البقاع الخصيب.. أرض الأنبياء والأولياء والصالحين
وُصفت بلاد الأرز في “أيديولوجيا الأدوار والأرض الطوباوية” (2011) التي كتب عنها د. زاهي ناضر، بأنها أرض الأنبياء والأولياء والمقامات. فعلى امتداد جغرافيته الصغيرة نجد وفرة من المزارات والمشاهد، ولا تخلو قرية أو بلدة منها. المزار أو المقام أو المشهد أو الضريح، هو بناء يُبنى فوق مكان دفن أحد الأنبياء أو أحد الأولياء الصالحين أو مكان صلاتهم وإقامتهم، يكون الولي معروفاً بسيرته الحسنة وصلاح أعماله. فلبنان مذكور في الكتاب المقدس وكذلك فينيقيا ومدن الساحل صيدون وصور مرات عدة.
البقاع “أرض قداسة”
والرحالة الغربيين الذين زاروه وضعوا ذلك في إطار الحج الى الأراضي المقدسة والأماكن المباركة. والأمر نفسه مع المتصوفة المسلمين الذين وطئوا أرضه، ومنهم العالم الحموي والمقدسي الأصل، عبد الغني النابلسي (1739 – 1640)، كاتب “رحلة الذهب الإبريز في رحلة بعلبك والبقاع العزيز” التي قام بها في العام 1688، حيث بيّن أن من بين أسباب السير الى البقاع هو زيارة الأولياء والصالحين الذين شغلوا مكاناً معتبراً في التاريخ القديم للبشرية. واتخذ البقاع صفة “قداسة”، ولا سيّما أنه وصف مثابة “أرض الشمس”، و”بلاد المياه”.
من بين أسباب السير الى البقاع هو زيارة الأولياء والصالحين الذين شغلوا مكاناً معتبراً في التاريخ القديم للبشرية. واتخذ البقاع صفة “قداسة”، ولا سيّما أنه وصف مثابة “أرض الشمس”، و”بلاد المياه”.
ونعثر في أرجائه الفسيحة على أضرحة ومقامات مفترضة للأنبياء، نظير، شيت ونوح وسام وحام وإيليا ويوشع وغيرهم. هذا، وتبيّن الخريطة الدينية للبقاع أنه الأغنى بالمقامات والمزارات، ما يشرح لنا أسباب تقديس المؤمنين له وتعريفه بـ” أرض مقامات ومزارات الآباء والأنبياء” و”متحف الأجداد”. والحال، يدعيّ بعض الباحثين، مثل الأب مرتين اليسوعي في تأريخه للبنان (1889)، بأن آدم وأولاده سكنوا في واديه الخصيب، وأن قرية بيت لهيا في قضاء راشيا، كانت منزلاً لآدم وحواء بعد الخروج من الجنة، كما يقول. وسنركز هنا، على مقاميّن مهيبين: النبي نوح والنبي شيت.
النبي نوح
يرى المسلمون أن النبي نوح هو أول الرسل، ومن أولي العزم الخمسة، بعثه الله لما عبدت الأصنام والطواغيت، وحاد الناس عن التوحيد، وقد ذكرت قصته في القرآن في أكثر من أربعين موضعاً، وما كان من قومه، وما أنزل بمن كفر به من العذاب بالطوفان، وكيف أنجاه الله وأصحاب السفينة، ونبي الله نوح له امتيازات، فمن امتيازاته أنه أبونا الثاني، بحسب ما يروى في “قصص الأنبياء”.
وينقل د. ناضر عن بعض الباحثين اعتقادهم أن الطوفان حصل في سهل البقاع، وأن نوحاً صنع سفينته (فلكه) الجبارة في الجبل الشرقي من خشب سرو لبنان أو من أرزه الذي كان يظلل قممه وسفوحه. وبعض الرواة يعتقد أنه “امتطى غارب السفينة من عين الجر (عنجر)، وأن الحمامة التي أطلقها أخذت غصناً علامة غيض المياه من زيتون تلك الناحية الكثير منذ القدم.
ومن الروايات أن نوحاً نزل من السفينة، بعد استقرار الأرض، ومعه أولاده الثلاثة سام وحام ويافث، وكناته الثلاث أزواج أولاده، وأربعون رجلاً وأربعون امرأة، فساروا الى سفح الجبل الشرقي، وابتنوا هناك مدينة وسموها “ثمانين”، ومن المرجح أن هذه البلدة هي قرية تمنين البقاعية، ويعني اسمها “بيت الثمانين” أو “تل الثمانين”، ولذلك، يُعتقد استناداً الى هذه الرواية أن مساكن أولاد نوح كانت في وسط سهل البقاع، ومن هناك تشتتوا في العالم، ومنهم انحدرت الأمم.
قرية تمنين البقاعية، ويعني اسمها “بيت الثمانين” أو “تل الثمانين”، ولذلك، يُعتقد استناداً الى هذه الرواية أن مساكن أولاد نوح كانت في وسط سهل البقاع، ومن هناك تشتتوا في العالم، ومنهم انحدرت الأمم
وبسبب هذا الزعم سميّ وادي البقاع على مدى زمني طويل، ولا سيّما في القرون الوسطى بـ”وادي نوح”، وهذه التسمية كانت منتشرة في تلك الأنحاء. ومقامه في بلدة الكرك البقاعية وتسمى “كرك نوح” (أي حصن نوح أو مدينة نوح)، وهي اليوم قرية كبيرة في ضاحية مدينة زحلة ، أدنى سفح جبل لبنان المطل على سهل البقاع، تبعد عن العاصمة بيروت نحو 55 كيلومتراً. وكانت من المراكز العلمية الشيعية المعروفة في الشام إلى جانب مركزي جزين ومشغرة.
والمزار القائم فيها قديم جداً، ويذكر الرحالة، هنري غيز، القنصل الفرنسي، في مؤلفه” لبنان وبيروت منذ قرن ونصف القرن”(1850) (الطبعة العربية، 1948، بترجمة مارون عبود) إن آثار المقام ترقى الى عصرين مختلفين، فقد زار جامعه الكبير عدد من السلاطين والخلفاء من حقب مختلفة، وتم تخليد ذلك في النقوش على الجدران، وبني الجامع بحجارة البنيّان القديم. أما الضريح فمشيّد في غرفة طويلة تتناسب مع اللحد، الذي لا يزيد طوله على الواحد وثلاثين متراً، أما عرضه فمتر وخمس وخمسون سنتمتراً. وكان له أوقاف كثيرة ضاعت بتقلب الأيام. والإعتقاد أن مدافن أبنائه لا يمكن أن تكون بعيدة عنه، ومن إمارات ذلك، أن قرية حام القريبة من تلال بعلبك تنتسب الى حام بن نوح، وتضم ضريحه في مكان يحمل اسم “مقام النبي حام”، وتحتضن بلدة شمسطار “مقام النبي سام”.
النبي شيت
ويميّز الموروث الديني النبي شيت (هبة الله) عن غيره من الأنبياء الأولين، ويعده من أبرز وجوه الصالحين، فهو وصي أبيه آدم وصارت الرياسة اليه من بعده، وارتبط اسمه بالصدق والوفاء والإستقامة. وقد ورد ذكر نبي الله شيث في روايات وأحاديث عدة لما له من الفضل وعظيم الشأن، نذكر منها قول رسول الله (ص): أنزل الله تعالى على شيث (ع) خمسين صحيفة، وعلى أدريس ثلاثين صحيفة، وعلى ابراهيم عشرين صحيفة. وله مزارات ومقامات في كثير من المناطق اللبنانية، وكثير من القرى ترتبط باسمه: “جبشيت” (أي قبر شيت)، و”برعشيت” (مقام شيت)، و”حدشيت” (تاج شيت)، و”عدشيت” (موسم شيت)، و”عمشيت” (أهل شيت)،…ألخ.
يقع مقام النبي شيث (ع) في “بلدة شيت” وسط شرق سهل البقاع، على السفح الغربي لسلسلة جبال لبنان الشرقية. وتعلو عن سطح البحر 1220 متر. وتبعد عن العاصمة بيروت حوالي 71 كلم. وقد تحدّث الفقيه عبد الغني النابلسي عن المقام ويذكر فيه أنه زاره في العام 1689. ويقال أن هناك وقفيةً تنصّ على أن أحد المحسنين وهو محمد العُصي جعل قسمًا كبيراً من أراضيه وقفاً لمقام النبي شيث (ع) في السادس عشر من ذي القعدة للعام 518 ( القرن الثاني عشر الميلادي)، وقد نُقش على الوقفية النص الآتي: “إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر، لمّا كانت سنة اثنتا عشرة بعد الألف من شهر ربيع الأول، شيّدت مقام النبي المبارك، مُحسنة غفر الله لها ولوالديها”.
ووفاقاً لهذا الأثر، فإن المقام شُيّد منذ أكثر من 400 سنة، بتبرّع من فاعلةِ خير، ليشهد المقام بعد ذلك أعمالَ توسعة وتحسين عِدّة. وهناك زيارة خاصة بالنبي شيث (ع)، وفيها: “السلام عليك يا نبيّ الله شيث، يا هبة الله، السلام عليك أيها النبي الكريم، والعبد الصالح، السلام عليك يا ابن آدم ووصيه ووارث علمه، والقائم مقامه، السلام عليك يا ابن حواء أم البشر على السواء، السلام عليك يا أبا الأنبياء، السلام عليك يا أوّل الأوصياء، السلام عليك يا محلّ الرجاء، السلام عليك يا من خاطبك جبرائيل، أن الله خصك منه بأمر جليل، السلام عليك وعلى أنبياء الله المرسلين، السلام عليك وعلى عباد الله الصالحين، السلام عليك وعلى ملائكة الله المقربين ورحمة الله وبركاته”.
والحال، يُنقل عن الفيلسوف الألماني، هيغل (1831- 1770)، قوله :”إن الدين هو أحد أهم تجليّات روح الشعب”، ويعبر الناس عادة عن تدينهم وورعهم في طقوس وشعائر وممارسات، أبرزها تلك التي تقيم صلة مع المقدس وتعبيراته، في الصلة الحارة والملموسة مع أنبيائه ورسله وأصفيائه، بتوسلهم وطلب شفاعتهم في الحياة الآخرة.