الباذنجان “القاعي” يقهره شحّ المياه والمكدوس يعاند المرارة

ليس صدفةً أن تَمنح بلدة القاع الواقعة في البقاع الشمالي اسمها إلى نوع من الباذنجان، فيُطلق عليه “قاعي” نسبة إلى البلدة. هذا النوع مُخصّص حصرًا لتحضير المكدوس دون سواه، وهو ما أكسب القاع شهرةً واسعة بزراعته وبكميّات كبيرة وجودة عالية، فالمساحات التي زُرعت بالباذنجان في القاع ومشاريع القاع وفق رئيس تعاونيّة “سوى” الزراعيّة طارق طعمة هذا العام تُقدّر بنحو 2750 دونمًا.

وعلى الرغم من ذلك، “تبقى تلك المساحات أدنى بنسبة 30 في المئة عن المساحات المزروعة في الأعوام السابقة، وهي لا تكاد تكفي السوق المحلّيّة، فيُباع الإنتاج بأسعار تفوق أسعار أسواق الجملة كونها بالكاد تكفي المعامل الموجودة في البلدة” بحسب طعمة.

المكدوس سيّد المؤونة البعلبكيّة

المكدوس الذي يُحضّر من نوع خاص من الباذنجان هو أحد ركائز المؤونة البعلبكيّة والبقاعيّة وسيّدها، ولا يخلو منه بيت في المنطقة. فمع حلول شهر آب (أغسطس) من كلّ عام، تُعدّ السيّدات البقاعيّات بعامّة والبعلبكيّات بشكل خاصّ، عدّتهنّ للبدء بإعداد المكدوس.

الباذنجان “القاعي” المخصص لتحضير المكدوس

هذا العام، واجهت زراعة الباذنجان تحدّيات كثيرة، أبرزها شحّ المياه والجفاف اللذان انعكسا بشكل سلبي على ريّ المزروعات وبالتالي على تحضير المؤونة، وعلى النساء اللواتي يخضن رحلة البحث عن باذنجان بمواصفات مناسبة.

تحتاج زراعة الباذنجان إلى ريّ بشكل شبه يوميّ، لكن وبسبب شحّ المياه هذا العام، اضطرّ المزارعون إلى التقنين في الريّ، ما أثّر على جودة الباذنجان وتحديدًا مذاقه الذي يميل بسبب قلّة الريّ إلى المُرّ.

مزارعو بعلبك يبكون مزروعاتهم

يتحدّث المزارع ميلاد عوض من بلدة القاع، عن معاناته هذا العام مع زراعة الباذنجان. فهو يزرعه بمساحات كبيرة، ويعتمد عليه كمصدر رزق في عيشته. أمّا ما حصل معه هذا العام، فمع بداية فصل الربيع، زرع نحو 45 دونمًا من الباذنجان، لكن وبسبب شحّ المياه وتدني كمّيّات الماء المتوافرة لديه، لم يستطع أن يستمرّ في ريّ المساحة كلّها، فاكتفى بإنقاذ 12 دونمًا فقط، وترك البقيّة عرضة للتلف.

يشير عوض إلى أنّ “زراعة الباذنجان هذه السنة كانت صعبة جدًّا وكلفتها عالية أيضًا. يتابع لـ”مناطق نت”: “أملك ثلاث آبار ارتوازيّة وجميعها جفّت، لذلك لجأت إلى إنشاء بركة مياه اصطناعيّة، بكلفة بلغت نحو 5000 آلاف دولار، وعلى الرغم من ذلك، لم يؤدِّ ذلك إلى حلّ المشكلة، بل إلى جزء منها، وذلك بسبب المسافة الطويلة بين بركة المياه والأراضي المزروعة”.

حال عوض ليست استثناءً، بل هي حال كثير من المزارعين في بلدة القاع ومشاريع القاع المحاذية لها، إذ اضطرّ عديد من المزارعين إلى ترك جزء كبير من مزروعاتهم دون ريّ، من أجل إنقاذ جزء منها. وبحسب عوض “فإنّ من زرع 15 دونمًا من الباذنجان، اضطرّ إلى التضحية بـ 10 دونمات من أجل الحفاظ على الخمسة رضوخًا أمام شحّ المياه.

حقول الباذنجان في القاع (تصوير عبير شمص)
تقلّص المساحات المزروعة

يعزو طعمة سبب تقلُّص المساحات المزروعة في القاع إلى عوامل مختلفة، أوّلها نقص المياه، وهو ما يحتاجه الباذنجان بكثرة. ويقارن طعمة بين ما يحتاجه الباذنجان وسواه من مياه فيقول: “تحتاج البندورة إلى ساعتي ريّ يوميًّا، بينما يحتاج الباذنجان إلى خمس ساعات وذلك وفق نظام الريّ الحديث الذي يعتمد التنقيط بمعدل أربعة ليترات في الساعة، والعامل الثاني يتمثّل في نقص اليد العاملة في القطاع الزراعيّ بسبب عودة عدد كبير من السوريّين إلى بلادهم”. وأشار طعمة إلى أنّ الباذنجان يحتاج إلى عدد كبير من العمال خلال عملية القطاف.

عن كمّيّة إنتاج الدونم من الباذنجان يقول طعمة إنّ متوسّط الإنتاج يراوح بين 3000 و3500 كيلوغرام لكلّ دونم.

