“الإمبيلانس” يعود لينخر ذاكرتي ويمزقها
ماذا لم تُختزل كلّ الأصوات في صوت واحد؟ لا شكّ في أنّ هذا الصوت الأخير سوف يكون عندئذ حاسمًا. ثمّة شعور سوف يستبدّ عندها بالسامع، ألّا صوتًا في العالم قبل هذا الصوت أو بعده. يكتنف الغموض الذهن، يسترسل الخيال في شعوذاته ويأنف الجسد إيماءاته العاديّة، لكن الصوت صاحب السيادة يأبى في تلك اللحظات إلّا أن يحوط الذهن والخيال والجسد بجدران زعيقه.
كنت هناك في شارع “الحمرا” أنصت إلى تلك الأصوات المتداخلة الخيوط والفجوات التي تصدرها سيارات الإسعاف. لست أدري إذا ما كنت ساعتئذ مغبّة جملة من الأصوات أو مغبّة صوت واحد. على الرغم من ملازمة صوت سيّارة الإسعاف لمسامعي في هذا البلد منذ عقود وعقود، إنّما تلازم ذلك الصوت يومذاك مع مشاهد الدماء فجعلت الصوت مرئيًّا ملموسًا مشمومًا ويا لمرارة طعمه.
قد لا يكون الصوت مباليًا بمتلقّيه، قد لا يكون مهيّئًا كي يكون محلّ افتتان أو محلّ غربة أو استنكار، لكنّ صوت “الأمبيلانسات” في شارع الحمرا كان كلّ هذه معًا.
الصوت المرئي
استحوذ صوت سيارات الإسعاف حتّى على مشاهد الجرحى ممّن كان بعضهم يُنقل عبر الفانات والدرّاجات النارّيّة. كان الصوت مرئيًّا إلى أقصى الحدود… إلى حدّ الفجاجة. كان صوت “الأمبيلانسات” يلوّح بأجساد المصابين وبأشلاء بعضهم وكان أيضًا يتغاوى على وقع خجل الدماء المتورّد الخدّين.
لم أخمّن في يومي أنّ للصوت، أيّ صوت، هذه القدرة على دفع المرء لفتح حوار مع نفسه. لم يقع بي الظنّ أنّ صوت سيّارات الإسعاف التي كانت تقتحم فجوات شارع الحمرا وثقوبه، كانت تقتحم أيضًا فجوات ذاكرتي وذواكر كلّ الذين كانوا ينصتون مثلي إلى ذلك الصوت. كنت على يقين تامّ أنّ كلّ الذين صودف وجودهم في شارع الحمرا إبّان نقل الجرحى إلى المستشفيات ساقتهم أصوات الإسعاف إلى الركون إلى تلك الذاكرة المنقبضة… ذاكرة حروب لبنان التي لا تخلص، ذاكرة العبوات الناسفة، ذاكرة الانفجارات والحروب الأهليّة وحروب الصدفة، فضلًا عن تلك الحروب المكبوتة.
إنّ قدرة صوت سيّارة الإسعاف على الانغراس ليس في الآذان فحسب بل أيضًا في العيون والأطراف ومسامات الجلد وخلجاته تشي بأنّ لا صوت في العالم يملك السيادة على نفسه مثل صوت سيارة الإسعاف. كان ذلك الصوت يصوغ الشارع، يصوغ العاصمة ويصوغ وطننا المؤجّل على الدوم. إنّه صوت عتيق جدًّا يتمتّع بتاريخ طويل، أطول من تاريخ الكارثة.
استئناف المقابر
لا علاقة لصوت “الإمبيلانس” بحركة عقارب الثواني والدقائق والساعات، لا علاقة له البتّة بمرور الوقت سواء كان هذا الوقت محل انقشاع أو محلّ ضباب. فصوت “الإمبيلانس” كما “شاهدته” في شارع الحمرا هو ترتيب الموت تارة، انقضاضه اللامبالي تارة أخرى، وهو في كلّ الأحوال استئناف المقابر فوق خطوط أيّامنا.
ثمّة مَن كتب عن مكوّنات الصمت ومصادره… رجل عجوز وحكيم جدًّا أبدع بالحكي عن تاريخ الصمت وأمزجته، لكنّني على يقين تامّ أنّ الصمت إزاء صوت “الإمبيلانس” هو صخب يستجرّ الصخب.
إنّ قدرة صوت سيّارة الإسعاف على الانغراس ليس في الآذان فحسب بل أيضًا في العيون والأطراف ومسامات الجلد وخلجاته تشي بأنّ لا صوت في العالم يملك السيادة على نفسه مثل صوت سيارة الإسعاف
حفرتُ نعليّي فوق بلاط الرصيف وإنعمتُ النظر في ذلك الصخب المدويّ… في ذلك الزعيق المنتشر. رتّبتُ شؤون ذاكرتي بما يتناسب مع حاضر هذا الزعيق الفاجر وهندستُ شؤون مستقبلي بما يتلاءم مع شروطه الصريحة والتي لا تقبل التفاوض.
يبدو أنّ الصوت الأعلى في هذه البلاد هو صوت سيارة الإسعاف. إنّه الصوت الشديد الإلحاح الذي يأبى الاعتراف بقبل وبعد وهو على الدوم سيّد العبارات التي تجري فوق كلّ لسان.
شعرتُ للحظات أثناء وجودي في شارع الحمرا في غمرة “الإمبيلانسات” أنّ صوت “الإمبيلانسات” هو بالعمق كلامنا المتدفّق، أسرارنا المكتومة ومعجمنا الحافل.
ربّما ليس من نافل الأمور أن يحشو المرء تجويفتيّ أذنيه بصوت يحسبه طارئًا. لكنّ هذا الطارئ الدائم ما انفكّ يؤكّد لنا في لبنان أنّه الضيف الأبديّ. يتجمّع فوق مسامعنا كلحن نحفظه عن ظهر قلب، مخلصًا لنفسه إلى حدّ الفجيعة وجلّ ما يطلبه منا – كما شاهدتُ الأمر في شارع الحمرا – هو أن نكون مخلصين له.
… لست أدري، ربّما صوت “الإمبيلانس” هو نشيدنا الوطني الأصلي!!