سبيل المثال، وبعضها يشير الى العائلات التي تجمعت من سجل نفوس واحد كحي “آل عساف” “حبّأل” “مقداد”…
أحياء تستنسخ بعضها عن بعض، وأحياء أخرى يكون حظها أوفر فتطل على شاطئ البحر أو على تلك البقعة الخضراء المسمّاة “أرض الغولف” وهنا تبرز الفروقات الاجتماعية بين الأبنية من الأقل حظّا الى أصحاب الحظوة والنفوذ.
كلّما توغّلنا في أحياءها تزداد غرابة الأسماء كما حالات اغتراب سكانها، أسماء لا تخلو من مفارقات اسمية كعنوان مدرسة “رويّال سكول” وعنوانها “الأوزاعي الحي الجوّاني”.
أو “فول خوليو” أحد أشهر المحلّات التي يقصدها السياح والزبائن من شتّى أنحاء بيروت وقد شيّد مكان دار منزل مطل على أطلال “الريفييرا” أحد أشهر شواطئ بيروت الخمسينات والستينات.
مبادرات نسائية
هنّ ربّات المنازل الصابرات على مشقّة الخدمات التي تكاد معدومة أو الموصولة بطرق بدائية إلى منازلهنّ . هنّ أكثر من ذلك، عاملات مساندات للأسرة بعد أن حوّلن أجزاء من منازلهنّ الى محلات صغيرة للخضار أو البقالة أو حوّلن دارهنّ الصغيرة الى صالونات تزيين وصالات عرض للألبسة أو أدوات منزلية وغيرها من التجارات الرائجة دعمًا لأسرهنّ.
لكلّ دار أو محل حكاية عمر أو كدح في مواجهة صعاب الحياة، فهذا المحال الذي كان اسمه “دكّان أبو محسن” أصبح أهل الحي يناديه باسم “دكّان ام محسن” بعد رحيل الزوج وأخذ مبادرة الزوجة لتعيل أطفالها التي بدورهنّ اليوم أصبحن يملكن مهن وحرف عدّة ليعملن ويتكافلن بعضهنّ ببعض.
غير أن تلك المبادرات تختلف من جيل إلى جيل، ففتيات منطقة الأوزاعي كما فتيانها الذين عشن مرحلة الانهيار الاقتصادي وجائحة الكورونا، هم اليوم أقل طموحًا. مستسلمون لبطالة وتسرّب مدرسي وادمانات لا سيّما منها ظاهرة “الأراغيل” التي تصطف اليوم على الشرفات ومداخل البيوت كدلالة من دلالات الانتصار والانهيار.
“خريطة يرسمها العدو”
تعيش اليوم الأوزاعي مثل سائر المناطق المهددة يوميًا بفضل العدوان وان لم يخفوا سكّانها دهشتهم حين رأوا أزقة الأوزاعي خريطة في وسائل الإعلام وقد رسمها العدو قبل استهدافها ، لعلًها هي الخريطة الوحيدة التي نظّمت شوارعها المغلقة بعضًا على بعض ، ولعلّ تلك الخرائط أيضًا أثارت في نفوس سكانها حالة من الوجدان والانتماء ، لم تهجر الأوزاعي كما سائر المناطق المهددة ، تفتح أبوابها في النهار وتتابع نشرات الأخبار والبيانات ليلاً حتّى اذا ما هددّت ، ترك سكانها منازلهم وابتعدوا عنها مسافات قليلة إلى كورنيش بيروت ، ساهرين ، تاركين منطقتهم تحت أنظار عيونهم .
غريبة ” أرض الغرباء” كم هي متجذّرة في قلب قاطنيها، لعلّ ذلك يسمّى إنتماء الغرباء لأرضٍ سمّيت على اسم غريبها الأوّل “الأوزاعي”.