الجفاف يضرب ينابيع اليمّونة والفوضى والتعدّيات يفاقمان المشكلة

لم تسلم مياه اليمّونة (البحيرة والشلّال)، من موجة الجفاف التي تضرب المنطقة، والتي أدّت إلى معاناة تعيشها البلدات والقرى التي تتغذّى من ينابيع اليمّونة وذلك بسبب شحّ المياه، حيث تتفاقم هذه المعاناة يومًا بعد يوم مع انخفاض منسوب البحيرة التي تتغذّى بدورها من الينابيع التي ضربها الجفاف.
بحيرة اليمّونة الطبيعيّة، ومعها الشلال كانت تاريخيًّا تُغدق على أهالي البلدة والجوار مياهًا عذبة. كان الشلال يتدفّق كريمًا غزيرًا معطاءً، على نحو 40 بلدة وقرية، تمتدّ من أبلح إلى دير الأحمر، جميعها تستفيد من مياه اليمّونة سواء لجهة الشرب أو الخدمة المنزليّة أو لجهة ريّ الأراضي الزراعيّة.
يتحدّث رئيس بلديّة اليمّونة طلال شريف عن أنّ التغيُّر المناخيّ والجفاف ليسا بجديدين، إذ جرى الحديث عنهما منذ سنوات، وهو ما بدأت تتلمّسه المنطقة منذ فترة. ويتابع شريف لـ “مناطق نت”: “اليوم ارتفعت نسبة الجفاف كثيرًا، ويعود ذلك إلى عدم تراكم الثلوج شتاءً والذي يؤمّن المخزون الطبيعيّ للمياه منذ مدّة طويلة. فاليمّونة التي ترتفع نحو 1550 مترًا عن سطح البحر، كانت سماكة الثلوج فيها تراوح تاريخيًّا بين مترين وخمسة أمتار، لكنّها العام الماضي لم تتعدَ الـ 40 سنتمترًا”.
ويضيف شريف ” كانت بركة اليمّونة “قجّة مياه”، لكنّ منسوبها اليوم انخفض إلى مستويات دنيا، وذلك بفعل جفاف الينابيع التي تغذيها”. ويشير إلى أنّ “المياه كانت تظهر أثناء حفر الآبار الارتوازيّة على أعماق قليلة، لكنّ الآبار التي حفرت على عمق 100 متر و150 مترًا جفّت أخيرًا”.

ينابيع وأنهار تُنازع
ليس نهر الـ 40 المعروف في اليمّونة، وحده الذي يعاني اليوم من الجفاف، فينابيع عين الفحص والمُغر وغيرها، يتقلّب وضعها بين جفاف كلّيّ وشحّ المياه. ووفق شريف فإنّ ذلك “أدّى إلى حرمان عديد من القرى من مياه اليمّونة، منها: فلاوى، السعيدة، كفردان، العلّاق، شمسطار، طاريّا، وجزء من بوداي، فيما بقيت بعض القرى التي لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة تستفيد بشكل جزئيّ ومحدود، بين الحين والآخر على نحو: دير الأحمر، شليفا، دار الواسعة، وجزء من بلدة بوداي”.
لم يؤثّر شحّ مياه اليمّونة في تغذية القرى بالمياه وحسب، بل انسحب على المزارعين الذين أصيبوا بخسائر فادحة نتيجة عدم قدرتهم على ريّ أراضيهم الزراعيّة، فتعرّضت لليباس”. ويقدّر شريف “المساحات الزراعيّة التي طالها اليباس بنحو 20 ألف دونم حيث لا مياه ولا كهرباء، وهذه معاناة كبيرة”.
ومع فقدان اليمّونة هذا الصيف لنحو 80 في المئة من منسوب مياه ينابيعها، فمن الطبيعيّ أن ينعكس ذلك على جميع القرى والبلدات المستفيدة من هذه المياه. ويشير شريف إلى أنّ “البلديّة استخدمت بداية جزءًا من مخزون البحيرة لمساعدة الناس، لكنّ تدنّي منسوبها بشكل كبير، يصعّب عليها الاستمرار في ذلك، إذ يؤدّي الانخفاض المتزايد لمنسوب البحيرة إلى أضرار كبيرة ربّما تلحق بها وتحوّلها إلى مستنقع كبير”.
اسماعيل: صدرت مذكّرة منذ الـ 15 من تمّوز (يوليو) تقضي بوقف استثمار مشروع الريّ من ينابيع اليمّونة بسبب كمّيّة المياه القليلة
من ناحيته يؤكّد رئيس مصلحة الصيانة والتوزيع في مؤسّسة مياه البقاع محمّد إسماعيل أنّ “بركة اليمّونة التي يبلغ عمقها تسعة أمتار، يجب أن يبقى فيها ما لا يقلّ عن متريّ مياه تحت المقسّم كي لا تتلوّث وتخزّز”.
ويتابع في حديثه إلى “مناطق نت”: ” تعتمد مياه اليمّونة على ثلاثة ينابيع رئيسة هي: نبع التفّاحة، عين البحص، ونبع نهر الأربعين، والأخير الذي كان يُعوّل عليه بشكل أساسيّ في عمليّة التوزيع ويضخّ عادة 100 متر مكعّب في الساعة في حالة الذروة ما بين نهاية الربيع وبداية الصيف، ضخّ فقط لمدّة شهر هذا العام ولم يكن غزيرًا كعادته، وتوقّف في ما بعد حيث جفّ كلّيًّا”. ويلفت اسماعيل إلى أن الينابيع في بلدة اليمّونة هي ينابيع مشتركة بين مياه الشفة ومياه الري، تجري بواسطة أقنية لتصب في بركة اليمّونة.
معاناة القرى
تعتبر بركة اليمّونة بمثابة مخزن تجميع احتياطيّ للمياه، يتمّ استخدامها في حالات الأزمة. حول توزيع المياه يشرح إسماعيل “بسبب تدنّى كمّيّة المتساقطات هذا العام، فإنّ قدرة الينابيع لم تتجاوز الـ 20 إنشًا من المياه”، ويتابع “إن المياه تتوزّع عبر قناة طولها 2000 متر لتصل إلى دار الواسعة، ومن ثمّ عبر قناة أخرى مسقوفة طولها 1800 متر حتّى رأس الشلّال، ومن ثمّ تتوزّع على ثلاثة خطوط الـ 12 والـ 16 والـ 18”.
يضيف إسماعيل “الخطّان الأوّلان يغذّيان المناطق الجنوبيّة مثل: فلاوى، بوداي، الحفير، السعيدة، كفردان، وصولًا إلى شمسطار، والخط الثامن يذهب باتّجاه المناطق الشماليّة على نحو: مزارع بيت مطر، مزارع بيت صليبي، شليفا، المزارعجيّة”. وبسبب الشحّ بحسب إسماعيل “أصبحت هذه القرى بالكاد تتغذّى بالمياه من خلال هذه الخطوط، لا سيّما مع صدور مذكّرة منذ الـ 15 من تمّوز (يوليو) تقضي بوقف استثمار مشروع الريّ بسبب كمّيّة المياه القليلة”. مع الإشارة إلى أنّ غالبيّة هذه البلدات تفتقر إلى الآبار الارتوازيّة وبالتالي لا مصادر بديلة للمياه.
تنعكس أزمة المياه بشكل كبير على أهالي القرى. يقول ابن بلدة فلاوى علي السبلاني “إنّ أهالي البلدة يضطرّون إلى شراء صهاريج المياه من أجل الاستخدام المنزليّ، وأحيانًا من أجل ريّ عدد من الشجيرات في حدائقهم وبساتينهم، وهذا عبء يُضاف إلى أعبائهم الحياتيّة”. ويلفت “مناطق نت” إلى أنّ “عديدًا من أهالي البلدة من ذوي الدخل المحدود يعتمدون على اليد الخيّرة التي تقدّم صهاريج مياه على نفقتها في خطوة تهدف إلى مساعدة أبناء بلدتهم”.
فوضى توزيع المياه
“إنّ مشكلة المياه مزمنة وزادت من حدّتها مشكلة الجفاف”، هذا ما قاله مختار بلدة بوداي حسين شمص لـ “مناطق نت”، ويتابع: “بعد أن انقطعت المياه عن بلدتنا بسبب استيلاء أهالي اليمّونة ودار الواسعة على مياه البركة التي تحولت للأسف إلى مياه ملوّثة بالمجاري الصحّيّة، تحرّكنا وقصدنا اليمّونة ووصلنا إلى حلّ يقضي بأن تدار المياه بين 10 إلى 12 ساعة كلّ ثلاثة أيام”. ويردف شمص “لكنّ ذلك يرافقه تعب ومشقّة ونضطرّ إلى أن نسهر على مخرج القناة، منعًا لفتحها من أهالي دار الواسعة، ففي الوقت الذي سحبنا فيه 16 إنشًا لـ 150 ألف نسمة، هناك 60 إلى 70 إنشًا من المياه، تتدفّق على الطرقات في الدار الواسعة، وكلّ منزل مدّ إنشًا إلى إنشين مياهًا”.
