الإعلام في قرى المواجَهة يعتمد على المواطنين.. وصفحاتهم “تنافس” الشاشات
تغيب عن شاشات التلفزة المحلّيّة والعربيّة تحديدًا، عبارة “حصريّ” أو Exclusive بالإنكليزيّة، وهذا الأمر لا يقتصر على الشاشات فحسب، بل ينسحب كذلك على الصور الفوتوغرافيّة ونقل الأخبار، حول مجريات الاعتداءات الإسرائيليّة، على جنوب لبنان، التي تخطّت 132 يومًا .
لا يوجد سبب واحد لهذا التحوّل في التغطية الإخباريّة، في زمن الحروب، سواء في جنوب لبنان أو غزّة أو غيرهما من أنحاء العالم، فيكاد يجمع المراسلون الميدانيّون، وغيرهم في مكاتب الرصد والتحرير، أنّ ثمّة تحوّلات واقعيّة، تفرضها ثورة التكنولوجيا، وخصوصًا الهواتف الذكيّة النقّالة.
برأي مجموعة من الصحافيّين، فإنّ وسائل التواصل الاجتماعيّ، ومنها الفايس بوك، وسائر المنصّات على اختلافها والهواتف، وعلى الرغم من أهمّيّتها في إيصال الحدث والصورة إلى الناس “تفسد” بهجة الخبر التلفزيونيّ والوكالات المحلّيّة وكبرى الوكالات الأجنبيّة، التي صارت تتّبع مجموعات (غروبّات) “واتس أب”، لرصد الأحداث، بدلاً من أن تكون، صانعة للصورة والخبر.
برأي مجموعة من الصحافيّين، فإنّ وسائل التواصل الاجتماعيّ، ومنها الفايس بوك، وسائر المنصّات على اختلافها والهواتف، وعلى الرغم من أهمّيّتها في إيصال الحدث والصورة إلى الناس “تفسد” بهجة الخبر التلفزيونيّ والوكالات المحلّيّة وكبرى الوكالات الأجنبيّة.
بدائل محلّيّة لمراسلي الوكالات
نشأت على مدى عقدين ماضيين، مئات المواقع الإلكترونيّة وصفحات الـ”فيس بوك”، وأصبح في كلّ بلدة، منصّتها الخاصّة، وأحيانًا كثيرة أكثر من صفحة وموقع. ففي جنوب لبنان، وخصوصًا في البلدات والقرى الحدودية، أصبحت صفحات هذه القرى والبلدات المواجهة والخلفية، وعناصر أجهزة الإسعاف، مصدرًا للڤيديوهات السريعة والصور، التي توثّق اللحظات الأولى للعدوان، وتتناقلها محطّات التلفزة والمواقع الإلكترونيّة، ولا تفصل بين عمليّات النقل والتوزيع، دقيقتان في أطول الحالات .
تحجز العديد من الصفحات، اسمها في أسفل أو وسط مقطع الڤيديو، وتضطّر معظم المحطّات، حتّى العربيّة والدوليّة، استخدام هذا المحتوى، الممهور باسم أو “لوغو” الصفحة، في حين لا يستطيع مراسلوها ومصوّروها المنتشرون في عدد من القطاعات الجنوبيّة، من الفوز بالصور، خصوصًا بعد استشهاد المصوّر في وكالة رويترز عصام عبدالله وجرح آخرين من قناة الجزيرة ووكالة الصحافة الفرنسيّة، في بلدة علما الشعب بتاريخ 14/10/2023، ولاحقًا استشهاد الصحافيّة فرح عمر والمصوّر ربيع معماري، من قناة الميادين، في بلدة طير حرفا، بتاريخ الواحد والعشرين من تشرين الثاني، من العام 2023 وقصف الصحافيّين في يارون .
على ضوء استهداف وقصف الصحافيّين، اتّخذت الوكالات الأجنبيّة العالميّة، “رويترز”، وكالة “فرانس برس” و”الأسوشيتد برس”، تدابير تقضي بعدم إرسال طواقم صحافيّة من قبلها، أو تكليف متعاونين معها، القيام بأعمال التصوير في المنطقة الحدوديّة، وتكتفي بتلقّي عروض من الصحافيّين المحلّيّين لصورهم، ببدل قيمة الصورة أو شريط الڤيديو، إلى جانب إجراء تقارير، ذات طابع إنسانيّ، من بينها أحوال النازحين .
