التهجين يُطيح بالبطّيخ المناطقي بقاعًا وجنوبًا
“عدلوني يا بطّيخ”، “قاعي يا بطّيخ”، “شَعْثي يا بطّيخ”.. لا تزال أصوات باعة البطّيخ راسخة في آذان من سمعوا ذلك ذات يوم، وهم بالتأكيد من جيل السبعينيّات والثمانينيّات وصولًا إلى التسعينيّات. كان لكلّ بطّيخ هويّته المناطقيّة المميّزة المصحوبة بنكهة خاصة.
ذكريات جميلة لموسم البطّيخ الذي كان يملأ متاجر الخضار وينتشر في بسطات الطرقات، مترافقًا مع طقوس تلازم ذلك، منها وجبة الجبنة والبطّيخ، ومنها تبريد البطّيخة في البئر، ومنها كذلك تموين البطّيخ الذي كان يحتلّ مكانه تحت الأسرّة والطاولات.
لعل البطّيخ القاعي والشعثي نسبةً إلى بلدتيْ القاع وشعث البقاعيّتيْن الأكثر شهرة بأحمره القانيّ ذي الطعم اللذيذ ونكهة بلديّة ممزوجة بتراب البقاع الذكيّ، إذ كان يتهافت على شرائه الزبائن من دون تردّد كونه موثوق المصدر والحلاوة، لأن المناداة عليه باسم منشئه كانت كافية ليثق به الشاري ويشتريه بضمانة أرضه.
بطّيخ “الزمن الجميل”
بطّيخ “الزمن الجميل” اشتهرت به بلدتا شعث والقاع البقاعيتيْن وبلدة عدلون الجنوبيّة وبعض مناطق البقاع الغربيّ، حيث كانت سمة جودة البطّيخ متلازمةً مع أراضي المصدر الدالّة على نوعيّة ومذاق طيّب لفاكهةٍ تميّزت بها مناطق محدّدة في لبنان وشكّلت عنصرًا رئيسًا لتناولها في موسمها، لِما تحمله من خصائص وميزاتٍ صحّيّةٍ فريدةٍ من نوعها.
بطّيخةً واحدة بوزنٍ لا يتجاوز سّتة كيلوغراماتٍ كأقصى وزنٍ، كانت تجلس لتناولها عائلة بكامل أفرادها حتّى لو كانوا سبعةً، لأنّ مذاقها اللذيذ الممتلىء بالسكّر الطبيعي يُشبع متناوله بقطعةٍ واحدةٍ يأخذ منها حاجته الصحّيّة والتشهّي.
ولطالما كان أفراد العائلة الصغار يختلفون على أحقّية جمع لُبان البطّيخة (بزرها) ليتناولوه بعد الانتهاء من الأكل، وبعضهم كان ينشره على سطح المنزل لينشف وييبس تحت حرارة الشمس كمادّةٍ للتسلية في ليالي الشّتاء.
تهجين البطّيخ البلدي
لم يُكتب للبطّيخ البلدي أن يبقى محافظًا على نوعيّته وجودته وخصائصه وفرادته بل أُدخلت عليه في السنوات الأخيرة تعديلاتٍ جينيّةً مستوردةً من صنع الزراعيّين كتعديلٍ صناعيّ دون الالتفات إلى النتائج السلبيّة الناجمة عن ذلك من ناحية الحجم غير الطبيعيّ والإفادة الصحّيّة والمذاق.
وفي هذا الإطار يشرح المزارع جواد العطّار من بلدة شعث البقاعيّة لـ”مناطق نت” الأسباب والظروف التي دفعت بالمزارع إلى أن يلجأ إلى عملية التهجين للبطّيخ فيقول: “في السنوات الأخيرة فقدت تربة الأراضي في المنطقة موادّها الخاصّة لنموّ المزروعات ولا سيّما البطّيخ منها وذلك بسبب كثرة استهلاكها واستخدامها، فكان لا بدّ من إيجاد حلولٍ لذلك من خلال تطعيم شتلة البطّيخ بشتلة اليقطين، بحكم التقارب بين الشتلتيْن لناحية الخصائص، وجاءت النتيجة إيجابيّة حيث نجحت التجربة وصارت معتمدةً لدينا في كلّ موسم”.
لم يُكتب للبطّيخ البلدي أن يبقى محافظًا على نوعيّته وجودته وخصائصه وفرادته بل أُدخلت عليه في السنوات الأخيرة تعديلاتٍ جينيّةً مستوردةً من صنع الزراعيّين كتعديلٍ صناعيّ دون الالتفات إلى النتائج السلبيّة
ويتابع “نحن نأتي بالشتلتين من الجنوب، علمًا أنّهما متوافرتان في البقاع، ولكن كل واحد منّا يختار ما يريد، وهذه السّنة زرعت نحو 2500 دونمٍ من البطّيخ على أن أقطف منها ما مقداره 300 طنّ كمحصولٍ هو الأكبر في المنطقة”. مؤكّدًا أنّه من زمنٍ طويلٍ لم يستخدم البذور في زراعة البطّيخ بل الشتول الجاهزة “فهذا يسرّع في نموّ النبتة مع إنتاجٍ وفيرٍ بأحجامٍ تصل إلى 25 كيلوغرامًا للبطّيخة الواحدة”. ويضيف بأنّ بطّيخ بلدته يعتمد عليه عدد كبير من الأسواق التجاريّة “حتى أنّ بعضهم يصدّره إلى الخارج”. ويرى “أنّ عمليّة التهجين لا تُفقد البطّيخ خصائصه ومواصفاته بل تحافظ عليها وتقلّل من كميّة البزر بداخله وهذا ما يفضّله بعض الناس.”
الزراعة التقليديّة
أمّا المزارع الياس مطر من بلدة القاع البقاعيّة فيقول لـ”مناطق نت”: “في زمن التهجين وتغيير الخصائص الوراثيّة لفاكهة البطّيخ ما زلتُ أعتمد على الزراعة القديمة بكلّ تفاصيلها، حفاظًا على النوعيّة والجودة والهويّة البلديّة لهذه الفاكهة التي تمتاز بما وهبها الله من صفاتٍ خاصّةٍ بها، لأنّ أيّ تعديلٍ عليها يخرجها من ميزاتها ويحوّلها إلى شيءٍ آخر، وإن حافظت على الشكل نفسه”. ويضيف: “هناك من لجأ إلى التهجين بهدف التجارة، حيث يؤدّي ذلك إلى أن يصبح وزن البطّيخة الواحدة بحجم كبير وتعطي الشتلة الواحدة عددًا أكبر من الثّمار، وبالتالي يزيد الإنتاج والأوزان ما ينعكس أموالًا وفيرةً على المزارع”.
ويرى مطر أنّ “إبقاء فاكهة البطّيخ على طبيعتها الربّانيّة أمر ضروريّ، لأنّ قيمتها الغذائيّة كما خلقها الله ونحن لسنا مخوّلين بتغيير أو تعديل صفاتها. والهدف من تناولها هو صحيّ أوّلًا وحاجة طبيعيّة ثانيًا كما اعتدنا عليها منذ ظهورها”.
ويختم متسائلًا: “أين نحن اليوم من: “عالسكّين يا بطّيخ. أحمر حلو يا بطّيخ؟”.
رأي المهندسين الزراعيّين
كيف ينظر المهندسون الزراعيّون إلى عمليّة التهجين السائدة لفاكهة البطّيخ، وما هي توجيهاتهم في هذا الإطار؟
يقول المهندس علي دياب لِـ”مناطق نت”: “إنّ عملية التهجين التي أصبحت منتشرةً بكثافةٍ في لبنان للبطّيخ هي عمليّة دخيلة على المزروعات وثؤثّر في تكوين النبتة، وإن كنّا نحن نمارسها بطلب من المزارعين. فنبتة البطّيخ بطبيعتها التكوينيّة لها خصائصها ومواصفاتها وجيناتها الخاصّة بها، وأيّ تلاعبّ فيها يخرجها من فوائدها ويفقدها ذاتيّتها وبالتّالي تصبح هجينةً، أيّ غريبةً عن نفسها وبيئتها”.
ويضيف: “علميًّا، لكلٍ نبتةٍ جيناتها الوراثيّة المستقلّة التي لا تشبهها أيّ نبتةٍ أخرى. وهذا يعني أنّ إجراء أيّ تعديلٍ عليها لن يشبهها أو يتطابق معها وبالتّالي سيغيّر كلّ ميزاتها ومنافعها التي وجدت لتعطيها”.
ويتابع: “منذ سنواتٍ لم نعد نرى بطّيخًا بلديًّا يتغذّى على عناصر التربة فقط، وعلى الرعاية البدائيّة للمزارع من دون إضافاتٍ مستحدثةٍ أو عمليّات تحويلٍ، لذلك فقَدَ البطّيخ قيمته وأهميّته ومنافعه، كلّ ذلك بسب يد المزارع اللبنانيّ الذي فضّل التجارة والربح وجمع المال على حساب الجودة والنوعيّة والقيمة الغذائيّة”.
ويشير دياب إلى أنّ تهجين البطّيخ القائم على دمج نبتة اليقطين مع نبتة البطّيخ عبر ما يُعرف بالتطعيم ينتج عنها صنفان: بطّيخ ويقطين، فتأتي القشرة الخارجيّة سميكةً وهذا من خصائص اليقطين مع لون أحمر خفيف للّب وشبه انعدام للبزر. فهذه الصورة كافية للدلالة على التغيير الذي طرأ عليها وحوّلها إلى فاكهةٍ بطعميْن يخالفان طبيعتها.”
توجيهات لمزارعي البطّيخ
ويتوجّه دياب إلى المزارعين بتقديم خطّةٍ بديلةٍ عن التطعيم باليقطين “توفّر لهم إنتاجيّةً عاليةً وتحافظ على جودة النبتة وفوائدها دون المساس بتكوينها، وذلك من خلال دعم التربة الفاقدة عناصرها بالأسمدة العضويّة على مدار السّنة ما يعيد إليها موادّها الداعمة للنبتة، لأن الحلّ يكمن في دعم التربة إن كانت هي المشكلة، وليس بدعم النبتة عبر طرقٍ صناعيّةٍ من ابتكار الإنسان الذي لا تمكّنه كلّ علومه وخبراته من أن يُنتج جيناتٍ وراثيّةً زراعيّةً تمتلك الخصائص الموضوعة لها أصلًا منذ التكوين”. مشدّدًا على وجوب استخدام الطرق والخطط التي من شأنها أن تبقي المزروعات في منأى عن تغيير جوهرها.