إنتاج ضئيل وأسعار مرتفعة

يُعدّ إنتاج الباذنجان متدنّيًا هذا العام قياسًا بالأعوام السابقة، وهو أمر بديهيّ في ظلّ النكسة التي أصابت القطاع الزراعيّ، وتمثّلت بشحّ المياه نتيجة الجفاف، الأمر الذي دفع عديدًا من المزارعين إلى التوقّف عن الزراعة بسبب الكلف العالية لتأمين المياه. وفي هذا الإطار يلفت عوض إلى أنّ “نحو 70 في المئة من المساحات المزروعة باذنجان يَبِست هذا الموسم لعدم وجود مياه كافية”.

عوض: بلغ سعر الكيلوغرام الواحد من الباذنجان نحو 25 ألف ليرة لبنانيّة، لكن في الأسبوع المنصرم، ارتفعت أسعاره إلى 35 ألف ليرة

عن أسعار الباذنجان “القاعي” المخصّص للمكدوس يشير عوض إلى أنّ “الأسعار بدأت ‘ميّتة‘ ولا تغطّي كلفة المزارع ولا تفيه تعبه، بحيث بلغ سعر الكيلوغرام الواحد نحو 25 ألف ليرة لبنانيّة، لكن في الأسبوع المنصرم، ارتفعت أسعاره إلى 35 ألف ليرة، وفي بعض الأماكن وصل سعره إلى 45 ألفًا”. ويلفت إلى تبدّل أسعار الباذنجان بين يومٍ وآخر وتفاوت أسعاره بين بلدة وأخرى، ففي بلدات مثل يونين والنبي عثمان واللبوة، يراوح سعر كيلوغرام الباذنجان بين 50 ألفًا و65 ألف ليرة لبنانيّة.

أيتخلّى البقاعيّون عن المكدوس؟

تعلو الصرخة في ظلّ غلاء أسعار الباذنجان، إذ من المتعارف عليه أنّ مؤونة المكدوس ربّما تصل لدى العائلات الكبيرة إلى 200 كيلوغرام، الأمر الذي يجعل الكلفة عالية جدًّا، تفوق قدرة العائلات التي اعتادت تموين تلك الكمّيّة.

عن غلاء أسعار الباذنجان تتحدّث فاطمة شمص من بلدة اللبوة عن حجم مؤونتها من المكدوس كلّ عام، والتي تصل إلى قرابة 130 كيلوغرامًا. تؤكّد لـ “مناطق نت” أنّ “أسعار الباذنجان هذا العام غير مقبولة، فقد ارتفع سعر الكيلوغرام الواحد من الباذنجان إلى 50 ألف ليرة لبنانية، بينما بلغ سعر كيلوغرام الفليفلة نحو 40 ألف ليرة، كذلك ارتفعت أسعار الجوز والزيت والثوم”.

من ناحيتها تقول مريم علام من بلدة مقراق لـ “مناطق نت”: “في حال بقيت الأسعار على ما هي عليه، سأعزف عن تحضير المؤونة هذا العام، لأنّ الأمر مكلف للغاية. فتحضير المؤونة لا يقتصر على المكدوس فقط، بل هناك أيضًا الكشك واللبنة وربّ البندورة”. وتختم: “شو بدنا نلحّق لنلحّق”.

تحضير المكدوس من أساسيات تحضير المؤونة في بعلبك
الباذنجان المرّ يغزو الأسواق

صعّب ارتفاع كلف تأمين المياه لهدف الريّ الأمر على عديد من المزارعين، فلجأوا كما أسلفنا إلى تقنين الريّ، الأمر الذي انعكس سلبًا على طعم الباذنجان، فغلب عليه الطعم المرّ، وهو ما بات منتشرًا في الأسواق، وأدّى إلى تخوّف لدى الناس من شرائه.

تمضي النسوة ساعات وساعات في اختيار الباذنجان المناسب. فيقطعن مسافات بحثًا عن الباذنجان الجيّد. تقول إحدى السيدات من آل السبلاني من بلدة فلاوي في قضاء بعلبك لـ “مناطق نت” إنّ أحد المزارعين رفض إعطاءها الباذنجان وصارحها بأنّه مُرّ بسبب عدم نيله كمّيّة كافية من المياه، وأنّ معظم موسمه ذهب تلفًا، لأنّه غير صالح للمؤونة. تؤكّد السيّدة: “أنّ الخوف لديهنّ يتجدّد كلّ عام مع موسم الباذنجان، لكن هذا العام أصبح الخوف أكبر، وكمّيّة الباذنجان المُرّ في السوق كبيرة، وبالتالي الاختيار أصعب وإمكانيّة الغشّ أكبر”.

في المحصّلة، تعتبر المؤونة لدى البعلبكيّين قوت أيّامهم الشتويةّ فلا يُستغنى عنها، وهي أيضًا مصدر رزق عديد من السيّدات اللواتي يعملن في بيع المؤونة بغية كسب رزقهنّ. وبالتالي فإنّ ارتفاع الأسعار والتلف الذي تعرّض له موسم الباذنجان هذه السنة له تداعياته السلبيّة على البقاعيّين عامّة والبعلبكيّين بخاصّة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى