التّسرّب المدرسي وعمالة الأطفال.. أجيالٌ على الهامِش
شو بتنفعني المدرسة، أنا بدّي طلّع مصاري”.. يقول ج. ر. (15 عامًا) ثمّ ينفثُ دخان سيجارته عاليًا، قبل أن يشيح وجههُ ويُتابع عمليّة البحث والتفتيش بين أكوام النفايات.
تنبعث من ثيابه رائحة صار يألفُها، هي رائحة مكبّ النفايات، حيثُ يقوم بجمع مخلّفات الناس، ناكشًا وباحثًا عمّا يُباع منها.
ترك ج. ر. المدرسة في سنّ الثانيّة عشرة، في إبّان مرحلة انتشار وباء كورونا، ولم يستطع مواكبة زملائه في التعلُّم عن بُعد، في ظلّ الفقر وغياب الإستقرار العائليّ. حاول مع انطلاقة المدارس والمهنيّات استئناف دراسته، فالتحق بالتعليم المهنيّ، واختار عشوائيًّا اختصاص “شيف”، كونه “ماشي حاله”، كما نصحَهُ المدير. ومع غياب التوجيه وارتفاع كلفة المواصلات، إضافة إلى الكثير من التكاليف الخاصّة بالدراسة، تسرّب ج. ر. للمرّة الثانية، ليعمل مجدّدًا في جمع الخردة وهي مهنة والده.
هو واحدٌ من عشرات الفتيان، ممّن نصادفهم يوميًّا في الطرقات، وفي المحال التجاريّة، وكاراجات تصليح السيّارات، وغيرها العديد من المهن والمصالح، التي تشغّل الأطفال بظروف صعبة وخطر محدّق. أطفالٌ أدّت بهم الظروف إلى ترك المدرسة والإلتحاق باكرًا بسوق العمل.
في الجنوب، لا يختلف المشهد كثيرًا عن المشهد العام في لبنان، ولكن المشكلة لا تتوقّف عند ترك الدراسة والإنخراط في سوق العمل، بل تبدأ من حيث المخالفة والجرم الأول المرتكب بحقّ هؤلاء الصّغار، حيث يتمّ استغلالهم إلى أبعد الحدود.
قوانين.. حبر على ورق
تناول القانون اللبنانيّ عمالة الأطفال وحدّد معاييرها. فبحسب المحاميّة ريما عواضة: “الأجير هو كلّ رجل أو امرأة أو حدث يشتغل بأجرٍ عند ربّ العمل، بموجب اتّفاق فرديّ أو إجماليّ، خطيًّا كان أم شفويًّا”. حدّد القانون اللبنانيّ بوضوح النقاط التي يخضع لها استخدام الأولاد؛ بدءًا بالمحظورات، مرورًا بمتوجّبات صاحب العمل تجاه القاصر العامل لديه، وصولًا إلى تحديد سنّ الإستخدام على أن لا يقلّ عن ثلاثة عشر عاماً، والتحقُّق من هويّته، والخضوع لفحص طبّيّ دوريّ للتأكّد من سلامته ولياقته البدنيّة والعقليّة.
وحدّد ساعات العمل بحيث لا تتخطّى ستّ ساعات يوميًّا. كذلك يحقّ له إجازة سنويّة مدّتها 21 يومًا مدفوعة الأجر. ويحظّر استخدام الأحداث في المشاريع الصناعيّة والأعمال المُرهقة أو المضرّة بالصحّة قبل إتمامهم سنّ الخامسة عشرة. كما يحظّر استخدام الأحداث قبل إكمالهم سنّ السادسة عشرة في الأعمال الخطرة، وقد حدّدها بموجب مرسوم اشتراعي رقم 8987/2012، وهي كثيرة.
تناول القانون اللبنانيّ عمالة الأطفال وحدّد معاييرها، بدءًا بالمحظورات، مرورًا بمتوجّبات صاحب العمل تجاه القاصر العامل لديه، وصولًا إلى تحديد سنّ الإستخدام على أن لا يقلّ عن ثلاثة عشر عاماً، مع التحقُّق من هويّته.
تقول المحاميّة عواضة لـ”مناطق نت”: “على الرّغم من توافر العديد من الموادّ القانونيّة والمحظورات والشروط المتطلّبة لعمل الأحداث، والمخاطر الكبيرة التي قد يتعرّض لها على الصُعد الصحّيّة والنفسيّة والأخلاقيّة كافّة، والتي قد تصل به في المستقبل إلى حدث منحرف اجتماعيًّا وسلوكيًّا وقانونيًّا، إلّا أنّ الواقع في جهة أخرى تمامًا”.
وتوصي عواضة، بضرورة تثفيف المجتمع والأهل حول المحظورات القانونيّة، وحقوق الحدث العامل من ناحية نوع ومكان العمل، ولناحية الإلتفات إلى وضعه الصحّيّ وعدد ساعات العمل المسموح بها. ولكن تبقى هذه النصوص حبرًا على ورق، “مع عدم اتّخاذ وزارة العمل أيّة إجراءات فعليّة على الأرض لمنع هذه الظاهرة الخطيرة جدًّا على المجتمع ومستقبل الشباب وتطوّر الوطن”.
الفقر ليس حجّة!
تُشير الدكتورة بهاء يحيى، أستاذة في قسم علم النفس في الجامعة اللبنانيّة، إلى “دور المدرسة في بناء شخصيّة الطفل، وتحقيق نموّه النفسيّ والاجتماعيّ بشكلٍ متوازٍ مع دور الأسرة. وفي حال التسرّب المدرسيّ يحلّ الشارع أو بيئة العمل كبديل غير صحّيّ وغير متجانس مع ضرورات النموّ والإكتمال النفسي للطفل”. وتذكُر يحيى: “هناك أوضاع معيّنة وطارئة تسبّب التسرّب هذا، ففي ظلّ الأزمة الاقتصاديّة الخانقة والقابضة على أرواح ومصير العديد من العائلات، نلاحظ ازدياد عدد الأطفال الذين يتوجّهون مبكرًا إلى سوق العمل، لمساعدة أهاليهم في شؤونهم المعيشيّة”.
وتُضيف إلى “مناطق نت”: “الفقر ليس حجّة وحيدة، بل هناك عائلات فقيرة وتولي العلم أهمّيّة كبرى، وتسعى إلى تعزيز دافعيّة التعلّم عند أبنائها لتأمين مستقبل أفضل لهم”. وعن الأطفال الذين يرفضون التعلّم من تلقاء أنفسهم، وهم أسوياء صحيًّا وعقليًّا، توضح يحيى: “تؤدّي التنشئة الأسريّة والبيئة المنزليّة، وما توليه من قيمة للعلم في داخل منظومتها، دورًا أساسيًّا في تحديد خيارات الطفل اتجاه التعلّم، وكذلك صورة المستقبل المرهونة بتوقّعاتهم عن التعليم، إضافة إلى العديد من المنغّصات الأسريّة (انفصال، هجر، حرمان..)”.
وفي سياق الدوافع لبعض المشكلات السلوكيّة التي تجري داخل المدرسة، ويكون لها تأثير سلبيّ على خيارات المُتعلّم، تُفيد يحيى: “إنّ التمييز، وإسقاطات بعض المُعلّمين على بعض التلاميذ كالتنمّر، هي سلوكيّات تؤدّي إلى الانسحاب التدريجيّ من العالم المدرسيّ، والذي يوازي أهمّيّة الأسرة في تأمين الصحّة النفسيّة الفرديّة والمجتمعيّة للطفل”.
في هذا السياق يورد الدكتور مصطفى حجازي في كتابه “الصحّة النفسيّة”: “إنّ الهدر المدرسيّ يؤدّي إلى هدر مجتمعيّ، وبالتالي إلى هدر وجوديّ. وقيمة هذا الإنسان تسقط بشكل عموديّ ملفت”. كما تشير الدكتورة يحيى: “إنّ التسرب المدرسي لا يعني أنّ الطفل انتقل من المدرسة إلى مزاولة مهنة، بل إلى الشارع، وما أدراك ما الشارع!”.
إضافة إلى المشاكل الصحّيّة، والقصور في النموّ الجسديّ، تُضيف يحيى: “يؤدّي تواجدهم في مجتمع الكبار إلى قصور في نموّهم النفسيّ، حيث يتعرّضون لنوعيّة مختلفة من التواصل اللفظيّ والإهتمامات، فيتشكّل لدينا بؤراً لتجمّعات هشّة غير صالحة اجتماعيًّا، ما يؤثّر في مصير هؤلاء الأطفال، المعرّضين ليصبحوا أحداثًا جانحين منحرفين، وبالتالي ماذا ننتظر منهم في المستقبل؟! قلّة قليلة منهم سوف تندمج في المجال المهنيّ في حال تأمّنت لهم الظروف المؤاتية لاكتساب مهنة”.
يحيى: يؤدّي تواجد الصّغار في مجتمع الكبار إلى قصور في نموّهم النفسيّ، حيث يتعرّضون لنوعيّة مختلفة من التواصل اللفظيّ والإهتمامات، فيتشكّل لدينا بؤراً لتجمّعات هشّة غير صالحة اجتماعيًّا، ما يؤثّر في مصير هؤلاء الأطفال.
كما تؤكّد يحيى على أهمّيّة دور الإرشاد والتوجيه من قبل الأهل لأبنائهم، وضرورة أن يتواجد اختصاصيّ نفسانيّ مدرسيّ ومرشد نفسانيّ مدرسيّ في المدارس والمهنيّات. كما تشدّد على الدعوة “للاحتراس، وتشغيل كلّ الأواليّات الدفاعيّة لكي يبقى هؤلاء داخل الصرح المدرسيّ، بتضافر جهود وزارة التربية ووزارة الإعلام ووزارة الشؤون الاجتماعيّة”.
غياب الخطط التربويّة
من جهته يقول المربّي عبّاس شميساني، مدير ثانوية حسن كامل الصبّاح الرسميّة، ل”مناطق نت”: “إنّ الخطط التربويّة التي قد يقوم بها المدير في المدرسة تنحصر في إطار التشجيع والتحفيز على أهمّيّة العلم والتمسّك بعمليّة التعلّم والتعليم. لا جدوى من أيّ خطط تربويّة أخرى، وذلك لأنّ موضوع التسرّب حالة عامّة ومرتبطة مباشرة مع الظروف الاجتماعيّة والاقتصاديّة والأمنيّة التي يعاني منها البلد بكلّ مرافقه”.
ويرى شميسانيّ، “أنّ الحلّ الممكن للتخفيف من ظاهرة التسرّب، يجب أن يأتي من مؤسّسات رسميّة كـوزارة التربية، من خلال إقامة مؤتمرات تربويّة عام، يشمل كلّ الجهات المعنيّة بالتربية، وصولًا إلى رئاسة الحكومة ومجلس النوّاب لأخذ التدابير والإجراءات والقوانين التي من شأنها رصد حالة التسرّب (الأعداد، المناطق، مكان العمل، الجنس، العمر..). تجدُر الإشارة إلى غياب أيّة إحصائيّات ترصد هذه الظاهرة”.
ويتابع شميساني:” إنّ الأزمة التي يعانيها قطاع التربية والتعليم، من انهيار وتراجع خطير، لعدم وجود رؤية وخطط تربويّة واضحة، بالإضافة إلى ضعف قدرة وزارة التربية على تأمين حاجات ومستلزمات المدارس، ناهيك عن التعطيل المستمرّ بسبب الإضراب لفترات طويلة، ما يشكّل انقطاعًا بين المدرسة والتلميذ”.
ويلفت شميسانيّ، إلى “صعوبة المتابعة الدقيقة لحالات التسرّب التي يمكن أن تحصل في ما إذا كان هذا التسرّب إلى سوق العمل أو إلى مؤسّسات أخرى أو هجرة إلى الخارج”. ويضيف: “غالبًا ما تكون الاتصالات الهاتفيّة مع أولياء الأمور لتبرير غياب أولادهم غير واضحة وغير دقيقة، ربما من أجل إخفاء عمل أولادهم في سنّ مبكرة”. ويؤكّد: “في مدرستنا، لم نلحظ حالات تسرّب كثيرة إلى سوق العمل، وهي تقريباً بين 5 و 6 حالات. لكنّنا نعلم أنّ هناك تلامذة تعمل في أيام العطل والإضراب لمساعدة الأهل، ومتابعة تعليمهم في فترات الدراسة”.
برامج تعليم المتسرّبين
تُعدّ “الحركة الإجتماعية” من الجمعيّات الناشطة في استهداف فئة المتسرّبين وعمالة الأطفال، وتضمّ مشاريع عدّة تأهيليّة وتعليميّة. وبحسب مسؤول مشروع التعليم في الحركة الاجتماعيّة في منطقة النبطيّة السيد أحمد زهري، لديهم في مشروع التربية برنامج BLM، وهو برنامج تعليم يستهدف الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 8 و 14عامًا، وهم خارج المدرسة منذ سنتين أو أكثر، ويمكن أن يضمّ الأطفال العاملين. يتابعون معهم مواد التعليم الأساسيّة (لغة عربيّة، لغة اجنبيّة ورياضيّات) لمدّة عامٍ كامل، ويقدّمون لهم الدعم النفسيّ-الإجتماعيّ، والتدريب على المهارات الحياتيّة.
يُضيف زهري إلى “مناطق نت”: “تتزامن نهاية البرنامج مع بداية العام الدراسيّ، لمن يرغب باستكمال تعلّمه في المدرسة، فنحن نحرص على تجهيز كلّ ملفّاتهم ومعاملاتهم”.
لدى جمعيّة “الحركة الإجتماعيّة” برنامج تعليم يستهدف الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 8 و 14 عامًا، والذين هم خارج المدرسة منذ سنتين أو أكثر. يتابعون معهم مواد التعليم الأساسيّة لمدّة عامٍ كامل، ويقدّمون لهم الدعم النفسيّ-الإجتماعيّ.
تجدر الإشارة إلى أنّ الدورات مجّانيّة وكذلك النقل لكلّ المناطق التي تقع ضمن نطاق المشروع. ويجري استقطاب الأطفال من خلال الزيارات الميدانية، والتنسيق مع البلديّات والفعاليّات والجهات الرسميّة والمدارس. ويختم زهري: “إنّنا نعمل مع الفئات المهمّشة، ونحرص على توعية الأهل ومقدّمي الرعاية حول أهمّيّة التعليم إلى جانب العمل، وعلى أهمّيّة الإحاطة بـظروف العمل وشروطه. ونُقدّم إحالات إلى الجمعيّات التي تعمل على متابعة موضوع عمالة الأطفال”.
التسرّب المدرسيّ وعمالة الأطفال، ظاهرتان تفاقمتا بعد الإنهيار والأزمة الاقتصاديّة التي عصفت بالبلاد، وعلى الرّغم أنّ القانون اللبنانيّ ينصّ في موادّه على الضوابِط والمعايير التي ترعى استخدام الأطفال، إلّا أنّ أحدًا من الذين يستخدمونهم لا يلتزم بها. يترافق ذلك مع الضغوطات التي تعانيها العائلات الفقيرة، وتئنّ تحت وطأة الظروف المعيشيّة والاقتصاديّة الصعبة. يجري كلّ ذلك تحت نظر وسمع الدولة التي لا تُحرّك ساكنًا، ويبدو أنّها في وادٍ لا يرجعُ منه الصدى.