التشكيلي فيليب فرحات ورحلة في أغوار الذات

MOMENT OF UNION أو “لحظة اتّحاد” هو عنوان المعرض الذي أُقيم في غاليري “شريف تابت”، ويحمل توقيع الفنّان فيليب فرحات. وبحسب الفنّان، فإنّ المعرض هو “نتيجة عامٍ وشهرين من التعمّق في طبيعتنا البشريّة”، وهذا ما يتأكّد منه المتجوّل في المعرض، الأشبه برحلة داخل الذات الإنسانيّة. هي رحلة خطيرة قرّر الفنّان خوضها على أرضٍ رخوة، أقرب إلى رمالٍ متحرّكة في متاهات تلك الذات. كلّ لوحة معلّقة في المعرض تأتي كنافذة تطلّ على حوارٍ أوجده المجتمع مع الذات البشريّة.
كهوف الحياة ووحوش السلطة
في لوحات فيليب فرحات، يلتحم الداخل مع الخارج؛ إذ يستعين بأدواتٍ وعناصر طبيعيّة بهدف الغوص في أعماق الذات. في لوحة THE RETURN TO THE CAVERNS OF LIFE (ميكسد ميديا – 135×200 سم)، يستعير الفنّان صورة الكهف ليتخيّله المُشاهد رحمَ امرأةٍ يحمل أشلاء إنسانٍ ويخطو منه حصانٌ يبذل قصارى جهده للانطلاق. وإذا ما تعمّقنا في رمزيّة اللوحة، ندرك أنّ الفنّان يعلن عبثيّة “الإنسانيّة” التي تتجسّد بأشلاء متراكمة تُصارع كي تدلّ بإصبعها على زاويةٍ من الحائط، وكأنّ الإصبع يصرخ بوجه الإنسان: “هذا هو مصيرك!”.

أمّا في لوحة REVERENCE (زيت على قماش – 135×115 سم)، فيُظهر الفنّان هيئةَ وحشٍ عوضًا عن ملكٍ، وحشٌ متمدّد على العرش يحاول قضمه، بينما تنتشر أطرافه كالأفاعي في حوافّ اللوحة. اللافت أنّ رأس الوحش يبدو مطأطأ، مع خروج أسنانه من فمه، وكأنّ محاولته قضم العرش كلّفته أسنانه ونقاط دمٍ تسيل من فمه. إنّها لوحة تعالج مفهوم التملّك الذي يجرّ على الإنسان خساراتٍ ماديّة ومعنويّة.
مسرحٌ للهاوية ورأسٌ مُصاب
من المتعارف في الثقافة الشعبيّة أنّ في الاتّحاد قوّة، غير أنّ لوحة SO OUR SEPARATION MADE US ONE (زيت على قماش – 170×280 سم) تقدّم نقيض ذلك. ففي وسط اللوحة يظهر شخصٌ كأنّه مثبّتٌ على جدار غرفة، يحاول السير عودةً، لكنّ موجةً بحريّةً كأنّها تمنعه من التقدّم. يبدو لنا أنّ السير كعدمه، يؤدّي إلى الهاوية، والهاوية هنا هي التي توحّد الانفصال بين البشر. تبدو اللوحة مسرحًا للوحدة التي تجمع الأجزاء المنفصلة، حيث تتّخذ هذه الأجزاء هيئةَ هيكل منزلٍ سقفه مربّعات شطرنج ترمز إلى حرب السيطرة وإلى أنّ البقاء للأقوى؛ فيما الأضعف يسقط إلى أسفل اللوحة حيث ينتظره تابوتٌ ليجمع أجزاءه المتفرّقة التي تتحوّل إلى شخصٍ واحدٍ، لكنّه ميّت.
السوداويّة والتشاؤم ليسا خيارًا لدى فرحات، بل أقرب إلى واقعيّةٍ تترجم ما يحدث في الحياة اليوميّة
في لوحة THE SILENT DIALOGUE (135×150 سم)، يعلن الفنّان عن خواء مفهوم الحوار. تظهر جثثٌ ممدّدة في غرفة موتى تتّخذ وضعيّاتٍ توحي بأنّها على وشك الكلام. أمّا في لوحة Mr. President (60×90 سم)، فيستعير فرحات أسلوب الفنّان العالميّ فرانسيس بيكون الذي رسم شخصًا يصرخ، جامعًا في صرخته بين الولادة والموت والخوف والعنف. لكن في لوحة فرحات، يظهر وجه الرئيس مقسومًا إلى قسمين: أحدهما واضح المعالم، والآخر يبدو وكأنّه مصاب بطلقٍ ناريّ. يمكن التخمين أنّ مصدر الطلق هو نظرات المشاهدين إلى اللوحة، أو بالأحرى إلى “السيّد الرئيس”، نظرات غالبًا ما تكون سلبيّة وقاتلة.
واقعٌ سوداويّ ويوميّات حزينة
يبدو أنّ السوداويّة والتشاؤم ليسا خيارًا لدى فرحات، بل أقرب إلى واقعيّةٍ تترجم ما يحدث في الحياة اليوميّة. ففي لوحة THE CLOWN IS ALIVE (60×90 سم)، لم يتبقَّ من المهرّج الحيّ الذي يصنع الفرح سوى الورود الزاهية على ملابسه. وفي لوحة بّورتريه شخصيّة (60×80 سم)، نرى محاولةً لتشويه الوجه أو بالأحرى لإعادة تشكيله. خلف الوجه تتبدّى خطوط سوداء تشبه أسطر النوتة الموسيقيّة، وكأنّ تشوّه الإنسان معزوفةٌ معتادة في دفتر يوميّاتنا الحزينة. أمّا الدوائر السوداء والبيضاء في لغة الموسيقى فتتناثر أمام الوجه الكئيب كالحصى المرميّة لإحداث العقبات التي تزيد حياة الإنسان بلّة.

الانفصال عن الذات وخيانتها
تحت عنوان SELF-DETACHMENT (ميكسد ميديا – 117×194 سم)، يظهر في مقدّمة اللوحة رجلٌ جالسٌ على كرسيٍّ بعجلات، تبدو أطرافه متجمّدة. تظهر يده كتلةً واحدة باللون الأزرق الفاتح، فيما تكسو القدمَ ألوانٌ تميل إلى الإصفرار مع زخارفَ زهريّة أشبه بمفرشٍ جميلٍ اختير لتزيين طاولة. جمودٌ يجسّده رجلٌ مُقعَدٌ يلقي بثقله ليدوس على عجلة الكرسيّ الحائر بين حصانٍ قويّ وامرأةٍ متمدّدة باستسلام. وعند التمعّن في باقي الجسد، نرى وجهًا يواجه أشياء غريبة تشكّل تشويشًا لذاته المُفكّرة. إنّها لوحة الانفصال عن الذات، تترجم تحوّل الإنسان إلى كائنٍ غريبٍ برأس حيوانٍ ذي أذنين طويلتين وقدميّ شبحٍ بلونٍ شفّاف.
أمّا لوحة CLOSE UP TO THE LAST SUPPER (زيت على قماش – 390×290 سم)، فتعلن عن غياب الذات الإلهيّة عن العرش، ليحلّ مكانها عرشٌ فارغٌ كضميرٍ غائبٍ يفضح – كما فضح المسيح خيانة يهوذا الإسخريوطي– خيانةَ الذات لعالمها الحقيقيّ، وتمجيدها للعرش على حساب الإنسان الذي يظهر في اللوحة على شكل أشلاء مبعثرة ومشتّتة. يقول فيليب فرحات لـ “مناطق نت” عن هذه اللوحة: “هذا هو عشاء الوداع الأخير… هو انفصالٌ نهائيّ لذاتنا عن ذاتنا، انفصالنا الأبديّ عن جوهر تكويننا واتّصالنا الدائم بواقعٍ صمّمه طمعُنا”.
الاتّحاد كتحرّر من الزيف
إنّ “لحظة الاتّحاد” التي يقدّمها المعرض ليست اتّحادًا في معناه التقليديّ، بل هي دخولٌ في أغوار الذات وانفصالٌ عن الزيف والعالم المصطنع الذي لم يكن سوى نتاج طمع البشر وفسادهم الذي أُغلقَت بسببه مظلّةُ الإنسان، ليُترَك عرضةً لعواصف الدين والسياسة والمُلك.
وعلى الرغم من أنّ المعرض يحمل عنوان “لحظة اتّحاد”، إلّا أنّ هذا الاتّحاد أقرب إلى انفصال الذات البشريّة عن الواقع الذي ارتكبه الإنسان بحقّ البشريّة. إنّ الانفصال المنشود في أعمال فرحات هو اتّحاد الذات بالعالم الحقيقيّ، وامتداد الروح التي تحاكي مفاهيم متعدّدة: كالذاكرة بلحظاتها المضيئة والراقصة، ولحظات الألم والخوف والحلم.