الانتحار في ظلّ الأزمة.. من صدمة جماعيّة إلى حدث عابر
“أنا مش كافر”. عبارة علقها علي محمد الهق، مواليد الهرمل، على صدره قبيل انتحاره أمام مقهى “دانكن” في الحمرا، بيروت في الثالث من تموز عام 2020، وعلّق معها سجله العدلي. وبحسب شهود عيان فإن علي صرخ قبل اطلاقه النار على نفسه أمام الناس: “لبنان بلد حر مستقل”. لم يكمل علي الجملة، لكننا نعرف أن القصد منها القول، إن الجوع قتله، لأن الجوع كما وصفه زياد الرّحباني وآخرون، كافر وقاتل، وفي رصيده الكثير من الضحايا المعلنة وغير المعلنة.
لم تكن تلك، حالة الانتحار الأولى التي تسبب بها الوضع الإقتصادي في لبنان، ولا آخرها طبعًا، ولكنها واحدة من الحوادث التي لا شبهة فيها، ولا مجال للتأويل والشك في اسبابها ودوافعها. على العكس، كان علي مصرًا على توجيه أصابع الاتهام للظروف والأزمة، واختار المكان والطريقة الأوضح لإيصال رسالته، وقد كان لانتحاره صدى واسع، حيث تجمع عدد كبير من المتظاهرين في مكان الحادثة، حاملين يافطات تندد بما وصل إليه حال البلد.
في الثاني من آذار هذا العام، ضجت مواقع التواصل الاجتماعي بخبر انتحار الشاب الجنوبي “موسى الشامي”، بعد أن أرسل لصديقه رسالة صوتية يطلعه من خلالها على قراره ويوصيه بالإهتمام بزوجته وأطفاله، وقد أشار موسى في رسالته إلى أنه لم يعد قادرًا على تحمل الظروف المعيشية الصعبة، وبأن خلاصه الوحيد هو في إنهاء حياته.
الانتحار.. تابع
في غضون عشرة أيام، تكررت الحادثة بشكل متقارب حيث عثر على الشاب بيار صقر البالغ من العمر 62 عامًا جثة هامدة في جرود بلدة بسكنتا قضاء جبل لبنان، بعد أن قام بنشر رسالة وداعيّة لأصدقائه عبر منصة فيسبوك. في رسالته عزا بيار سبب انتحاره إلى الأزمة المالية التي يمر بها والتي أجبرته على توقيف معمل اللوحات الإعلانية الذي يملكه، بالإضافة إلى معاناته من بعض المشاكل الصحية. ومما ذكره في منشوره ” بعد قليل من الممكن الا يكون عندي طعام”.
في الـ 29 من نيسان هذا العام، تداول ناشطون خبر انتحار الشاب “أنس المصيطف” المنحدر من مدينة منبج شرقي حلب، خوفًا من إلقاء القبض عليه من قبل النظام السوري، جراء عمليات الترحيل القسرية التي تقوم بها الدولة اللبنانية مؤخرًا، والتي بدأتها تحت ذريعة الحد من تفاقم الأزمة المعيشية، التي يشكل التواجد السوري على الأراضي اللبنانية جزءًا منها.
هناك حالات انتحار وقعت خلال الأزمة حملت طابعًا غريبًا، كانتحار الناشط فيصل صفير، رئيس تكتل “أوعَ” المعارض، الذي انطلق بعد حراك 17 تشرين، وتبنى الخطاب التغييري في وجه الطبقة الحاكمة في لبنان. عُثر على فيصل مصابًا بطلق ناري برأسه في سريره داخل منزله القائم في رأس النبع عشية العاشر من أيلول سنة 2021، بعد ليلة امضاها مع اصدقائه احتفالًا بمناسبة عيد ميلاده الرابع والثلاثون، دون أي مؤشرات على رغبته بالانتحار او تدهور حالته النفسية.
بالمقابل، كان فيصل قد نشر عبر حسابه على فيسبوك قبل الحادثة منشوران يحملان معانٍ مبطنة تشير إلى اتخاذه القرار بالانتحار، مع الأسباب التي دفعته إلى ذلك، لكنهما لم يحملا رسالة واضحة ومباشرة. وقد قال فيهما: “الله ليس هنا فقد ناديته ولكن لم يجبني أحد، تبقى الحياة وقفة عز فقط… هذا العالم تافه”.
هناك حالات انتحار وقعت خلال الأزمة حملت طابعًا غريبًا، كانتحار الناشط فيصل صفير، رئيس تكتل “أوعَ” المعارض، الذي انطلق بعد حراك 17 تشرين، وتبنى الخطاب التغييري في وجه الطبقة الحاكمة في لبنان.
قبل هذه الحادثة بمدة وجيزة، وتحديدًا في الثالث والعشرين من آب من العام نفسه، ضجت مواقع التواصل الإجتماعي بخبر انتحار الناشط في مظاهرات 17 تشرين “كريم صالح”، الذي عثر عليه منتحرًا بالطريقة نفسها في منزله في صيدا، وقد نعاه الناشطون والمتظاهرون، وشاركوا صوره في الساحات، فقد كان كريم من أكثر المتواجدين في مظاهرات الجنوب، وكان معروفًا بخطابه المباشر والواضح ضد جميع قوى الأمر الواقع دون أي استثناءات أو مراعاة أو حذر، وايمانه المطلق بالقدرة على تغيير الواقع.
لم تثر قضية انتحار كريم أي علامات استفهام رغم أنه لم ينشر أو يعبّر بأي شكل من الأشكال عن رغبته بالانتحار أو عن مروره بحالة نفسية غير مستقرة، لكن ملابسات القضية كانت واضحة ولا تحتوي على أي قطبة مخفية فيها، في حين طرحت تساؤلات كبيرة عن خطورة وتأثير الأزمة على اللبنانين لا سيما الشباب منهم، فكريم على حد قول كل من عرفه على الصعيد الشخصي والمباشر كان إلى حد قصير قبيل انتحاره، متأملًا بالمستقبل وبالثورة وبالقدرة على المقاتلة دون استسلام.
تضعنا قضية انتحار كريم صالح بهذا الشكل المفاجئ وغير المفهوم، وكل حوادث الانتحار التي وقعت منذ بداية الأزمة وصولًا إلى اليوم، للتعمق أكثر في البحث عن تأثير الأزمة المستجدة على الحالة النفسية للمواطنين والمقيمين في لبنان، فهي شكلت حالة غير مفهومة ومعقدة على جميع الأصعدة، وتطرح العديد من الإشكاليات التي تحتاج إلى معالجة وشرح وفهم أكبر مما يجري الآن.
أرقام محيّرة
الجوع، واليأس، والعجز أمام واقع الأزمة في لبنان كانت سببًا مباشرًا ومفهومًا في عديد من حالات الانتحار التي حصلت منذ بداية الأزمة حتى اليوم، وسببًا غير مباشر في حالات أخرى، لكنها بالتأكيد شكلت عاملًا مؤثرًا في ارتفاع عدد حالات الانتحار في لبنان في السنوات الأخيرة، فبحسب إحصاء صادر عن قوى الأمن الداخلي، فإن سنة 2019 سجلت أكبر عدد من حالات الإنتحار في لبنان في العقد الأخير، ب 172 حالة، لينخفض الرقم تدريجيًا مع السنوات ليصل إلى 139 حالة عام 2022، في حين كان متوسّط حوادث الانتحار سنويّاً خلال الأعوام 2013- 2022 حوالي 143 حادثة، أمّا العدد الأدنى فهو 111 حادثة سجّلت في العام 2013.
