البعلبكيّون وانعدام أفق الهجرة.. نقيض متنفّس الجنوبيين
إذا ضاقت بك سبل العيش فعليك بالدرَك أو الجيش، هذه العبارة تلخّص حالة الشباب “البعلبكيّ” الذي يحاول تأمين “لقمة عيشه” بما تيسّر له من فرص عمل في أرض لم تسمح له كثيرًا بالتغريد خارجها، كون حزم الحقائب والسفر إلى بلاد الله الواسعة ليست خيارًا سهلًا أو مستساغًا لمن يرزحون تحت خطّ “الجيوش العاطلة عن العمل”.
بيد أنّ هجرة أبناء بعلبك- الهرمل ليست بالأمر اليسير، بعكس أبناء الجنوب الذين كانوا أوّل من اكتشف القارّة الأميركيّة منذ عقود، ناهيك بأفريقيا التي كانت ولا تزال مصدر رزق كثيرين من أبناء جبل عامل.
السفر ليس خيارًا تاريخيًّا في بعلبك
“أمّا البعلبكيّون، فلم تكن الهجرة خيارًا في ثقافتهم الموروثة، إلّا في هذا الزمن بعكس شيعة الجنوب ممّن يعود تاريخ هجرتهم بحسب أمواتهم إلى قبر لبنانيّ في ولاية ديترويت الأميركيّة لعام 1893، ناهيك بالهجرة الجنوبيّة نحو أفريقيا حتّى يومنا هذا. أمّا البعلبكيّون فلم يفكّروا بالهجرة سابقًا بحكم التصاقهم مع العمق السوريّ ووفرة الخيرات في الأرض”. وفق ما يقوله لـ”مناطق نت” المؤرّخ منذر جابر.
ويفنّد جابر العوامل المؤثّرة في عدم التآلف بين البعلبكيّين والهجرة، معتبرًا “أنّ هذا الأمر مردّه إلى ثلاثة أسباب تبدأ بالعلاقة واتّصال البعلبكيّين بالعمق السوريّ، لتمرّ بازدهار زراعة الحشيشة في العقود المنصرمة، في تلك المنطقة، لتنتهي أخيرًا بدور الروابط العصبيّة التي كان لها الدور الأبرز داخل النسيجين الاجتماعيّين الشيعيّين في كلّ من بعلبك وجبل عامل”.
وفي هذا الإطار، يلفت جابر إلى “أنّ المجتمع العشائريّ في قرى بعلبك اعتمد على زراعة الحشيشة وتلقّفته السلطة آنذلك من خلال تمييز هذه البنية الاجتماعيّة والتغاضي عن زراعة الممنوعات، إلى أن وصل بها الأمر إلى ابتكار مندوب العشائر داخل النظام ودعمهم”.
يضاف إلى ذلك، أنّه من خلال الروابط العصبيّة معطوفة على زراعة الحشيشة أصبح أبناء بعلبك يجدون ضالتهم في العمق السوريّ الذي كانت سلعه أقلّ ثمنًا من لبنان. وبالتالي لم يعد لخيار الهجرة أيّ أهمّيّة في داخل البنى العشائريّة.
وضع جنوبي مختلف
وبالعودة إلى الروابط العصبيّة، يلفت جابر إلى “أنّ المهاجرين إلى أميركا من البعلبكيّين في ما مضى لم يتعدّوا أصابع اليد الواحدة، مع التأكيد أنّهم ليسوا من أبناء العشائر الذين يعتمدون على دورة إنتاجهم الخاصّة”.
وبمقارنة مع الواقع الجنوبيّ، يغلّب جابر الروابط العصبيّة والحدوديّة على أيّ شيء آخر. شارحًا “أنّ هجرة الجنوبيّين نحو القارّة الأميركيّة بلغت ذروتها مع إقفال باب فلسطين أمام العمالة اللبنانيّة بعد نكبة العام 1948. فبعد ذلك التاريخ سافر أوّل مهاجر جنوبيّ إلى ولاية “سولت لاك سيتي” وكرّت سبّحة المهاجرين نتيجة الروابط العصبيّة إلى أن وصل عدد أبناء مدينة بنت جبيل وحدهم إلى حوالي 20 ألف مهاجر. أمّا البقاعيّون فلم يجدوا في الهجرة ملاذًا لعدم وجود أرضيّة عائليّة لهم هناك كما حصل مع أبناء الجنوب”.
من خلال الروابط العصبيّة معطوفة على زراعة الحشيشة أصبح أبناء بعلبك يجدون ضالتهم في العمق السوريّ الذي كانت سلعه أقلّ ثمنًا من لبنان. وبالتالي لم يعد لخيار الهجرة أيّ أهمّيّة في داخل البنى العشائريّة.
تفرّغ في الحزب أو بطالة
وبعيدًا من السرديّة التاريخيّة، ليس سرًّا أنّه مع استفحال الانهيار الاقتصاديّ، منذ العام 2019، ووقف التفرّغ في الأجهزة الأمنيّة من جيش وقوى أمن داخليّ حلّت الهزائم على الشباب غير المتحزّب، لأنّ “متفرغي حزب الله في قرى بعلبك اليوم هم من البرجوازيّات المستحدثة” نتيجة تنعّمهم بقبض الدولارات الطازجة. أمّا الآخرون فلا حول لهم ولا قوّة سوى بالاتّكال على الله”.
فؤاد نموذجًا
يُشرّح فؤاد، مهندس الجيولوجيا، العاطل عن العمل واقع الدرب المسدود الذي يسلكه أبناء قرى بعلبك المستقلّين عن “حزب الله”، فيقول لـ”مناطق نت”: “يتوجّب على كلّ مبنى يزيد على ثلاث طبقات الحصول على ترخيص من جيولوجيّ بعد فحص التربة، أمّا في البقاع الشماليّ فلا وجود لهذه الخطوة لأنّ غالبيّة المباني منشأة على أراض غير مفرزة وبالتالي شيّدت بدون ترخيص”.
ومن هذه الحالة الخاصّة ينتقل هذا الشاب، إلى ما بقي لديه من خيارات عامّة، والتي يأتي خيار السفر في أولويّتها. “بيد أنّ أبواب الخليج موصدة بوجهه بسبب التشدّد في إعطاء أذونات السفر للبنانيّين”، والكلام لفؤاد.
ليس سرًّا أنّه مع استفحال الانهيار الاقتصاديّ، منذ العام 2019، ووقف التفرّغ في الأجهزة الأمنيّة من جيش وقوى أمن داخليّ حلّت الهزائم على الشباب غير المتحزّب
وفي إطار انعدام فرضيّة السفر ذاتها، لم يبقَ أمام شباب البقاع الشماليّ سوى خيار السفر إلى أفريقيا، لكنّ هذه الفرضيّة أيضًا تحتوي على صعوبات تتعلًق بمدى حاجة السوق الأفريقيّ لهذه المؤهّلات بالدرجة الأولى، وفقدان صلات التواصل مع هذه الأسواق بسبب ضعف الهجرة البعلبكيّة إلى هناك.
السفر خيار من عزة النفس
الطريق المسدود لم يترك خيارًا أمام الهاربين من الواقع، سوى التعلّق بجانح أوّل طائرة تهبط في القارّة الأفريقيّة، مثل فهد الحائز على ماجيستير في برمجة الكومبيوتر، الذي هاجر إلى أفريقيا براتب بخس مقارنة مع حزمة الرواتب السابقة للأزمة اللبنانيّة. فحزم حقيبته مفضّلًا العمل بغير تخصّصه على البقاء في منطقة تفتقر لأبسط مقوّمات الحياة.
بكوميديا سوداء، يقارن فهد نفسه بزملائه الصامدين في مقارعة البطالة، فيقول لـ”مناطق نت”: “لا خيار لي سوى السفر علَّني يومًا ما أعود إلى اختصاصي في مكان ما من هذا العالم، فالقوى المسيطرة على البقاع حرمتنا حتّى من أمل العمل باختصاصنا، إنّها أحزاب المنظمومة التي تقول إمّا تعمل معي أو لا تعمل مطلقًا. فبين الطريق المسدود، والانتظار، ربّما اخترت الهروب إلى الأمام، وليفعلها من يستطيع”.
ربّما تحاكي حالة شباب بعلبك-الهرمل غير الحزبيّين حالة بلد في طور الارتطام، لكن ما يميّز هؤلاء هو تعلّقهم بحبال نجاة ما تيّسر من خيارات الهجرة غير المستندة إلى البنى العصبيّة تطبيقًا للمقولة الشعبيّة “الغريق بيتعلّق بقشّة”.