شمص: انقطعت المياه عن بلدتنا بسبب استيلاء أهالي اليمّونة ودار الواسعة على مياه البركة التي تحولت للأسف إلى مياه ملوّثة بالمجاري الصحّيّة
ويطالب شمص “مصلحة مياه البقاع باسم أهالي بوداي بأن تعمد إلى حلّ جذريّ دون تكاسل، لتوزيع المياه بالتساوي على بوداي ودار الواسعة وشليفا وجميع القرى والبلدات التي من حقّها الاستفادة من بركة اليمّونة”. ويشدّد شمص على “ضرورة جعل الوصاية على البركة بيد مؤسّسة مياه البقاع وليس بلديّة اليمّونة، وأن يكون مفتاح الشدّ بيد موظّفي المؤسّسة، ووضع حدّ للتعدّيات في دار الواسعة تخفيفًا للتشنّج الحاصل بين أهالي هذه البلدات بسبب المياه”.
أمّا بلدة العلاّق “فهي الأخرى لا تصلها مياه اليمّونة نهائيًّا” بحسب تعبير حسن كنعان الذي يؤكّد أنها مقطوعة عنهم طوال فترة الصيف وأنهم يضطرّون إلى شراء صهاريج المياه بين مليون ليرة ومليون و500 ألف ليرة لأجل الشرب والاستخدام المنزليّ، لافتًا إلى أنّه الحل المتاح الذي تلجأ إليه أكثر من 130 عائلة في بلدة العلاق في ظلّ انقطاع مياه اليمّونة وجفاف الآبار العربيّة الصغيرة في البلدة.
تعدّيات على الشبكة
يترافق جفاف الينابيع وقلّة المياه مع فوضى التعدّيات على أقنية المياه من أطراف شتّى. يشير إسماعيل إلى أنّ “هذه التعدّيات تبدأ في دار الواسعة من خلال التعدّي على القناة الرئيسة ووضع مضخّات الطرد المركزيّ وسحب المياه إلى مناطق سكنيّة أعلى من القناة، من مخرج القناة حتّى رأس الشلّال، بالإضافة إلى تعدٍّ من قبل القاطنين في دار الواسعة عن طريق فتح أقنية بطرق مخالفة للقانون، هذا عدا عن مشاكل في كلّ بلدة، حيث قامت البلديّات من فلاوى إلى شمسطار وطاريّا باستحداث خطوط مباشرة من الخط الـ 16 بطريقة غير شرعيّة وغير قانونيّة”.
اجتراح حلول
في ظلّ الأزمة المتفاقمة، تحاول المؤسّسة إيجاد حلول موقّتة للاستفادة القصوى من الكمّيّات المتوافرة من المياه من خلال التقنين، أي إقفال البركة 72 ساعة، وفتحها 72 ساعة. وفي هذا السياق يؤكّد إسماعيل أنّ “هذه الطريقة تشكّل حلًّا أمثل في ظلّ الوضع القائم”، لافتًا إلى أنّه قام برفع اقتراح إلى الإدارة العامّة يطلب فيه مؤازرة أمنيّة لإيصال مياه الشرب إلى القرى والبلدات، بالإضافة إلى كتاب ارسله إلى قيادة الجيش، مديريّة المخابرات، من أجل وضع نقطة ثابتة على مخرج القناة، ونقاط متحرّكة مع الموظّفين لنزع المخالفات كي ينفّذ الموظّفون توزيعًا عادلًا للمياه وتصل إلى خزّانات المياه في القرى والبلدات.
ويشير إسماعيل إلى أنّ هذه الخطّة وضعت من جهة لترشيد كمّيّات المياه الموجودة ومن جهة ثانية تفاديًا لوقوع النزاعات على المياه بين عائلات وسكّان هذه القرى.
