“الاسبرسو” الإيطالية تتبناها بعلبك ويقاطعها جبل لبنان

لطالما تساءلت عن تاريخ دخول قهوة “الإسبرسّو” (Espresso) إلى بعلبك. قمت باستجواب كثيرين ولم يكن في أستطاعة أحد أن يقدّم لي جوابًا شافيًا. لجأت إلى أحد باعة هذا النوع من القهوة الأكثر “اطّلاعًا”، فأفادني بأنّ الآلة الأولى التي ظهرت في المدينة أتى بها أحد سكّانها، وكان متزوّجًا من امرأة إيطاليّة، وكانت آلة من الطراز القديم التي تصلح حاليًّا لوضعها في متحف.
على أنّ آلة صنع هذا النوع من القهوة، التي كان ابتكرها أنجلو موريندو في مدينة تورينو بإيطاليا، في العام 1884، لم تظهر في مدينة بعلبك سوى منذ زمن غير بعيد، بعد أكثر من 100 عام على صناعة الفنجان الإيطالي الأوّل. وإذا كانت مقاهي العاصمة قد شرعت في تقديم الإسبرسّو إلى زبائنها في ستينيّات القرن الماضي، لدى ازدهار مقاهي الرصيف، في خلال ما يسمّى بـ “الزمن الجميل”، فإنّ مقاهي بعلبك لم تتّبع هذه الخطوة إلّا منذ ما يقرب من 20 عامًا.
في ما يخصّ التسمية، درجت العادة أن يُقال في لبنان: فنجان قهوة إكسبرسّو، أو “إكسبرسّ”. أمّا في هذا المقال، فنحن سنعتمد التسمية الإيطاليّة الأصليّة. وفي كلّ الأحوال، وبصرف النظر عن التسميات، لم تظهر آلة صنع الإسبرسّو الأولى في مقهى من المقاهي المعروفة في بعلبك، أيّ في تلك الواقعة في وسط المدينة، حيث ما زال بعضها القليل محافظًا على تلك التقاليد القديمة والجميلة.
لم “يعترف” أصحاب هذه الأماكن، التي صارت نادرة، بهذا النوع من القهوة، وربّما يعود سبب عدم اعترافهم إلى كون الآلة ذات الرؤوس المتعدّدة، غالية الثمن، وهي عرضة للأعطال في حال عدم التعامل معها بشكل محترف، إضافة إلى تفضيل الزبائن فنجان القهوة “العربيّة”، الذي طالما اعتادوا على طعمه.
“كيوسكات” الإسبرسو
انتشرت “كيوسكات” الإسبرسّو (ولا نقول مقاه نظرًا للفرق بين المكانين) كالفطر في المدينة، وخصوصًا في محيط رأس العين، بوصفها منطقة متنزّهات. من لم يُتح له استئجار مكان، أو ربّما السيطرة عليه ببساطة بموجب “قوانين القوّة”، جعل من حافلة ڤان فارغة ومهترئة مساحة مختصرة لتجارته. إلاّ أنّ حافلات الڤان ما لبثت أن اختفت، كونها مخالفة للقانون بجميع بنوده، وليس من مخرج لأصحابها من أجل تسوية أوضاعهم.
ليس غريبًا أن ترى، في الوقت الحالي، محلًّا تجاريًّا لا شأن له بتقديم القهوة، كمتاجر الألبسة وبيع اللحوم والتبغ وسواها، لكنّه لم يتوانَ عن وضع آلة ضمن محلّه، ممّا يشكّل مصدر رزق إضافيّ لمهنته الأساسيّة.
أمّا من أتيح له استئجار مكان محاذٍ للطريق العام، فقد كان حظّه أفضل من سواه، إذ يمكن للحافلات التوقّف قرب شبّاكه المطل على الطريق، واستلام فنجان القهوة من دون مغادرة مركبته. هذه الحال تنطبق في شكل رئيس على “الكيوسكات” الواقعة في منطقة المتنزّهات، كما أسلفنا، كونها لا تخلو، ليلًا أو نهارًا، من الحافلات التي تدور حول مرجة رأس العين بلا هدف، وتتشكّل بفضل سائقيها، في بعض الأحيان، صفوف من السيّارات التي تنتظر دورها في تلقّي القهوة هذه، ممّا يؤدّي إلى زحمة سير لن يعترض عليها أحد.
