التغيّر المناخي يعصف بالزراعة بقاعًا.. سلّة لبنان الزراعية في خطر

وأنت تتحدّث عن البقاع لا يمكنك إلّا أن تتخيّل أمامك تلك السهول الشاسعة الخضراء الغنيّة بالمحاصيل “على مدّ عينك والنظر”. فالبقاع يشتهر بكونه “سلّة لبنان الزراعيّة” إذ يشكل ثلث مساحته، وغالبية أراضيه هي زراعيّة.

يواجه القطاع الزراعيّ اليوم خطرًا كبيرًا وتراجعًا في قدرة المزارعين على الصمود، كما تروي فاطمة السلال إبنة الـ 27 عامًا لـ “مناطق نت”، فالصبيّة المزارعة منذ خمس سنوات في سهل سرعين تنوي التخلّي عن هذه المهنة التي لم تعد تأتها بفائدة. حالها كحال عشرات مزارعي المنطقة ممّن لا يجدون فيها سبيلًا للاكتفاء، وذلك بسبب ارتفاع كلف الزراعة وانخفاض إنتاجيّة المواسم لأكثر من عامل.

ولعلّ ما فاقم الأمور هي تقلّبات الطقس الناتجة عن التغيّر المناخيّ والتي تضع قطاع الزراعة في البقاع أمام تحدٍّ من نوع آخر، إذ بدأ المزارعون يلمسون نتائجه لا سيّما مع تزايد الجفاف. والتغيّر المناخيّ هو التغيّر الطويل الأمد في درجات الحرارة وأنماط الطقس على كوكب الأرض والناجمة من الأنشطة البشريّة، مثل حرق الوقود الأحفوريّ وانبعاثات الغازات الدفيئة منه.

ما فاقم الأمور هي تقلّبات الطقس الناتجة عن التغيّر المناخيّ والتي تضع قطاع الزراعة في البقاع أمام تحدٍّ من نوع آخر، إذ بدأ المزارعون يلمسون نتائجه لا سيّما مع تزايد الجفاف

تداعيات التغيّر المناخيّ

بالعودة إلى منطقة البقاع تحديدًا، انعكس التغيّر المناخيّ تراجعًا في نسبة المتساقطات وجفافًا في الآبار وتغيّرًا في التربة، ممّا بات يُصعّب إمكانيّة توفير مياه الريّ، فضلًا عن انتشار غير مسبوق للمنّ على المزروعات بسبب تراجع تكوّن الجليد الذي كان يقضي سابقًا على هذه الحشرات بحسب المزارعين. والمنّ هو مادّة سكّريّة تنتجها بعض الحشرات مثل حشرة المنّ والتي تعرف أيضًا بحشرة الأفيد، حيث تعمل على إضعاف المزروعات نتيجة امتصاص العناصر الغذائيّة منها.

يتحدّث أيمن شومان المزارع “أبًّا عن جدّ” من بلدة سرعين، عن تغيّر جودة التربة من موسم إلى آخر حتّى من دون علمه أنّ الأمر مرتبط بتغيّر المناخ. وبعد خبرة عشرين عامًا في المهنة يقول لـ “مناطق نت” إنّه اضطرّ في الموسم الزراعيّ الماضي إلى الاستعانة بمهندسين زراعيّين متخصّصين وشراء أدوية كيماويّة باهظة الثمن لمعالجة التربة، بعد فشل موسم “البندورة” بشكل كامل.

“التربة التي لطالما كانت جودتها في أحسن حال، ها هي اليوم قد أنتجت بندورة مضروبة غير صالحة للاستهلاك ما تسبّب في خسارة فادحة” يقول شومان ويكمل: “علمًا أنّ التربة الزراعيّة في البقاع كانت تعتبر من الأجود بسبب طبيعة المنطقة الجغرافيّة الواقعة بين سلسلتيّ جبال لبنان الشرقيّة والغربيّة ممّا ميّزها بوفرة المياه والآبار الجوفيّة على مرّ السنين”.

هذه التغيّرات في الواقع الزراعيّ يرويها المزارع أيمن شومان بالتفصيل في فيديو تجدون رابطه مرفقًا.

الزراعة الصيفية في سهل سرعين في البقاع
 تأثير مباشر للتغيّر المناخيّ

تغطّي الأراضي الزراعيّة في لبنان 65 في المئة من مساحته، أيّ ما يعادل 6800 كيلومتر مربّع بحسب المؤسّسة العامّة لتشجيع الإستثمارات في لبنان “إيدال”، وبالتالي فإنّ لبنان يمتلك أعلى نسبة من الأراضي الزراعيّة في الشرق الأوسط قياسًا على مساحته.