شركاء وبدائل على الأرض
عندما قصفت المسيّرات الإسرائيليّة، فرقًا من الصحافيّين في بلدة يارون، قرب بنت جبيل، كانت الصحافيّة في قناة الجديد ريف عقيل، تنقل على الهواء مباشرة، الاعتداءات الإسرائيليّة على البلدة، في 13/11/ 2023، وكانت حاضرة في الميدان منذ بداية الحرب، وتحديدًا في اليوم الثاني لاستشهاد المصوّر عصام عبدالله.
حول عملها وتجربتها في الجنوب تقول عقيل لـ “مناطق نت”: “إنّ وسائل التواصل الاجتماعيّ سهّلت الكثير من الأمور على الصحافيّين، لكنّها في المقابل جعلت غالبية الشعب اللبنانيّ من الصحافيّين، وبالتالي لم يعد يوجد معلومة محصورة بصحافيّ معيّن، وعلى سبيل المثال أنا موجودة على غروبّات “واتس أب”، أستطيع من خلالها تتبّع كلّ تفاصيل الحرب، حتّى لو كنت في خارج الجنوب”، مؤكّدة أنّ المواطن أصبح شريكًا في المادّة الإعلاميّة .
وتضيف عقيل: “الإشكاليّة الأولى تبقى في كيفيّة الوثوق بهذه المعلومة التي ينقلها المواطن، الذي لا حرج عليه لو أخطأ كالصحافيّ الممتهن، الذي عليه التدقيق في المعلومة وتقاطعاتها مع أكثر من مصدر”.
تتابع عقيل: “إزاء هذا الواقع، فقد تراجع دور الصحافيّ، وهناك أسباب عديدة، ففي بداية الحرب كنّا نغطّي في راميا وعيتا الشعب ومارون الراس وعيترون وعيناثا، لكنّ هذه المناطق، صارت خطرة جدًّا ومستهدفة ومحرّمة علينا، بسبب المسيّرات الإسرائيليّة التي قلّصت تحرّكاتنا، وأصبحنا نلجأ إلى وسائل التواصل الاجتماعيّ للحصول على المعلومة التي صارت مباحة ومستباحة” .
الأفضليّة للأصيل لولا المخاطر
وفي ما يتعلّق بتجربتها في يارون، ونجاتها مع زملاء آخرين، توضح عقيل: “إنّها تجربة مميّزة، برغم مخاطرها الكبيرة، وهي لحظات لا تنسى، ولكنك كصحافيّ تختبر قدراتك على الأرض، وكيفيّة التعامل مع استهداف مباشر، والتعامل أيضًا مع 15 صحافيًّا، لتنقل حقيقة واقعك على الأرض، وكذلك واقع هؤلاء وسلامتهم.”
وتلفت عقيل إلى “أنّ الحضور الصحافيّ على الأرض لا يضاهيه أيّ من وسائل التواصل الاجتماعيّ، فبالنسبة لي، أنا أنتمي إلى المدرسة القديمة، وهي أن أكون مباشرة على الأرض للتعامل مع كيفيّة إظهار الحدث ونقل تفاصيله الدقيقة” .
ريف عقيل: الحضور الصحافيّ على الأرض لا يضاهيه أيّ من وسائل التواصل الاجتماعيّ، فبالنسبة لي، أنا أنتمي إلى المدرسة القديمة، وهي أن أكون مباشرة على الأرض للتعامل مع كيفيّة إظهار الحدث ونقل تفاصيله الدقيقة.
وتؤكّد تقليص المحطّات التلفزيونيّة تواجدها في مناطق الجنوب، “نتيجة الاعتداءات الإسرائيليّة، التي استباحت زملاءنا الصحافيّين، ممّن كانوا يظنّون أنّهم مُحصّنون بالشارات الصحفيّة على سيّاراتهم وبدلاتهم. وباتت العديد من المحطّات والوكالات تبرّر ذلك، وتسوّق لفكرة الحصول على الصور والمعلومات من خلال وسائل التواصل الاجتماعيّ بسرعة، ولا حاجة للصحافيّ، وأنا لا أؤيّد ذلك، وصحيح أنّ وسائل التواصل هذه تؤثّر على دور الصحافيّ، لكنّها لا يمكن أن تحلّ محلّه تلغيه”.