إذا إعتمدنا العام 2011 كقاعدة انطلاق فيتبين لنا أن معدّل ارتفاع عدد حوادث الانتحار المسجّلة رسمياً بـ 32% خلال التسع سنوات الاخيرة (2014- 2022). في حديث لمناطق نت تقول “جويل جابر” المعالجة النفسية والمشرفة على الخط الساخن للوقاية من الإنتحار في جمعية “امبرايس”، إن الإحصاءات الموجودة لا تعكس بالضرورة الواقع وتتابع: “من الصعب تحديد اذا ما كانت الحالات ارتفعت او انخفضت، فالأرقام التي تعلن عنها قوى الأمن، هي الأرقام المسجلة لدى الطب الشرعي، لكن هناك عائلات ترفض من الاساس التّصريح أن الوفاة ناتجة عن حالة انتحار، لاعتبارات دينية أو اجتماعية. بحسب احصاءاتنا كجمعية، اليوم هناك معدل حالة انتحار كل يومين فاصلة واحد، في حين كانت حالة كل يومين ونصف، والنسبة الأكبر هي من الفئة العمرية الشابة (26 إلى 40) سنة”.
من جهة، يعد العلاج النفسي في لبنان مكلفًا في العيادات الخاصة، في حين تؤمن الدولة وبعض الجمعيات غير الحكومية والأحزاب مراكز علاج نفسي مجاني، لكنها لا تتناسب مع الحاجة المجتمعية للعلاج، ولكل منها مشاكلها التي لا تجعلها الخيار الأمثل فعلى سبيل المثال، يغيب القطاع العام عن المشهد بالكامل، باستثناء “فريق عمل الصحة النفسية والدعم النفسي الإجتماعي” الذي أنشأته وزارة الصحة العامة بالإشتراك مع “اليونيسيف” وهو يعمل على التواصل والتنسيق مع المراكز والجمعيات غير الحكومية، وثلاث مستشفيات حكومية مخصصة للأمراض النفسية، وأشياء لا تتعدى 1 % مما يتطلبه الوضع. أما على صعيد عمل المنظمات غير الحكومية فهو أيضا عاجز عن تلبية الحالات كافة، فقد يضطر الفرد للانتظار مدة طويلة قبل الحصول على المساعدة اللازمة، اما المراكز التابعة للأحزاب فقد لا تكون الخيار الأمثل للبعض.
ضغط كبير
هناك ضغط كبير على الجمعيات التي تقدم خدمات نفسية مجانية، بسبب ارتفاع تكلفة العلاج في العيادات الخاصة، وتدهور الحالة النفسية العامة للمجتمع بفعل الأزمة، بالإضافة لإزدياد الوعي لدى الناس حول أهمية الصحة النفسية. تقدم “امبرايس” نوعين من الخدمات، الأول هو العلاج النفسي الكلامي، والعلاج عبر الأدوية، لكن لائحة الإنتظار مزدحمة، وقد يضطر الفرد للإنتظار لبعض الوقت. هناك استثناءات لحالات يقدّر الفريق فيها أن هناك خطورة أعلى لإقدام الفرد على الإنتحار، وهناك الخط الساخن للوقاية من الإنتحار والدعم النفسي “1564” وهو مفتوح على مدار الساعة. من ناحية أخرى، وهذا ما لا يعلمه كثيرون أن وزارة الصحة بدأت دعم بعض المستوصفات في مناطق متعددة في لبنان، وأصبح هناك اطباء ومعالجون نفسيون يقدمون خدمات صحية مجانية داخلها.
يعد العلاج النفسي في لبنان مكلفًا في العيادات الخاصة، في حين تؤمن الدولة وبعض الجمعيات غير الحكومية والأحزاب مراكز علاج نفسي مجاني، لكنها لا تتناسب مع الحاجة المجتمعية للعلاج، ولكل منها مشاكلها التي لا تجعلها الخيار الأمثل
تعرض اللبنانيون للعديد من الصدمات والأحداث التي تؤدي بشكل مباشر وغير مباشر إلى الإصابة بأزمات نفسية حادة، أبرزها وأكثرها انتشارًا هو اضطراب ما بعد الصدمة، وهي حالات قد تؤدي في النهاية إلى الإنتحار، بداية بالحروب السابقة ووصولًا إلى الأزمة الاقتصادية الخانقة وانفجار المرفأ وكل ما تبعهم من تداعيات. لم يتم التعامل بأي مرحلة من المراحل بجدية مع الأمر، وهذا ما تتحمل مسؤوليته الدولة، التي تسببت بالأزمات، ولم تقدم أي مجهود حقيقي لتحسين القطاع الصحي النفسي في لبنان.
من جهة أخرى، أثرت الأزمة على طبقة كاملة خسرت قيمة ممتلكاتها واصطدمت بغلاء معيشي فاحش وصعوبة في تأمين الاحتياجات اليومية، كما ارتفع معدّل الهجرة والحوادث الأمنية وارتفعت معدلات الجريمة، مع عجز كامل على إحداث أي فرق أو تغيير، سواء من خلال التظاهرات أو التحركات القانونية او الانتخابات حتى، وكثير من المشاكل التي خلقتها الأزمة وكان لها أبعاد عاطفية ونفسية كبيرة على الناس، وهو ما قد يصل بالمتضرر إلى حد انهاء حياته هربًا من الواقع المستجد الذي لم يجيد التعامل معه أو تقبله.
تقول جويل إنّ الدراسات لا تشير إلى أن الأزمة هي مسبب مباشر، لكن ما تخلقه من تداعيات نفسية خطيرة على الفرد، لا سيما في الحالات التي خسرت ثرواتها بشكل مباشر لا تدريجيًا، أو عند بلوغ الفرد المسؤول عن عائلته إلى الحد الذي لا يستطيع تأمين قوت يومه. وتضيف: “هذه الحالات والوضع العام يؤديان إلى ارتفاع القلق والتوتر والعجز واليأس لدى الأفراد، وهذا ما نسميه ب “عوامل الخطر” التي تزيد من فرصة إقدام الأشخاص المهيئين بيولوجيًا على الإنتحار، هربًا من الواقع المرير، فالأشخاص الذي يقدمون على الإنتحار هم أشخاص وجدوا أن الموت أهون من تحمل مشاق الحياة، وهم لا يرون أي أمل في نهاية المطاف، لا سيما في ظل تواجدهم في بلد لا يعطيهم أي مؤشرات لاحتمالية تحسن الوضع”.
إحصاءات غير كاملة
كما يجب الأخذ بعين الإعتبار أن الأزمة التي طالت كثيرين، جعلت من الصعب أيضًا على البعض الانتباه لما يمر به المحيطين بهم، وقد يبدي الراغب بالانتحار بمؤشرات قد تكون واضحة للمقربين منه لكنهم يعجزون عن فهمها لأنهم يمرون أيضًا بحالة نفسية غير مستقرة، أيًّا كان شكلها، أو لافتراضهم أن ما يمر به الآخر مشابه لما يمرون به وربما هو طبيعي في ظل كل الظروف التي يمر بها البلد.
الإنتحار بخصوصيته مسألة حساسة ينبغي التعامل معها بحذر شديد ودراستها بشكل معمق ودقيق أكثر، وإيلائها اهتمامًا خاصًا لتجنب خسارة المزيد من الأرواح، ولإنقاذ ضحايا محتملين قد يكونون ضمن دوائرنا الصغرى دون أن ندرك. وأن الارقام والحالات المسجلة غير كاملة لاعتبارات عديدة منها عوامل دينية أو اجتماعية قد تمنع العائلة من نشر الحادثة، لذا يمكن القول إن المسألة قد تحمل بعدًا أخطر بكثير مما تبدو عليه، وهذه مسؤولية كبيرة يجب على جميع الأطراف المعنية تحملها، بداية من الدولة وصولًا إلينا كأفراد.
“اندفاع البشر فطريًا هو نحو الحياة لا للموت، ولو لم يكن الأمر كذلك لأقدم الناس على الإنتحار لأهون الأسباب. علينا كأفراد أن نقول للآخر الذي نرى لديه عوامل خطر بأننا نشعر به ونعي ما يمر به، ومن الضروري أن ننصحه بالحصول على مساعدة اخصائي، كما علينا أن لا نتجاهل ما نمر به من عوارض ومؤشرات غير صحية” تختم جويل كلامها.