لكن مع ارتفاع حدّة آثار التغيّر المناخيّ على المنطقة ككلّ، تتزايد المخاوف على المواسم الزراعيّة التي تتراجع إنتاجيّتها عامًا بعد عام. فبحسب دراسة لمنظّمة الأغذية العالميّة “فاو”، سيفقد لبنان بحلول العام 2060 غالبيّة أراضيه الزراعيّة التي ستتحوّل إلى مناطق صحراويّة جافّة، اذا لم يعمل فورًا على مواجهة هذه التغيّرات، وذلك عبر تبنّي سياسات صارمة صديقة للبيئة، والتي إذا لم تُنفّذ ستتسبّب في أزمة اقتصاديّة واجتماعيّة، لا سيّما في المجتمعات التي يشكل القطاع الزراعيّ فيها، أوّل مورد اقتصاديّ ولعلّ أبرزها، البقاع.

عوامل تتلف المزروعات

في هذا الإطار يُقسّم الخبير الزراعيّ مروان حيدر في حديث لـ “مناطق نت” المشاكل الناتجة عن التغيّر المناخيّ على القطاع الزراعيّ إلى شقّين أساسيين: الأول، “تكاثر الحشرات الناتج عن ارتفاع درجات الحرارة ممّا يّلزم المزارع على زيادة استخدام المبيدات الحشريّة والتي بدورها تزيد مناعة الحشرات على المبيد وتضعف تأثير الأخير. وعليه فإنّ هذا الواقع يدفع بالمزارع إلى تغيير المادّة الفعّالة التي يتألّف منها المبيد بشكل مستمرّ”.

أمّا الشق الثاني يقول حيدر “فيتعلّق “بتلف محاصيل كاملة بسبب تساقط البَرَد في غير موعده، أيّ مع بداية فصل الربيع، كما حصل العام الماضي وبكمّيّة غير مسبوقة على مدى أكثر من ١٥ دقيقة متواصلة، ما أدّى إلى تلف موسم الجنارك كاملًا، علمًا أنّ لبنان يعتمد بشكل أساس على إنتاج وبيع فاكهة الجنارك لجودتها وارتفاع سعرها في جميع الأسواق”.

خضار صيفية

أمّا على المدى الطويل، فيضيف حيدر “أنّه وبسبب التغيّر المناخيّ، تمتصّ المزروعات العناصر المغذّية من التربة عامًا تلو عام. هذا الأمر يرتّب على المزارع القيام بفحص للتربة بشكل مستمرّ من أجل مدّها بالعناصر المغذّية الكبرى والصغرى اللازمة حتّى لا يؤثّر هذا النقص في المزروعات”.

في حماية الأحراج

لكن على الرغم من هذه المشاكل، لا يزال تأثير التغيّر المناخيّ على لبنان مقبولًا مقارنة مع الدول الأخرى، خصوصًا تلك التي وصلت إلى مرحلة التصحّر بحسب مستشار وزير الزراعة عبدالله ناصرالدين الذي أضاف لـ “مناطق نت”: “المشكلة الأخطر هي في فقدان بعض مقوّمات مواجهة التغيّر المناخيّ ومنها الثروة الحرجية”.

يضيف ناصرالدين: “في لبنان تلتهم الحرائق سنويًّا الغابات والأحراج، وتقطع الأشجار بشكل جائر، في غياب الدور الرقابيّ للبلديات، وتعذّر تعيين وزارة الزراعة حراس أحراج جدد، في حين أن الثروة الحرجيّة هي الأساس لتنقية الهواء ومقاومة التغيّر المناخيّ”.

“الوزارة قد وضعت استراتيجية لحماية الأحراج وهي بحاجة إلى تنفيذ خطة بالإشتراك مع البلديات لفرض رقابة حازمة، ومحاسبة أي معتدٍ على الأحراج المصنفة بالشكل الاولي كعقارات جمهورية. كما يسعى المعنيون لاتخاذ إجراءات تحد من مخاطر فقدان الثروة الحرجية، والعمل على الوفاء بالتزامات لبنان في الاتفاقيات والقمم الدولية المتعلقة بالمناخ” يختم ناصرالدين.

عبدالله ناصرالدين: لا يزال تأثير التغيّر المناخيّ على لبنان مقبولًا مقارنة مع الدول الأخرى، خصوصًا تلك التي وصلت إلى مرحلة التصحّر. المشكلة الأخطر هي في فقدان بعض مقوّمات مواجهة التغيّر المناخيّ ومنها الثروة الحرجية

التكيّف بين العلم والمبادرات الفردية

أمام هذا الواقع المناخيّ الصعب وعجز الدولة عن مكافحة تداعياته، يثبت أنّ المجتمعات الهشّة ستكون أكثر تأثّرًا، لا سيّما تلك التي تتعيّش من الزراعة. من هنا لا بدّ من تحسّب المزارعين للمخاطر واستباقها. وفي هذا الإطار يقترح المهندس الزراعيّ أحمد الحاج حسن في حديث لـ “مناطق نت” بعض الحلول المبتكرة التي من شأنها الحدّ من تداعيات التغيّر المناخيّ ومنها:

تحسين إدارة الموارد المائيّة: عبر اعتماد تقنيّات ريّ حديثة ممّا يساهم في تقليل هدر المياه بشكل كبير وصولًا إلى تطبيقها على نطاق واسع في سهول البقاع.

زراعة أصناف مقاومة للجفاف ودرجات الحرارة المرتفعة: تعمل مصلحة الأبحاث الزراعيّة على تطوير بذور ذات مقاومة عالية للجفاف، مثل “القمح البلديّ” بعدما كان يتطلّب كمّيّات كبيرة من المياه، كذلك تمّ تطوير بذور “الخيار” لتتحمّل الظروف المناخيّة المتغيّرة بين الحرارة والبرودة. وعليه، من الضروريّ أن يختار المزارعون بذورهم بعناية وأن يتواصلوا بشكل مستمرّ مع مصلحة الأبحاث الزراعيّة للحصول على التوجيه اللازم.

تنظيم مواعيد الزراعة وفقًا للتغيّرات المناخيّة: بعدّ أن اعتاد البعض على زراعة محاصيلهم في مواعيد ثابتة خلال العام، صار لا بدّ من تعديل هذه المواعيد بسبب التغيّرات المناخيّة كالطقس الصيفيّ غير المعتاد في شهريّ تشرين الثاني (نوفمبر) وكانون الأول (ديسمبر)، وتأخّر الشتاء حتّى بداية كانون الثاني (يناير). على سبيل المثال، بات من الممكن زرع “البطاطا” في بداية شباط (فبراير) بدلًا من آذار (مارس).

هذه الخطوات الثلاث ستكون بحسب الحاج حسن أساسيّة للتكيّف مع التغيّر المناخيّ، وضمان استدامة الزراعة في المنطقة بأقلّ خسائر ممكنة. وفي انتظار أن يتكيّف المزارعون مع التغيّر المناخيّ لإنقاذ محاصيلهم، برزت مبادرات تركز على التنمية المستدامة ودعم المزارعين.

زراعة القمح في البقاع من الأصناف التي تقاوم الجفاف ودرجات الحرارة المرتفعة (الصورة من وكالة الأخبار الدولية INN)
مبادرات رديفة

في هذا الإطار، يتحدّث رئيس “حزب الخضر اللبناني” الدكتور فادي أبي علّام لـ “مناطق نت” عن تجربة حزبه في دعم القضايا البيئيّة والزراعيّة في منطقة البقاع على الرغم من أنّه في الأساس حزب سياسيّ. يقول أبي علّام: “الحزب يعمل في منطقة البقاع من خلال “حركة السلام الدائم” التي بدأت منذ سنوات بالتعاون مع برنامج الأمم المتّحدة الإنمائيّ وتهدف إلى تحقيق التنميّة المستدامة في مختلف القرى البقاعيّة، بدءًا من البقاع الشماليّ وصولًا إلى البقاعين الأوسط والغربيّ”.

يتابع أبي علام: “من أهمّ إنجازات هذه المبادرة: دعم المزارعين من خلال ورشات عمل توعويّة بيئيّة متخصّصة لهم وللناشطين البيئيّين، وتقديم المساعدة اللوجستيّة من أسمدة وأدوية وأدوات زراعيّة وخيم بلاستيكيّة وغيرها من وسائل الدعم للتنمية المستدامة عن طريق التعاونيّات الزراعيّة، هذا فضلًا عن العمل على مكافحة ظاهرة التغيّر المناخيّ التي تبدأ أوّلًا بالثقافة الخضراء”.

ويؤكّد أبي علام أنّ “العمل يتمّ بالتعاون الوثيق مع المجتمع المحلّيّ بما في ذلك السلطات المحلّيّة والمجتمع المدنيّ والجمعيّات والأندية بالإضافة إلى التعاونيّات الزراعيّة، حيث يُعمل على وضع خطط تنمية شاملة على مختلف المستويات ويُتابع تنفيذها بشكل مستمرّ لضمان تحقيق الأهداف المرجوّة”.

