البيوت التراثية في بعلبك تاريخها وواقعها (1)
هذا التحقيق، الذي قد يمتدّ إلى عدّة حلقات، يحاول ضمن الإمكان، رصد التحوّلات العمرانيّة والاجتماعيّة في مدينة بعلبك. يكتسب الموضوع أهمية واضحة في الفترة الحالية، وخصوصًا بعد التغيير الديموغرافي، وحتّى الاجتماعيّ، الذي طرأ على المدينة في الـ50 عامًا الأخيرة. قام بهذا التحقيق كل من د. محمّد شرف وشهيرة زعيتر، وقد ساهم كلّ منهما في ناحية معيّنة من البحث، في ما يتعلّق بالوقائع وتتابع الحوادث والمعاينة الميدانيّة والذكريات المتعلّقة ببعض المواقع.
السائر في شوارع مدينة بعلبك، هذه الأيّام، سيلحظ بيوتًا تعود إلى زمن عابر وتبدو شبه مهجورة، أو ربّما مهجورة تمامًا. ولكن، لو شئنا تحديد طبيعة المشاهد واهتماماته، لقلنا إنّ هذا الأمر يقتصر على نسبة جدّ محدودة من سكّان المدينة، في حين لا يأبه الباقون، وهم كثر، بوضع تلك المباني وأحوالها. أغلب الظنّ، بالنسبة لتلك الأكثريّة، أنّ تلك العمارات لم تعد تساوي شيئًا، إذ ثمّة فكرة سائدة تفيد بأنّ قطعة الأرض التي تقوم عليها هي التي تساوي كثيرًا، نظرًا لأنّ تلك الأبنية تقوم، في معظمها، في نقاط حسّاسة واستراتيجيّة من المدينة.
بيوت على قيد الحياة
البيوت التي بقيت “على قيد الحياة” ليست كثيرة. ونقصد هنا تلك المباني التي يعود تاريخ بنائها إلى نحو قرن من الزمن. من المعلوم، أنّ تلك المباني تعود إلى الطبقة البورجوازيّة، التي عاش أفرادها في المدينة في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، ومطلع القرن العشرين، والمقصود هنا تلك العائلات التي شكّلت نواة المجتمع البعلبكيّ في تلك الفترة. وبما أنّ بعض أفراد تلك العائلات كانوا من الميسورين، فقد امتلكوا الإمكانات المادّيّة التي سمحت لهم ببناء منازل “مترفة”، لناحية الحجم والزخرفة، قياسًا مع المساكن الشعبيّة، المنتشرة حينذاك في أرجاء المدينة.
البيوت التي بقيت “على قيد الحياة” ليست كثيرة. ونقصد هنا تلك المباني التي يعود تاريخ بنائها إلى نحو قرن من الزمن. من المعلوم، أنّ تلك المباني تعود إلى الطبقة البورجوازيّة.
أما المفارقة الغريبة، وإذ نتطرّق هنا إلى النواحي المعماريّة، هي أنّ البيوت المنتمية إلى الفئتين، أيّ البيوت البورجوازيّة (سوف نعتمد هذه التسمية في مقاربتنا) من جهة، والبيوت الشعبيّة من جهة أخرى، كانت تعرّضّت إلى هجمة شرسة ذات وجوه عدّة، ولأسباب مختلفة.
المساكن الشعبية، التي مثلّت طرق بنائها خبرة قرون، وربّما آلاف السنين، كي تتناسب مع بيئة جغرافيّة ومناخيّة معيّنة، هدمت بلا رحمة. يعود السبب في ذلك إلى الفهم السائد، القائل بأنّها صارت قديمة، ولا تتناسب مع الحياة العصريّة. ربّما كانت بعض نقاط هذا الحكم محقّة، من ناحية نسبيّة، ولكن لم تجرِ أيّ محاولات من أجل تصحيح هذا الصدع، في شكل يزيح عن هذه المساكن الصفات السلبيّة، المتعلّقة بعدم تكيّفها تمامًا مع متطلّبات الحياة العصريّة، ويحافظ على إيجابيّاتها قدر المستطاع في الوقت نفسه. ثمّة نظريّات كثيرة يدور محتواها حول هذه المسألة الهامّة، وقد تمّ تطبيقها في أماكن عدّة من العالم، وفي بعض البلدان العربيّة بالذات (تونس والمغرب مثالًا). لكنّها، للأسف، لم تطبّق في بلادنا، وخصوصًا في مدينة بعلبك، إلاّ في حالات نادرة.
بيوت البرجوازيّة
أمّا في ما يخصّ البيوت ذات الطابع البورجوازيّ، فقد كان مصيرها مختلفًا. إذ من المعروف إن هذا النوع من المباني هو في حاجة إلى صيانة شبه دائمة، حاله حال البيوت في معظمها، وإلى أيّ نوع انتمت. لكنّ هذه المباني القديمة تحديدًا تحتاج إلى معالجة بعض أجزائها أكثر من سواها، فبعض المواد، وخصوصًا الأخشاب، على سبيل المثال، تبلى مع مرور الوقت ما لم تكن من نوعيّة جيّدة.
تمّت صيانة بعض البيوت في المدينة، وخصوصًا تلك التي بيعت من قبل ملّاكها الأصليّين إلى أفراد يمتلكون الأموال اللازمة للقيام بهذه المهمّة. لكن، وللأسف، عمد بعض المشترين الجدد إمّا إلى تغيير الوجه المعماريّ للبناء، أو إلى هدم أجزاء منه، وفي الحالات القصوى إلى هدمه تمامًا. إلى ذلك، تبيّن لنا أن عديدًا من تلك المباني لا تزال حالها غامضة في الفترة الحاليّة. فالبيوت التي سلمت جزئيًّا من الهدم، وما زال وضعها معلّقًا، كما ذكرنا، تقع في معظمها ضمن ما يُسمى “مشروع الإرث الثقافيّ”، وهو المشروع الذي يغطّي المنطقة الأثريّة، ويصل حتّى متنزّه رأس العين، ويهدف إلى الحفاظ على الإرث الثقافيّ والمعماريّ.