التنافس والتسابق أطاحا بالمعايير
يغطّي علي حشيشو، الحروب الإسرائيليّة على الجنوب، منذ نحو ثلاثين عامًا، لصالح عدد من الوكالات العالميّة والمحلّيّة وجريدة الأخبار. يؤكد الزميل حشيشو، اختلاف العمل الصحافيّ عمّا كان عليه في العقدين الماضيين، “حيث صارت الصورة والمعلومة أسرع، ولو أنّها أقل حرفيّة وموثوقيّة.”
ويضيف حشيشو لـ”مناطق نت”: “في الحرب الحاليّة الدائرة في الجنوب، أغرت الثورة التكنولوجيّة وكالات الأنباء والقنوات الإخباريّة وراحت تستسهل الحصول على الصورة والخبر من متعاقدين ناشئين ميزتهم الوحيدة أنهم يسكنون أو متواجدون في قلب الحدث، بالقرب من أماكن تساقط صواريخ العدو الإسرائيليّ على المنازل في القرى الأماميّة، متخليّة عن الكثير من الصرامة في تطبيق معايير المهنيّة”. والسبب في هذا الاستسهال برأي حشيشو “هو السبق الصحفيّ والتنافس بين المؤسّسات الإعلاميّة ومواقع الأخبار الالكترونيّة”.
يتابع حشيشو: “ليس هذا هو الاختلاف الوحيد بين تغطية اليوم وتغطية الأحداث الكبرى، ففي عدوان العام 2006 لم تكن قد تفشّت بعد ظاهرة المواقع الالكترونيّة والتي تعتمد البثّ الحيّ “اللايڤ” حيث يجري تمرير أيّ معلومة خاطئة وترسيخها في ذهن المتابعين على أنّها حقيقة مؤكّدة، عدا عن كشف معلومات قد تفيد العدوّ عبر تحديد أماكن انطلاق صواريخ المقاومة تجاه مواقع العدو العسكريّة ومستعمراته”.
ويلفت حشيشو إلى أنّ ضراوة الحرب، هي أيضًا اختلفت عمّا كانت عليه في 2006، لناحية الإسراف في الإجرام الإسرائيليّ وعدم تقيّده بأيّ ضوابط، ومنها تعمّد استهداف المدنيّين ومن بينهم الإعلاميّين، وهذا ما جعل مهمّة التغطية أخطر بما لا يُقاس، ففي أيّ لحظة قد تختارك مسيّرة مسلّحة هدفًا لها، وترسل لك صاروخًا ينهي حياتك، أو تصطادك دبّابة ميركاڤا بقذيفة وتحوّلك من مخبر إلى خبر”.
ويعتبر أنّ “المخاطر عظمت، لكن لا بدّ من المخاطرة لتوثيق العدوانيّة الصهيونيّة من جهة، وبطولات المقاومين وصمود الناس في أرضها من جهة ثانية، شرط التمسّك بالانحياز للحقّ وأصحابه”.
واقع مواقع التواصل
يعمل حيدر حويلا مراسلاً ميدانيّا، في قناة LBC منذ أكثر من ثلاثة عقود، وهو أحد مندوبي الوكالة الوطنيّة للإعلام في صور، التابعة لوزارة الإعلام اللبنانيّة.
عايش حويلا كلّ الحروب والاعتداءات على الجنوب، ابتداءً من تسعينيّات القرن الماضي، وخصوصًا حرب تموز – آب 2006.
في الثالث عشر من تشرين الثاني، كان حويلا مع فريق المؤسّسة التلفزيونيّة التي يعمل فيها، على بعد مئات الأمتار من مكان استهداف الفريق الصحافيّ، في بلدة علما الشعب، والذي أدّى إلى استشهاد المصوّر عصام عبدالله وجرح زملاء آخرين في الجزيرة ووكالة الصحافة الفرنسيّة، وكان حويلا من أوائل الصحافيّين الذين التقطوا ووثّقوا صور الاعتداء، والمساعدة كذلك في نقل الزملاء المصابين إلى المستشفيات .
