التشكيلي حسين ماضي يرحل بعد أن أتم واجباته
“الموت لو كان إنسانًا، كنت بتصاحب أنا ويّاه. بعاملو بلطف حتّى يكون لطيف معي، حتّى ما يغدرني ويقلّي تعا لهون، خلص الوقت”. هذا ما قاله التشكيليّ اللبنانيّ حسين ماضي قبل ستّ سنوات، إذ أفلح طوال هذا الوقت بسرد الحكايات البصريّة، ليخدّر “شهريار الموت” عن حزّ الورقة الأخيرة من روزنامة العمر، العمر الذي يراقبه ماضي بعين الصقر، ليقول في مقابلة تلفزيونيّة: “السنين حراميّة”.
لكن إذا ما دققنا بسيرة هذا المبدع، سنجد أنّه هو من سرق من السنوات فراغاتها العابرة، فسكب ألوانه على اللحظة، ليطليها بضرباته الحادّة، بلا ارتجاف. وها هو كعادته يفلسف الحال قائلًا: “إذا برجع للحياة، من أوّلها، برجع بعمل نفس المشوار. لأنّو برغم كلّ الصعوبات اللي بيمرق فيها الفنان، الحياة ممتعة، لأن الحياة مش بس فيها تلوين على اللوحة، في تلوين بالحياة بحد ذاتها”.
خارطة الرأس
لم ينتظر حسين ماضي (المولود في شبعا -جنوب لبنان سنة 1938) شهادات النقّاد بفنّه، وهُم الذين دبّجوا في مديحه ومديح لوحاته ومنحوتاته كثيرًا، غير أنه لم يرضَ بما سمعه منهم، فقال واصفًا تجربته: “اللي عملو حسين ماضي، ما حدا عملو قبلو، ولا حدا رح يعملو بعدو، والزمن هوّي اللي بيحكم”.
لا ينطق ماضي بمقولته تلك بنرجسيّة مفخّمة، إنّما بنبرة ناقد محايد، على مساحة من أعماله، ومن ذاته، مدركًا أن اللوحة ليست مجرّد سطح لونيّ، والمنحوتة ليست مجرد معدن نلويه. هناك خارطة في رأسه، تبني الأرضيّة الجدلية لألوانه الفاقعة، المؤطّرة بالأسود لإعادة ضبط فجورها المبهر، خادعًا العين بما يبدو مشهدًا عاديًا لإمرأة مستلقية على الشاطئ، بجانبها كوب عصير برتقال، يكاد يكون مضاءً لقوّة درجة لونه المشبع الثخين.
قد تقلّد طريقته، ولن تنجح في استنساخ كتالوغه السرّيّ، هو الذي استمتع بلقب “بيكاسو العرب”، كما نفر من اللقب ذاته، لأنّه يحمل ثنائيّة رفعته لمستوى نبيّ الحداثة بابلو بيكاسو، كما يقدّمه كنسخة عن آخر، أيّ آخر، وحسين ماضي يمتلك من الإعتداد بالنفس ما يكفي ليرفض التشبّه بأيّ آخر، ولو كان عظيمًا مثل ذلك الإسباني الذي كان يرسم لوحاته كثور، وماضي لم يكن أقل إنتاجيّة منه، فتشابها في الشكل الفيزيولوجيّ الخارجيّ، ونمط العلاقة بالمحترف، وبعض التقاطع بأساليب الرسم، التي كانت أكثر تلقائيّة مع بيكاسو، وأكثر هندسة عند حسين ماضي، الذي صنع مزاجه الخاص في عملية إنتاج لوحته، رفقة موسيقى عالميّة، لضرورة السلطنة، وكم كانت مكافأته مميّزة حين قامت إحدى أشهر شركات البنّ في لبنان بوضع رسوماته نقوشًا على فناجين القهوة، هديّة للذواقة الذين يشترون حبيبات المزاج.
هو الذي استمتع بلقب “بيكاسو العرب”، كما نفر من اللقب ذاته، لأنّه يحمل ثنائيّة رفعته لمستوى نبيّ الحداثة بابلو بيكاسو، كما يقدّمه كنسخة عن آخر، وحسين ماضي يمتلك من الإعتداد بالنفس ما يكفي ليرفض التشبّه بأيّ آخر، ولو كان عظيمًا مثل ذلك الإسباني الذي كان يرسم لوحاته كثور.
الإعلان التليفزيونيّ نفسه، كان يتباهى بوجود توقيع ماضي على ذلك الفنجان. وللفنجان قصّة قديمة مع ذلك اللبنانيّ في روما، ذات لحظة تحدٍّ شغوف.
اكتشاف الكنوز
في الاكاديميّة اللبنانية للفنون الجميلة، درس ذلك الجنوبيّ، على مدى أربع سنوات، من العام 1958 حتى 1962، لييمّم من بعدها شطر إيطاليا، دارسًا في أكاديميّة “بيلي آرتي”، حيث استكمل حياته، متخطّيًا السنوات الأصعب من الحرب اللبنانيّة، ذلك أنه بقي في روما بين عامي 1973 و1986، متعمّقًا في التراث العربيّ والفرعونيّ.
وهناك أنجز واحدة من أغرب جداريّاته التي ناهزت الأمتار الثلاثة، وذلك بعد شرط لطيف من صاحب مقهى يجلس فيه ماضي مع زملائه الفنّانين العرب من مصر وليبيا، حيث قال له صاحب المقهى: “ارسم على جدارنا هذا، ومكافأتك سوف تكون فنجان قهوة”! وافق ماضي على الفور، ليس طمعا في فنجان زائل، بل سرورًا باختياره من بين الرسّامين الآخرين.
ما يستحق الوقوف عنده في تجربة ماضي الإيطاليّة، أعماله المتقفّية للمنازل والطبيعة هناك، بضربات كبيرة، ومتقشّفة، كأنّه يتدرّب على التلخيص في الموضوع، والليونة في حركة الفرشاة. وكم كانت مفاجأة كبرى لذوّاقة الفنّ حين أعيد عرض تلك اللوحات، منذ خمس سنوات، في معرض استعاديّ في كاليري مارك هاشم، بعد أن كشف مازن سويد، مقتبي تلك اللوحات، عن كنوزه تلك، التي فاجأت الجمهور كما حسين ماضي نفسه، الذي لم يكن قد شاهد لوحاته تلك منذ نصف قرن، وقد ترافق العرض، مع إصدار ألبوم خاص، بأعداد قليلة، ومرقّمة، يتضمّن نسخًا عن تلك الاعمال.
الإطلالة اللبنانية
في لبنان، كانت الولادة الثانية لحسين ماضي، في العام 1986، ليبدأ كاستاذ في معهد الفنون الجميلة، ثم رئيسًا لجمعيّة الفنانين اللبنانيّين للرسم والنحت، ليحمل أمانة الجمعيّة في الزمن الصعب، (1982- 1992) حيث الإنقسام العموديّ والأفقي، في شتّى المجالات.
قبل ذلك التاريخ، وبعده، استمرّت لوحات حسين ماضي بالإنتشار في المتاحف العربيّة والعالميّة، من المتحف البريطانيّ، إلى متحف “أوينو” في طوكيو، وبنك “شيس منهاتن” في نيويورك، إضافة إلى انضمام بعض لوحاته إلى مجموعة ميشيل تابييه (دي سيليران)، وهو من أشهر النقّاد، والمقتنين، والمؤثّرين في مجال الفن في فرنسا.
وفي الموازاة أقام عشرات المعارض، حتّى تخطى عددها الستّين معرضًا بين لبنان والعالم، تخلّلها الكثير من الجوائز، والأوسمة، والتكريمات.
غرف ماضي من معين الفرنسيّ هنري ماتيس، والإسبانيّ بابلو بيكاسو، كما من التراث الشرقيّ، بما فيه الخطّ العربيّ، فكان حروفيًّا دون أن يرسم الحروف، ففي جميع ضرباته ثمّة تجلّيات للحرف العربيّ. يقول حسين ماضي: “الطبيعة معلّمتي الوحيدة، ولا تنبع الأعمال العظيمة إلّا من الخالق الأكبر”.
سيّد الطيور السوداء
رحل حسين ماضي، مساء 17 كانون الثاني، 2024 ، متمّمًا واجباته مع الفنّ، رسمًا ونحتًا، متخمًا بالطيور التي رسمها، ورسمها، حتّى كادت أعماله تطير من مكانها، وكانت تحلّق فعلًا في المعارض، والمزادات، التي قدَّرَت قيمته الفنّيّة، المعنويّة، فتخطّى بعضها النصف مليون دولار، وسيرتفع السعر أكثر كما هي العادة مع كلّ تشكيلي شهير، بعيد رحيله مباشرة، وهو عرف عالمي، حيث يغلق الفنّان عينيه، فتنكفئ أصابعه عن تسطير الإبداعات إلى الأبد.
في تلك الأيام البعيدة، قال أستاذ المدرسة لوالد حسين ماضي: “إبنك ذكي، لكن عم يضيّع وقتو بالرسم”. فكان ذلك هو التوصيف الأجمل، لفنّان أضاع الوقت الذي يشبه باقي الأوقات، ليستنبط وقته الخاص، ويقبض عليه طيلة 86 عامًا.