البقاع يجدد مواسم النزوح واللاجئون بعشرات الآلاف
موجة لجوء ونزوح مزدوجة وعكسيّة وجديدة شهدتها منطقة بعلبك الهرمل بُعيَد ساعاتٍ من سقوط نظام الأسد في سوريّا، والتي رافقها بلبلةٍ وفوضى، حيث شهدت عديد من المناطق السوريّة، حركةً كثيفةً من عودة اللبنانيّين المقيمين في سوريّا، إذ عاد الآلاف منهم إلى لبنان عبر معبريْ حمص – الهرمل والمصنع السوريّ اللبنانيّ.
النزوح لم يقتصر على اللبنانيّين المقيمين في سوريّا فحسب، بل تعدّاهم إلى سوريّين مؤيّدين للنظام، شعروا بالخطر على حياتهم فنزحوا أيضًا، ومعهم تحوّل البقاع الشماليّ تحديدًا إلى أرض نزوح ولجوء تتجدّد مواسمها باستمرار، منذ العام 2011 وحتّى اليوم، إذ لا تخلو بلدة أو قرية في محافظة بعلبك الهرمل بما فيها مدينة بعلبك، من نازحين سواء كانوا لبنانيّين من القرى اللبنانيّة الواقعة في الداخل السوريّ، أو أولئك الذين كانوا يقيمون في دمشق وحمص وغيرهما أو سوريّين نزحوا أيضًا.
معبر الهرمل
تشير معلومات حصلت عليها “مناطق نت” إلى أنّه ما بين 35 إلى 50 ألف عائدٍ ونازحٍ لبنانيّ وسوريّ دخلوا الأراضي اللبنانيّة خلال أيامٍ قليلةٍ وانتشروا على امتداد محافظة بعلبك – الهرمل. إذ استقبلتهم قرى وبلدات في المنطقة كالهرمل والقاع والعين واللبوة وزبّود ورأس بعلبك بعد أن جرى تأمين مراكز إيواء لهم في الحسينيّات والمساجد، وكذلك، في المنازل.
يعود الرقم المرتفع لأعداد النازحين إلى دخول أعداد كبيرة من اللبنانيّين والسوريّين من الأراضي السوريّة والأماكن الحدوديّة من جهة مدينة الهرمل التي وصلها نحو 5000 نازح و5000 آخرون وصلوا إلى بلدة القصر في قضاء الهرمل، وهم من عائلات: زعيتر والهق وناصرالدين ومدلج الذين أتوْا من القرى الحدوديّة مثل حاويك وزيتا والصفصافة ووادي حنّا والديابيّة والعقربيّة وسواها. في حين أن النزوح السوريّ كان من حمص إلى قرى وبلدات الهرمل واللبوة والعين. فضلًا عن أنّ بعضهم نزح من محافظات اللاذقيّة وطرطوس وحماه ومدينتيْ نبّل والزهراء وذلك عبر معابر الهرمل.
ما بين 35 إلى 50 ألف عائدٍ ونازحٍ لبنانيّ وسوريّ دخلوا الأراضي اللبنانيّة خلال أيامٍ قليلةٍ وانتشروا على امتداد محافظة بعلبك – الهرمل
نازحو بلدة العين
ولقد استضافت بلدة العين في البقاع الشماليّ عددًا كبيرًا من النازحين السوريّين الذين توزّعوا على منازلها (حوالي 600 نازح) وستة مراكز إيواء (ثلاث حسينيات وثلاثة مساجد)، وهم جميعهم من نازحي حمص وحماه وحلب. وبحسب عبّاس دبّوس أحد أعضاء لجنة الأهالي الموكلة إليها متابعة موضوع النزوح أنّ عدد الذين استضافتهم البلدة من النازحين يقدّر بحوالي 1700 نازحٍ، ويشير لـ “مناطق نت” إلى أنّ “هؤلاء النازحين لا يعرفون، حتّى الآن مصيرهم خصوصًا وأنّ مراكز الإيواء العامّة لهم غير مجهّزة بوسائل السكن وعدم توافر المراحيض والتدفئة وغيرها من المستلزمات الضروريّة”.
ويدعو دبّوس الجهات المعنيّة إلى “المساعدة والعمل من أجل تأمين مراكز لائقة بالنازحين في ظلّ الأوضاع السيّئة التي يمرّون بها.”
يؤكّد عدد من النازحين السوريّين إلى بلدة اللبوة والذين أتوا من مدينة حمص السوريّة لـ “مناطق نت” أنّهم قدموا إلى لبنان مع عائلاتهم على عجل، فلجأوا إلى بلدة زيتا على الحدود اللبنانيّة في بداية الأمر، ثمّ غادروا المنطقة ضمن طابورٍ من السيّارات كان متوجّهًا إلى لبنان حتّى وصل إلى بلدة اللبوة اللبنانيّة وجرى توزيعهم على منازل البلدة وحسينيّاتها.