التزامات لبنان..أين الخطط؟

لا يزال لبنان المصادق على اتّفاقيّة باريس بشأن تغيّر المناخ والمشارك في قمّة الأمم المتّحدة الثامنة والعشرين لتغيّر المناخ (كوب 28)، يفتقد إلى خطوات فعّالة تخدم التكيّف المناخيّ وتكافح ظاهرة الانبعاثات الضارّة من الغازات الدفيئة. فبحسب برنامج الأمم المتّحدة الإنمائيّ UNDP، يتصدّر قطاعا الكهرباء والطاقة في لبنان القطاعات الملوّثة للبيئة وذلك بنسبة 80 في المئة من الانبعاثات، يليهما النقل والصناعة.

سهل البقاع.. سلة لبنان الزراعية في خطر (الصورة gettyimages)

كذلك يحتلّ لبنان بحسب تقرير مؤشّر الأداء البيئيّ العالميّ المركز 11 عربيًّا و142 عالميًّا في مؤشّر الأداء البيئيّ للعام 2022 بينما كان يحتلّ المركز 78 عالميًّا في العام 2020، ومؤشّر الأداء البيئيّ (EPI) هو الذي يقيس الأداء الوطنيّ في جهود حماية البيئة واستدامة الموارد الطبيعيّة. وعليه يكون لبنان مطالبًا بسياسات أكثر جدّيّة تحاكي التكيّف المناخيّ المطلوب. فمؤشّرات تغيّر المناخ تنذر بتدهور القطاع الزراعيّ في السنوات المقبلة بحسب تقرير برنامج الأمم المتّحدة الإنمائيّ حول تغيّر المناخ في لبنان 2023. إذ سوف ترتفع درجات الحرارة 4.9 درجة مئويّة، وسينخفض هطول الأمطار بنسبة تصل إلى 22  في المئة بحلول العام 2100.

في هذا الوقت تعاني مؤسّسات الدولة المعنيّة من نقص في التمويل يحول دون مواكبتها تداعيات التغيّر المناخيّ، على الرغم من وضعها لخطط والتزامات مثل الموافقة على إبرام اتّفاق باريس العام 2019 بتخفيف الانبعاثات والتكيّف مع التغيّر المناخيّ، مع العلم أنَّ هذا الالتزام الذي يجدّد كلّ خمس سنوات والذي أطلق عليه اسم “NDC” أيّ Nationally determined contribution، وضَعَ في سلّم أولويّاته دعم ومساعدة قطاع الزراعة.

في هذا الإطار تقول مستشارة وزير البيئة في قضايا تغيّر المناخ ليا القاعي في حديث خاصّ لـ “مناطق نت”: “إنّ كلَّ ما يتعلّق بالتكيّف مع التغيرات المناخيّة هو من ضمن إطار عمل وزارة البيئة التي تعهّدت بتخفيض انبعاثات الغازات الدفيئة واتّباع سياسات تكيّفيّة مع التغيّر المناخيّ تحاكي الواقع المناخيّ اللبنانيّ، وذلك ضمن مساهمة لبنان الوطنيّة بالتكيّف مع التغيّر المناخيّ.

“بعد وضع هذه السياسة المناخيّة العامّة تصبح كلّ وزارة منفردة مخوّلة بتطبيق مندرجاته ضمن اختصاصها. فالتواصل المباشر مع المزارعين في ما خصّ الريّ مثلًا يدخل ضمن اختصاص وزارة الطاقة، وكلّ ما يتعلّق بالمنتجات الزراعيّة يكون من اختصاص وزارة الزراعة عبر معهد البحوث العلميّة الزراعيّة الذي يمدّ المزارعين بالنصائح والمعلومات التي يحتاجونها حول نوعيّة المنتجات والمبيدات الزراعيّة المستخدمة. أمّا عمل وزارة البيئة فيقتصر على التعامل مع المصانع أو مصادر التلوّث إذا وجدت للتخفيف من حدّة تلوّث المياه الجوفيّة أو المياه السطحيّة مثلًا” بحسب ما تؤكّد القاعي.

تمّ إعداد هذا التقرير ضمن مشروع “الإعلام والتغيّر المناخيّ والقضايا البيئيّة” بالتعاون بين مؤسّسة مهارات ومشروع خدمات الدعم الميدانيّ في الشرق الأوسط (الأردن، لبنان والعراق) والمنفّذ من شركة كووتر انترناشونال، وبتمويل من الشؤون الدوليّة الكنديّة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى