الانتخابات البلدية والاختيارية بين الحصول والتأجيل
بين التأكيدات التي يطلقها وزير الداخلية والبلديات القاضي بسام مولوي بين الحين والآخر، والظروف الكارثية التي يشهدها لبنان في أوضاع غير مسبوقة، تقف الانتخابات البلدية والاختيارية في “عنق الزجاجة” بين الحصول والتأجيل، بين البقاء في حال الاهتراء الذي بلغته المجالس المحلية على مدى سبع سنوات، أو الخروج منها نحو مجالس جديدة تراعي المتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية على حدٍّ سواء.
ورغم “المآسي” التي يعيشها اللبنانيون على أكثر من صعيد، تظل الانتخابات البلدية والاختيارية فرصة للتعبير عن حال الرفض التي بلغها المواطن إزاء الطبقة الحاكمة، كبرت دائرتها أو صغرت، وفرصة لتجديد الدماء في المجالس المحلية لتواكب الظروف القاسية لاسيما على الصعيدين الانمائي والاجتماعي، ويرى اللبناني فيها مساحة لإبداء رأيه وممارسة دوره في المحاسبة عما آلت إليه أوضاعه ولو على مستوى بيئته وبلدته.
بعد التأجيل الأول الذي حصل السنة الماضية لأسباب تتعلق بتضاربها مع الانتخابات النيابية آنذاك، بالإضافة إلى شحّ في الإمكانيات اللوجيستية والمادية وصعوبة إجراء الاستحقاقين في فترة زمنية وجيزة، تقف الانتخابات البلدية على مفترق طرق أمام حتمية الإجراء أو مرارة التأجيل والتمديد للمجالس الحالية، من دون الأخذ بعين الاعتبار أن ما يزيد عن (110 بلديات) صارت محلولة وفي عهدة القائمقام المعني، عدا عن استحداث 27 بلدية جديدة ليصبح العدد الاجمالي للبلديات في لبنان (1055 بلدية).
ما يزيد عن 110 بلديات صارت محلولة وفي عهدة القائمقام المعني، عدا عن استحداث 27 بلدية جديدة ليصبح العدد الاجمالي للبلديات في لبنان 1055 بلدية.
الطائف واللامركزية
أثناء المناقشات التي أفضت إلى توقيع وثيقة الوفاق الوطني في مدينة الطائف السعودية سنة 1989، راعى المشرّعون مسألة اللامركزية الإدارية وأولوها الإهتمام اللازم، ليقينهم أن اعتماد هذا المنحى سيؤمن الإنصهار الوطني الحقيقي ويساهم في الحفاظ على مبدأ العيش المشترك، عدا عن ضرورتها لتحقيق الإنماء المتوازن خصوصًا مع توسيع صلاحيات المحافظين والقائمقامين والبلديات بهدف خدمة المواطنين وتلبية حاجاتهم إداريًا وإنمائيًا والتخلّص من عبء الرتابة الادارية التي تتحكم بمفاصل السلطة المركزية.
وقد نصت الفقرة (4) من المادة الأولى في الباب رقم (3) تحت عنوان “إصلاحات أخرى” على “اعتماد اللامركزية الإدارية الموسعة على مستوى الوحدات الإدارية الصغرى (القضاء وما دون) عن طريق انتخاب مجلس لكل قضاء يرئسه القائمقام وذلك تأمينًا للمشاركة المحلية، واعتماد خطة إنمائية موحدة شاملة للبلد قادرة على تطوير المناطق اللبنانية وتنميتها وتعزيز موارد البلديات والبلديات الموحدة والإتحادات البلدية، اجتماعيا واقتصاديا بالإمكانيات المالية اللازمة”.
لم يلتفت المشرّع لهذا الأمر إلا ليقينه بأن اعتماد هذا النظام سيؤدي إلى تحسين نوعية الخدمات المرتبط تنفيذها بالمجالس البلدية، ولإزالة كل العقبات الإدارية من طريقها، وتؤدي الغرض منها في تنمية المجتمعات ودمجها شعبيًا للتخلّص من آثار الحرب الأهلية التي ضربت لبنان على مدى خمس عشرة سنة، وتساعد الأهالي على نفض غبارها والارتقاء ببلداتهم وقراهم نحو التطور والنمو البشري والعمراني.
الثقة المفقودة
لم تكن الحقبة الممتدة ما بين الـ 2016 واليوم فترة عادية شبيهة بما قبلها، لأن جملة المتغيرات التي طرأت على الشارع اللبناني تركت بصماتها على أرض الواقع، وباتت المجالس البلدية القائمة أسيرة التحركات السياسية ومفاعيلها الاقتصادية والاجتماعية وحتى الأمنية، وشكل “المجتمع المدني” على تنوعه العمود الفقري لها، خصوصًا بعدما أظهرت الانتخابات البلدية الماضية وجود شريحة كبيرة تقف خارج الإصطفافات وتقرأ في كتاب المجتمعات المدنية وتستقي حركتها منه.
أظهرت الانتخابات البلدية الماضية وجود شريحة كبيرة تقف خارج الإصطفافات وتقرأ في كتاب المجتمعات المدنية وتستقي حركتها منه.
أيضًا “المجتمع المدني” ذاته شكّل “الرافعة الكبرى” لحراك 17 تشرين الذي بدّل المشهد اللبناني 180 درجة، ولم يعد ذلك الحراك “فورة” عابرة بل حالة اعتراضية واسعة لما آلت إليه أوضاع لبنان، وبات هذا الحراك “الحاضنة” لفئة كبيرة من الشباب الذين وضعتهم القيادات السياسية أمام خيار من اثنين : البطالة أو الهجرة، لذلك فإن هذه الشريحة تجد في الانتخابات، نيابية أم بلدية، مساحة للتعبير عن رأيها والمساهمة في تكوين السلطات من رأس الهرم إلى أسفله.
وقد أثبتت الانتخابات النيابية الماضية 2022 أن الفئتين “المجتمع المدني ومجموعات 17 تشرين” موجودتان بصورة مؤثرة، وقادرتان على إحداث “الخرق والفرق” في المشهدية السياسية بشكل عام، لذلك ترى في الانتخابات البلدية المقبلة خطوات عملانية للمشاركة بفعالية فيها، سواء لمحاولة كسر حدة الاصطفافات العائلية والسياسية معًا، والولوج إلى داخل المجالس البلدية لنقل رؤياهم وبرامجهم لمجتمعاتهم لداخل هذه المجالس.
ونتيجة الأوضاع العامة والأزمة السياسية الحادة التي نعيشها على مستوى السلطات “التشريعية والتنفيذية والقضائية”، والتي أسهمت بشكل كبير بفقدان عوامل ” الثقة” الخارجية بالطبقة الحاكمة، يجد المجتمع الدولي المراقب للتطورات اللبنانية أن تجديد المجالس المحلية على وقع انعكاسات الأزمة واحتمالية تواجد هاتين الفئتين فيها بقوة، وتحوّلها إلى “أداة تنفيذية” لتقديم المساعدات للناس مباشرة بمعزل عن السلطة الحاكمة، من الممكن أن توليهما “الثقة” في ذلك.
التأجيل بدعة المتضررين
يرى البعض في لبنان أن حتمية التأجيل قائمة، إذ لا يعقل إجراء انتخابات بلدية في ظل عقم سياسي عاجز عن إجراء انتخابات رئاسية، لكن الفروقات بين الحدثين كبيرة، فلا يمكن اعتبار هذا الأمر كأنه مصيري لحقوق الطوائف، فالمجتمعات اللبنانية كافة معنية فيه وليس فئة من دون أخرى، وبالتالي وجود ضرورة لإجرائها لنزع الأفكار التقلية من الأذهانت تجاه هذا الاستحقاق بأنه غير مصيري وغير مهم.
لقد بلغ حجم الأزمات التي طرأت على المجالس البلدية منذ بداية الأزمة وصولًا إلى الانهيار الذي نعيشه مبلغًا كبيرًا، لذلك تعمد السلطة السياسية بين الحين والآخر على تسريب فكرة التأجيل لأنها تدرك مدى سوداوية نظرة المجتمع اللبناني لها، وأنها عاجزة بشكل كامل على استقطاب الناس لبلورة مجالس بلدية تناسب حضورهم، وأن الانتخابات ستكشف عوراتهم التي يحاولون التستر عليها من خلال فكرة التأجيل، لأنهم يقفون في خانة “المتضرر” من حصولها.