إعادة اللبنانيّين إلى قراهم
قضية إعادة اللبنانيّين النازحين إلى قراهم الحدوديّة في الداخل السوريّ، بدأ العمل عليها سريعًا وضمن مساعٍ حثيثةٍ من جهاتٍ عدّةٍ، وفي هذا الإطار يقول الدكتور علي زعيتر رئيس فرع الصليب الأحمر اللبنانيّ في الهرمل والذي يتولّى ملفّ عودة النازحين اللبنانيّين إلى بلداتهم الحدوديّة الواقعة في الداخل السوريّ، “إنّ هناك مبادراتٍ كثيفةً تجري على قدمٍ وساقٍ من أجل إعادة الآلاف من النازحين اللبنانيّين إلى أماكن سكنهم، كي يعودوا لعيشهم السابق لأنّ أوضاعهم الحاليّة في هذه الظروف سيّئة”. ويشير لِـ “مناطق نت” إلى أنّه يبذل جهودًا كبيرةً مع عددٍ من الجهات المعنيّة بالأمر هناك، ويأمل “أن تصل الأمور إلى خواتيمها السعيدة من أجل حفظ كرامة الناس”.
معبر المصنع السوريّ اللبنانيّ
اختلف مشهد النزوح عبر المصنع السوريّ اللبنانيّ عنه قياسًا على المشهد عبر معبر حمص – الهرمل، من حيث الزمن وسرعة النزوح. فقُبيْل سقوط النظام بساعاتٍ قليلةٍ، بدأت تتوافد إلى لبنان العائلات اللبنانيّة التي تسكن في سوريّا منذ عقودٍ، وتلك التي سكنت الشام بعد الحرب السوريّة بسنواتٍ قليلةٍ. هذا التوافد أو الترحيل جاء بعد قراراتٍ سريعةٍ من قبل المعنيّين بالوجود اللبنانيّ في سوريّا، اتُّخذت على عجلٍ جرّاء الأحداث السياسيّة الخاطفة التي طرأت وقضت بوجوب مغادرة اللبنانيّين البلاد دون تباطؤ مع ترك كلٌ شيءٍ هناك باستثناء الأغراض الشخصيّة نظرًا إلى التطورات المتسارعة.
ومن يومها تشهد نقطة المصنع السوريّ – اللبنانيّ وبشكلٍ متلاحقٍ، حركة عودةٍ كثيفةً، يوميًّا، يُسجّل خلالها قدوم الآلاف من اللبنانيّين. وبحسب مصادر خاصّةٍ لـ “مناطق نت” فإنّه سُجّل دخول نحو 4000 لبنانيّ قادمين من سوريّا عشيّة سقوط النظام، وهؤلاء دخلوا مع إجراءاتٍ قانونيةٍّ شكليّةٍ على الحدود بعد توصياتٍ حزبيّةٍ بهم.
أمّا عن عدد القادمين اللبنانيّين من سوريّا عن طريق المصنع حتّى اليوم فتشير المصادر إلى أنّه تجاوز الـ 12 ألف قادم غالبيّتهم من القاطنين في منطقة السيّدة زينب ومحيطها. بالإضافة إلى قدوم عددٍ من العائلات الإيرانيّة التي تسكن مناطق الشام والي قُدّرت بِمئة عائلةٍ حتّى اليوم.
شهادات عائلاتٍ عائدةٍ
استطاعت “مناطق نت” التواصل مع بعض العائلات اللبنانيّة التي عادت من دمشق وسجّلت الشهادات الآتية:
سُجّل دخول نحو 4000 لبنانيّ قادمين من سوريّا عشيّة سقوط النظام، وهؤلاء دخلوا مع إجراءاتٍ قانونيةٍّ شكليّةٍ على الحدود بعد توصياتٍ حزبيّةٍ بهم.
يروي محمّد المتحدّر من بلدة شمسطار، أنّه كان موجودًا مع عائلته بسوريّا منذ خمس سنواتٍ، وهو متملّك لمنزلٍ هناك ويعمل في محلّ تجاريّ. وبين ليلةٍ وضحايا سمع بقرار الخروج الفوريّ منها، وأنّ عليه المغادرة خلال ساعاتٍ. “ما لحقت ضُبّ أغراضي، لإنّو لازم نفّذ الأمر فورًا كوني موجودًا بوجود الإخوة”.
ويضيف لِـ “مناطق نت”: “حضّرت ما تيسّر من أشياء وركبت السيارة مع عائلتي متوجّهين إلى لبنان الذي وصلت إليه عند السادسة صباحًا”. يتابع “لحسْن حظّي أنّ لي بيتًا في البقاع وبَقيَ سليمًا في الحرب، وإلّا كنت سأعاني كي أجد مسكنًا، خصوصًا بعد المحنة التي عاشها لبنان وأهله”.
ويتحدث محمّد عن وضعه في سوريّا قبل سقوط النظام ونزوحه “في الحقيقة لم أكن أعتقد أنّني سأعود إلى لبنان لا سيّما وأنّ عملي يسير على ما يرام، وكلّ أموري جيّدة في سوريّا، لكنّ ما حصل فاجأني وجعلني مربكًا حتّى الآن على الرغم من مجيئي إلى بيتي، لكنّني مصدوم ممّا حصل”.
ويتابع “صحيح أنّني عدت إلى وطني إلّا أنّني لست سعيدًا بذلك، والسبب أنّ العمل في لبنان صعب جدًّا، إن لم نقُل إنّه معدوم، وأنا لا أستطيع العيش من دون عملٍ لأنّ لي عائلةً كبيرةً تحتاج إلى المصروف. ولم أكن في سوريّا أشعر بالحاجة كون عملي كان ميسّرًا والحياة مقبولة على عكس وطننا.” ويرى أنّ قرار العودة القسريّ ستكون له نتائج سلبيّة “على حياتنا الجديدة مما قد يؤثّر في وضعنا المعيشيّ.”
“اخترب بيتي”
أمّا حسين الذي يتحدّر من حوش الرافقة البقاعيّة، وهو مقيم في دمشق منذ 10 سنواتٍ ويعمل في التجارة ويملك شقّةً هناك، فقد شكّل له قرار العودة القسريّ من سوريّا صدمةً كبرى كما يقول “لإنّني كنت نسيان لبنان وماشي حالي تمام بسوريّا وعامل حسابي ما إطلع لإّنن قالولنا إنّو منطقة الست زينب ستكون لنا والعمل هناك ميسّر جدًّا والأمور كلّها خاضعة إلنا ومدبرين أوضاعنا بالكامل”.
محمد: في الحقيقة لم أكن أعتقد أنّني سأعود إلى لبنان لا سيّما وأنّ عملي يسير على ما يرام، وكلّ أموري جيّدة في سوريّا، لكنّ ما حصل فاجأني وجعلني مربكًا حتّى الآن
يضيف حسين لِـ “مناطق نت”: “إنّ القرار بترحيلنا من سوريّا جاء من “جماعتنا” هناك الذين أعلمونا على عجلٍ وأصرّوا على المغادرة سريعًا فما كان منّي إلّا التنفيذ لإنّني أدركت ألّا مجالًا للبقاء حيث نحن، كون سوريّا دخلت مرحلةً جديدةً ويتطلّب هذا الأمر إعادة النظر بوجودنا، لذلك لم أتأخّر في المغادرة إلى حين جلاء الأمور”.
ويشير حسين إلى أنّه وصل إلى لبنان ظهر الأحد ولم يكن قد حسم وجهته، حتّى قرّر في النهاية أن يقصد أحد أقاربه للسكن الموقّت عنده، كونه فقد بيته في الحرب ولم يبقَ منه أثر، وهو لذلك سيكون كالتائه “لن أكون مرتاحًا في منزل قريبي خصوصًا وأنّ لي عائلةً من أربعة أولادٍ وهي تحتاج إلى بيت خاصّ إذ لا يمكن أن يستوعبه بيت أحد. من هنا سأضغط كثيرَا على نفسي وأقبل بما فُرِض عليّ حتّى يعطيني الله راحةً من عنده” وفق تعبير حسين.
ويرى أنّ ما حصل لم يكن في الحسبان “حتّى أنّه لم يخطر ببال أحدٍ منّا، لذلك أستطيع القول: اخترب بيتي وضاع جنى سنواتٍ طويلةٍ في الشام ولن يستطيع أحد التعويض عليّ”.
من الدلفة لتحت المزراب
يؤكّد حسام المتحدّر من بدنايل، والذي عاد من سوريّا إلى لبنان، أنّ عدد العائدين اللبنانيّين معه من حيّ الصالحيّة في الشام إلى الوطن بلغ حوالى 300 شخصً، “هؤلاء الذين شاهدتهم بعينيْ. وطبعًا سيلحقهم مئات تباعًا كون البقاء هناك صار مستحيلًا “.
ويقول لـ “مناطق نت”: “نحن نعيش نزوحًا تلو نزوح، فاليوم ننزح من مكان نزوحنا الذي طالما اعتقدناه آمنًا على الدوام، فإذ هو كمن يهرب من تحت الدلفة لتحت المزراب حيث لا أمن ولا أمان أنّى ذهبنا وأقمنا.”
ويضيف أنّ منزله في لبنان تضرّر كثيرًا نتيجة الحرب وهو يحتاج إلى كثير من الإصلاحات والأثاث والأشياء الضروريّة، والسكن فيه غير ممكن في ظلّ عدم توافر الإمكانيّة الماليّة حاليًّا، لذلك نحن أقمنا عند أحد الأقارب ريثما نجد حلًّا.
ويرى “أنّنا كطائفة نعيش اليوم أصعب أيّامنا ولا نعرف من المسؤول عن مِحَننا وعن سبب مآسينا المتلاحقة”. يختم حسام “بأنّ ما حلّ بنا وبصورةٍ غير متوقَّعة يجب أن يكون عبرةً لنا حتّى آخر العمر، والإنسان ليس له إلّا وطنه وأهله مهما تغرّب وغاب عن الوطن، لذلك لن يحمينا ويلمّنا إلّا وطننا.”