بيوت متهاوية ومهجورة
شاءت الجغرافيا والانتشار السكّاني في المدينة أن يشمل مشروع الإرث الثقافيّ، في جزء مهمّ منه “الحيّ المسيحيّ”، وهي التسمية التاريخيّة للمنطقة الجنوبيّة من المدينة، التي تشرف واجهات بيوتها على الغرب، قبالة المعابد الرومانيّة، وذلك على مرتفع يبدأ من أقدام الهياكل صعودًا حتّى “تلة الشيخ عبد الله”.
من النافل القول إنّ عدد المسيحيّين في الحيّ، وفي بعلبك في شكل عام، الذي كان قبل بداية الحرب الأهلية وافرًا، لدرجة أنّهم مثّلوا ما يقرب من ربع سكّان المدينة (كانت النسبة أكثر من ذلك في النصف الأوّل من القرن الماضي) لم يعد كما كان عليه. ففي الوقت الحاضر تضاءل هذا العدد إلى حدّ بعيد، بحيث صار من الممكن تعداد “الصامدين” من دون جهد كبير.
باع المسيحيّون الذين تركوا المدينة بيوتهم إلى أفراد من بعلبك، ولآخرين من خارجها. بعض البيوت المباعة انتقلت إلى ملّاك جدد بـ”سلاسة”، ومن دون مشكلات تُذكر، في حين بقي مصير عمارات أخرى مجهولًا لأسباب عدّة، ويقع قسم كبير من هذه العمارات ضمن الحيّ المسيحيّ تحديدًا.
“بيت المطران نجيم”، على سبيل المثال، وهي التسمية المعروفة سابقًا للبناء، والتي تبقى سائدة أحيانًا من أجل الدلالة على الموقع، نقول إنّ هذه التسمية صارت ذكرى أكثر منها واقعًا ملموسًا. قصّة المصير المجهول تنطبق أكثر من سواها على البيت المذكور، الواقع على بعد خطوات من أوتيل بالميرا الذائع الصيت، لكونه انتقل من مالك إلى مالك غير مرّة، على نحو يدعو إلى العجب. صاحب البيت القديم هو المطران عبد الله نجيم، الذي تعرّض منذ عقود لمشكلات قانونيّة ترك على أثرها لبنان واستقرّ في روما، حيث وافته المنيّة هناك بعد حين.
باع المسيحيّون الذين تركوا المدينة بيوتهم إلى أفراد من بعلبك، ولآخرين من خارجها. بعض البيوت المباعة انتقلت إلى ملّاك جدد بـ”سلاسة”، ومن دون مشكلات تُذكر، في حين بقي مصير عمارات أخرى مجهولًا لأسباب عدّة
تحوّل المكان إلى مركز للقوى الفلسطينيّة في بدايات الحرب الأهليّة، ومن ثمّ إلى مركز أمنيّ للقوّات السوريّة، وذلك خلال وجودها في لبنان، حتّى العام 2005. اشترى البيت بعد ذلك أحد سكّان بعلبك الميسورين (لن نتطرّق هنا إلى ذكر بعض الأسماء البعلبكيّة في شكل محدّد، لكون هذا الأمر لا أهمّيّة له). من ثم بيع المبنى إلى شخص آخر، وانتقلت من بعدها ملكيّة المنزل إلى عدنان القصّار، بهدف جعله فرعًا لـ”فرنسبنك”.
لم يتحقّق هذا الهدف لأسباب لا مجال لذكرها، فكان أن بيع مرّة أخرى إلى أحد الأشخاص، ثم إلى شخص آخر، وإذ تهيّأ المالك الأخير لتدمير المنزل، ضاربًا بعرض الحائط كلّ ما له علاقة بالشأن العمرانيّ التراثيّ، أتى المنع من قبل وزارة الثقافة، فتوقّف الهدم الذي كان قد بدأ بإسقاط سقف المنزل، وبقي المبنى هيكلًا لا سقف له ولا نوافذ أو أبواب.
أصبحت من الماضي
إلى ذلك، هناك عديد من المساكن “المجمّدة” في الحيّ المسيحي لسبب أو لآخر، ومن ضمنها بيت آل كرباج، يقع في الشارع الرئيس بالقرب من الساحة القائمة أمام أوتيل بالميرا. ومنزل آخر لآل سماحة يقع على الطريق المؤدّي إلى هضبة “الشيخ عبد الله” الصخريّة. وللذكر، تمتّع هذا المنزل، كما سواه من المنازل المجاورة، خلال أزمنة ماضية، بموقع مثاليّ، إذ كان يطلّ على المعابد الرومانيّة من مسافة مئات الأمتار، ضمن بانوراما فريدة من نوعها.
لكن هذا المشهد، الذي لطالما حسدناه ممّا يتمتّع به، صار من الماضي، بعدما انتصبت عمارات خرسانيّة ذات طبقات عدّة أمامه، مشكّلة حاجزًا منيعًا. أمّا المنزل نفسه، فمهجور في الزمن الحاليّ، وثمّة أعشاب يابسة تُرى حول السلّم الحجريّ المؤدّي إليه، لتضيف إلى المشهد شعورًا بالكآبة والهجران، كشاهد على مصاب الحي الذي كان، في يوم من الأيّام، أحد أجمل أحياء المدينة، وأفضلها موقعًا، قبل أن تشمله الفوضى السائدة وتبدّل معالمه.