“التيك توكر” البعلبكي.. حكايات نجاح ومتابعون بالملايين
من بروباغندا الشاشة الكبرى، إلى واقعية الشاشة الصغرى. كيف قدم “التيك توك” بعلبك الهرمل بطريقة أخرى؟
تحت وسم “لبعلبكية” تنشر ريان بحلق مقاطعها المصورة كافة على منصة “تيك توك”. ريان، الشابة العشرينية، البقاعية، بدأت رحلتها كـ “تيكتوكر” مع عدد قليل من المتابعين، وذلك تزامنًا مع انتشار المنصة في العالم العربي، من خلال نشر فيديوهات عفوية تتضمن شجارات ومقالب صغيرة تقوم بها مع أفراد عائلتها، وبالأخص والدتها. بالإضافة إلى مقاطع تتحدث عبرها عن أحداث يومية ومواقف طريفة مرت بها، إلى أن وصل عدد متابعيها اليوم إلى أكثر من مليون ونصف المليون متابع، من ضمنهم شريحة واسعة من غير اللبنانيين.
استطاعت ريان أن تصل إلى قلوب الكثيرين من خلال عفويتها ولكنتها البقاعية الحقيقية، حيث لم تلجأ لتحويل هويتها أو لهجتها إلى نكتة، ولم تصدّر نفسها كضحية في ظل مجتمع يتعامل مع البقاعي بحذر أو فوقية، بل على العكس، يتبين لمن يتابعها أنها فخورة ومتصالحة مع نفسها ومجتمعها وعائلتها، ومدركة تمامًا للصورة النمطية المأخوذة عن المنطقة.
في المقابل، يطل الشيف مهدي مهدي من مطبخه الصغير في البقاع، ليقدم للـ 45000 ألفاً من متابعيه على “التيك توك” ما يطلبونه وما يخطر على باله من وصفات متنوعة، سواء كانت وجبات سريعة أو “طبخات” أو أصناف من الحلوى. بإبتسامة هادئة وعفوية لا شيب فيها، يطلب مهدي من متابعيه مشاركته تحضير الطعام خطوة بخطوة، ويطلعهم على اسماء المكوّنات والمقادير المستخدمة، والبدائل المطروحة في حال تعذر الحصول عليها، وينتظر منهم مشاركته تجربتهم مع وصفاتها وآرائهم واقتراحاتهم. مخاطباً متابعيه بعفوية ظريفة “الحقوني عالتحضير”.
يتميز مهدي بملامحه الطفولية ونبرته الهادئة، والتي من خلالها أعطى للهجة البقاعية أثرًا مختلفًا، بعيدًا عن استخدامها كمادة دسمة للسخرية أو التهديد المصطنع، حيث يعمد البعض حتى من غير البقاعيين لاستخدامها أحيانًا للترهيب والتخويف.
استطاعت ريان أن تصل إلى قلوب الكثيرين من خلال عفويتها ولكنتها البقاعية الحقيقية، حيث لم تلجأ لتحويل هويتها أو لهجتها إلى نكتة، ولم تصدّر نفسها كضحية في ظل مجتمع يتعامل مع البقاعي بحذر أو فوقية
من قلب بعلبك، يخرج الشاب تيمور اسماعيل علينا بمقاطعه المصورة الطريفة، المبتكرة والمستوحاة بمعظمها من حياته كشاب بسيط يملك متجرًا صغيرًا للمواد الغذائية في البقاع. يلجأ تيمور لأصدقائه وافراد عائلته لمساعدته على صناعة وتقديم محتواه، وللأطفال النصيب الأكبر من هذه المشاركة، حيث يتعامل تيمور بعفوية وتلقائية معهم، ويشاركهم أحاديثه ونكاته، ويقابلونه بالمحبة والبراءة نفسها. يشيد متابعو تيمور بطريقة تعامله مع الأطفال لا سيما بإشراكه أطفال حيّه من جميع الجنسيات في مقاطعه المصورة، والذين يظهرون من حوله دائمًا سعداء وفرحين.
أما على صعيد الدبكة “البعلبكية” الشهيرة بالأصل، فقد دوى اسم تامر عقيل بقوةٍ على نطاق عربي أقليمي، واستطاع أن يفرض نفسه كالرقم الأول على الساحة. بدأ تامر، الذي يعمل كمدرب ومؤدي “دبكة” في المناسبات، رحلته مع مواقع التواصل الاجتماعي عبر “يوتيوب” منذ سنوات طويلة، لكن “التيك توك” ساهم بزيادة شهرته أكثر فأكثر، فهو اليوم يملك حوالى مليون وثمانمئة ألف متابع، منهم أجانب يبدون أعجابهم بـ “الدبكة” التي يقدمها بلغاتهم المتنوعة، حيث يمكن للرقص على اختلافه أن يكون عابرًا للغات، وقد ظهر في مقاطع عدة خلال مونديال قطر 2022 محاطًا بجموع من الأجانب الذين شاركوه الرقص والغناء. تليه في الساحة، مريم عبد الساتر، رغم امتلاكها لعدد أكبر من المتابعين، يقارب المليونين ونصف المليون متابع.
كانت الدبكة هي مفتاح الشهرة أمام مريم، إلا أنها انطلقت نحو نوع مختلف من المحتوى المقدم، ظلت الدبكة جزءًا منه لكنها ليست العنصر الأساسي فيه. رغم ذلك، تعد مريم من القلة القليلة من النساء البعلبكيات اللواتي تميزن بدبكتهن عبر مواقع التواصل الاجتماعي، كاسرةً العرف السائد عن خصوصية المرأة المحجبة في ساحات الدبكة.
هؤلاء، وآخرون لا يتسع لهم الذكر، استطاعوا أن يقدموا نظرة مختلفة عما سعت لتقديمه الشاشات الكبرى حول منطقة بعلبك الهرمل، حيث تم تنميطها بالجريمة والفلتان الأمني وزراعة الممنوعات.
لقد وفّر “تيك توك” فرصة للبعلبكيين في كسر هذه النمطية وتظهير صورة مغايرة لمنطقتهم، وقدّم لهم مساحة لعرض واقعهم، أكان سلبًا أم إيجابًا. لم يعد البعلبكي هو “جبل شيخ الجبل”، الذي يدخل بمدفع هاون لتهديد عدوه، ويضرب زوجته بحزامه ليؤدبها، ولا يمكن اختزاله بأسماء بضعة مطلوبين وفارين من وجه العدالة، كان قد تسابق الإعلام التقليدي على جعلهم “نجومًا ومشاهير” لحصد المشاهدين والقرّاء، فالبعلبكي هو الطباخ، والراقص، والعازف، والطبيب، والفنان والرسّام والأطفال. هناك صورة أخرى لبعلبك وأهلها، هي الأغنية التراثية والموّال العتيق والحقل الأخضر، والثمار الناضجة، والنهر الجاري، هي كما هي وليس كما يريد الآخر الـ”هي”.
لم يعد البعلبكي هو “جبل شيخ الجبل”، الذي يدخل بمدفع هاون لتهديد عدوه، ويضرب زوجته بحزامه ليؤدبها، ولا يمكن اختزاله بأسماء بضعة مطلوبين وفارين من العدالة، كان قد تسابق الإعلام التقليدي على جعلهم “نجوما ومشاهير” لحصد المشاهدين والقرّاء
أيضًا، ساهم تيك توك بدعم السياحة في المنطقة، حيث نشطت صفحات تهتم بعرض المواقع السياحية في بعلبك الهرمل، والأنشطة التي يمكن للسائح القيام بها. من ابرز هذه الأنشطة، هي التي تقدمها النوادي المالكة للمقاهي المطلة على نهر العاصي، حيث الألعاب الهوائية وال “رافتينغ” والسمك النهري وسهرات النار والحفلات، بالإضافة إلى العديد من الأماكن الأخرى كقلعة بعلبك والأسواق المحيطة بها. هذه الدعوات المصورة لاقت اثرها حيث قام كثيرون من سياح أجانب وعرب بنشر رحلتهم في بعلبك مشجعين الآخرين على ضرورة زيارتها في حال القدوم إلى لبنان.
حتى على صعيد محلي، أصبح هناك توجه واضح لإدراج بعلبك كمنطقة سياحية من خلال “تيكتوكرز” من مناطق مختلفة في لبنان، قاموا بزيارة المنطقة والترويج لها عبر حساباتهم الشخصية، بعد أن كادت أن تفقد هويتها السياحية الأصيلة، وينحصر زوّارها في الغالب بأبنائها وضيوفهم المدعوين بشكل شخصي، أما اليوم فهي مقصد للغرباء عنها. وقد حصدت الفيديوهات التي قام بنشرها التيكتوكر “طرزان” المشهور بتقديمه محتوى داعم بالدرجة الأولى للسياحة في لبنان، آلاف المشاهدات، والمئات من التعليقات من غرباء أبدوا اعجابهم بالمنطقة، وبالتوازي لم يتوان ابناء بعلبك عن الترحيب بالضيوف متمنين عليهم القدوم لرؤية الوجه الآخر للمنطقة، وشكروا الناشرين على تقديم هذه الصورة الطيبة عنهم.
صحيح أن هذه الصورة الحديثة والتفاعل الذي تلقاه من قبل رواد “تيكتوك” وغيرها من مواقع التواصل الإجتماعي لا تضاهي ما راكمته سنوات طويلة من الضخ الإعلامي والتهويل بحق منطقة بعلبك – الهرمل، لظروف عديدة وشائكة، إلا أنها فتحت بابًا أمام ابنائها وغيرهم لتحطيم الحواجز الوهمية التي أحاطت منطقة بعلبك الهرمل، وحولتها من بقعة مرمية في الظل، إلى مساحة تحمل ما تحمله كل المساحات من نقاط قوة ومكامن ضعف، وقدمت لهم لمحة بسيطة عن كيفية استغلال كل الطرق الممكنة لتقديم الصورة التي يرغبون بتقديمها، دون الاستسلام للأمر الواقع.