ولكن، لا تظنّن أنّ السكوت ناجم من القبول الطوعيّ بالوضع القائم، بل لأنّ الاحتجاج دونه محاذير، وقد يؤدّي إلى عواقب غير معروفة، ولهذا الأمر علاقة بطبيعة المحتجّ ومزاجيّته من جهة، وحسب ونسب سائق السيّارة المعرقلة من جهة أخرى، وذلك تبعًا لـ “موازين القوى” العائدة لهذا الطرف أو ذاك.
انتشرت “كيوسكات” الإسبرسّو (ولا نقول مقاه نظرًا للفرق بين المكانين) كالفطر في المدينة، وخصوصًا في محيط رأس العين، بوصفها منطقة متنزّهات. من لم يُتح له استئجار مكان
لكلّ “كيوسك” روّاده
وكما ذكرنا، قامت “كيوسكات الإسبرسّو” في كلّ مكان، واختلفت رحابة داخل الكيوسك بين مكان وآخر، بدءًا من تلك التي لا تستوعب أكثر من زبون أو اثنين، وصولًا إلى تلك التي قد “ينحشر” ضمنها حوالي 10 أشخاص. إلى ذلك، أصبح لكلّ مكان زبائنه المخلصون، ممّن تجمع بينهم علاقات صداقة مع صاحب الكيوسك، أو من أولئك الذين اعتادوا على الاجتماع في مكان دون سواه. لكنّ تجمّع هؤلاء في مكان بعينه لا يتمّ من طريق المصادفة؛ فقد أصبح لكلّ كيوسك روّاده من ذوي الاهتمامات المعيّنة أو الانتماء السياسيّ، أو مصالح من نوع خاص لا ندرك كنهها تمامًا.
أمّا النوعيّة الأخيرة من هؤلاء الزبائن فيركنون سيّاراتهم، وجلّها سوداء اللون “مفيّمة”، كيفما اتّفق، على المساحة الصغيرة المحاذية للكيوسك، بحيث لا يتركون مسارًا سوى لمرور سيّارة واحدة ليس أكثر، محشورة أحياناً. ومثل الحال السابقة المذكورة، المتعلّقة بعرقلة السير، ليس هناك من يجرؤ على الاعتراض من أهالي الحيّ، الذين تتلخّص حالهم بمقولة: “بيمشي الحيط للحيط وبيقول يا ربّي السترة”.
كذلك لا بدّ من ذكر أنّ أمكنة من هذا النوع يقتصر روّداها على أفراد محدّدين يعرفون بعضهم بعضًا جيّدًا، ويشكّلون حلقة مغلقة، بحيث لا يقصد المكان أحد سواهم، بقصد الجلوس واحتساء القهوة، إذ سيُنظر إليه شذرًا، على أساس أنّه زائر غير مرغوب به.
هويّة طائفيّة
وللمناسبة، لا بدّ من القول إنّني من عشّاق قهوة الإسبرسّو، في ما يشبه الإدمان، ومنذ زمن طويل. عرفت مذاقها خلال إقامتي في إيطاليا، ويصعب مقارنته بمذاق القهوة عندنا، مع العلم أنّ هذا المذاق المحلّيّ يختلف بين مكان لبناني وآخر. اضطررت، غير مرَّة، إلى سلوك ما يسمّى “طريق ترشيش- بكفيّا”، قاصدًا العاصمة، و”إجا عبالي” فنجان قهوة وبشدّة. راقبت جهتيّ الطريق الذي أسلكه بسرعة محدودة، آملًا بالعثور على محلّ يحوي الآلة الإيطاليّة لكن من دون جدوى.
وصل بي الأمر إلى التوقّف في إحدى البلدات والسؤال عن مرامي، فلم يؤكّد لي أحد وجود أمكنة تبيع هذا النوع من القهوة. استنتجت آنذاك، ولم يكن استنتاجًا فوريًّا بل حقيقة عرفتها منذ زمن، ومفاده أنّ “الإسبرّسو” عندنا لها هويّة “طائفيّة”. تعجّ ضاحية بيروت الجنوبيّة بأمكنة من هذا النوع، في حين تندر، إلى حدّ ما، في الجهة المقابلة، ضاحية بيروت الشرقيّة. لذا، ليس من المستغرب أن نسمع أو نقرأ على وسائل التواصل الأجتماعيّ عبارة “علي إكسبرسّ”.