وحول مسألة دخول وسائل التواصل الاجتماعيّ المنافسة والمتقدّمة أحياناً على دور الصحافيّين، يؤكّد الزميل حويلا لـ”مناطق نت”، “أهميّة الدور الجديد، الذي تلعبه وسائل التواصل، التي تعتمد على الهواتف النقّالة، وهذا تحوّل كبير في الميدان، لناحية سهولة التقاط الصورة، من أيّ مواطن ونشرها في أصقاع العالم بدقائق معدودات”، مؤكدًا “أن مراسلي التلفزيون أو المصوّرين. أصبحوا في موقف لا يُحسدون عليه، ففي بداية الأحداث كنّا نرى صحافيّين على الأرض، أمّا اليوم فباتت هناك قلّة قليلة، بعدما أضحى الصحافيّون هدفًا للمسيّرات الإسرائيليّة القاتلة” .
ويخلص إلى أنّ التلفزيونات وحتّى الوكالات الأجنبيّة المعروفة، لم تعد تعتمد بشكل رئيسيّ على المراسل الصحافيّ، فتلجأ في حالات كثيرة إلى وسائل التواصل الاجتماعيّ .
“ميسيّات” و”حوليّات” وشقيقات
تتصدّر بعض الصفحات والمواقع على وسائل التواصل، تغطية الكثير من الأحداث في القرى الحدوديّة، ومنها “الخيام” و”حولا عالبال” و”مرجعيون” و”ميسيّات” (نسبة إلى ميس الجبل)، التي تتفرّد في نقل الاعتداءات على ميس الجبل وجوارها .
بين فترة وأخرى، يحتلّ لوغو “ميسيّات” شاشات التلفزة المحلّيّة والعربيّة والدولية، من خلال مقاطع فيديو، ينقلها موقع ميس الجبل، المتواجد على الأرض، ويتابع نقل تفاصيل الاعتداءات على ميس تحديدًا والجوار .
تتصدّر بعض الصفحات والمواقع على وسائل التواصل، تغطية الكثير من الأحداث في القرى الحدوديّة، ومنها “الخيام” و”حولا عالبال” و”مرجعيون” و”ميسيّات” (نسبة إلى ميس الجبل)، التي تتفرّد في نقل الاعتداءات على ميس الجبل وجوارها.
يلفت مدير ومؤسّس الموقع محمد زهر الدين، إلى أنّ صفحة “ميس” أنشئت في العام 2010، وكانت مصدرًا لنقل الخروقات الإسرائيليّة وتصدّي الجيش اللبنانيّ لها، عند حدود البلدة مع فلسطين المحتلّة (المنارة). يقول لـ”مناطق نت”: “إنّ الموقع تعرّض للحظر، في هذه الفترة، ونقوم حاليًّا بنشر أخبارنا عبر الفيس بوك، وعلى صفحة “ميسيّات” وغروبّات “واتس أب”. مؤكدًا أنّ العديد من الوسائل المحلّيّة والعربيّة والدوليّة، تعتمد نشر فيديوهات خاصّة بالموقع.
أنشأ فراس فارس صفحة “حولا عالبال” قبل أكثر من خمس سنوات، ويؤكّد “أن وجهة الصفحة باتت منذ بدء العدوان الإسرائيلي على المناطق الجنوبيّة ومنها بلدتنا العزيزة حولا، تتابع التطورات الأمنيّة وتسجّل الاعتداءات الإسرائيليّة على المستويات كافّة”.
في آخر أخبار “حولا عالبال”: “شيّعت بلدة حولا الشهيدة نهى محمد سعيد مزرعاني إلى مثواها الأخير في بلدة كفررمان، بعدما تعذّر دفنها في بلدتها حولا بسبب الأوضاع الراهنة. يُذكر أنّ الشهيدة كانت قد أصيبت نتيجة الغارة التي حصلت بالقرب من منزلها، منذ أول من أمس، وانقلبت خزانة المنزل عليها جراء عصف الغارة، ما تسبّب لها بنزيف حادّ في الرأس. والجدير بالذكر أنّ الشهيدة كانت تعاني من مرض عضال”.