الجنوبية زهرة الحرّ شاعرة من زمن الرسائل المهرّبة

شاعرة، قابلة قانونيّة، زوجة، وأمّ لثمانية أطفال. لو كانت بيننا اليوم لكنّا سألناها: كيف استطعت أن تكوني كلّ ذلك؟

تمكّنت زهرة الحرّ من كسر القيود المجتمعيّة حينذاك، لتكون شاعرة جبل عامل، لم تستسلم للدور النمطيّ الذي يحصرُ فيه المجتمع المرأة- الأمّ، فحضرت وشاركت في النشاطات الثقافيّة في مدينتها صور وخارج أسوار المدينة أيضًا، وساهمت في تأسيس جمعيات عدّة، بالتزامن مع اهتماماتها بعائلتها، فأضافت لأمومتها معنىً آخر، إذ أنجبت أبناءً كان منهم الطبيب والشاعر ومنهم أساتذة وفنّانون.

كان الجنوب كما المرأة حاضران في قصيدتها، للأوّل كان الالتزام وكانت القصيدة، وللثانية كانت القضيّة حين سعت الحرّ بما أوتيت لصون حقوقها، ولم تكن منحازة لنسويّتها فكان للرجل نصيب من شعرها في السياسة وفي الحبّ. تَضَوّع عبيرها فكُرّمت في مناسبات عديدة، ولم يغفل التاريخ ولو أنّه قصّر ذكرُ امرأة سطّرت الشعر في الدواوين وفي المجلّات وفي أوراقٍ لم تنشرها.

محطّات من سيرتها

ولدت زهرة الحرّ (1917- 2004) في مدينة صور، وعايشت حروبًا وانتدابًا وفتنًا، والدها الشيخ “جواد الحرّ” من بلدة جباع الحلاوة في إقليم التفّاح، والدتها “عليا سليم حلاوي” تنتسب إلى عائلة شيعيّة عريقة وذات وجاهة، اشتُهر أبناؤها بالعلم والفقه وقول الشعر، ولهم مؤلّفات وتراجم.

الشاعرة الجنوبية زهرة الحر

كانت عليا سليم حلاوي، امرأة ذات شخصيّة قويّة واستقلاليّة، تحفظ كثيرًا من الشعر سمعًا، سعت إلى تنشئة ابنتيها (زهرة وأختها) تنشئةً حرّة بعد وفاة زوجها، إذ كانت زهرة في الثالثة من عمرها، كرّست “عليا” حياتها لتربية ابنتيها وحمايتهما وحثّهما على متابعة العلم والدراسة، فنشأت زهرة نشأة واثقة، مكّنتها من تجاوز تعقيدات العادات والتقاليد في زمنها.

وتذكُر الدكتورة “خديجة شهاب” في كتابها “زهرة الحرّ، شاعرة جبل عامل” (والذي نقلنا عنه كثيرًا من المعلومات عن حياة الشاعرة)، أنّها درست في كتاتيب بلدتها (جباع)، فتعلّمت حفظ القرآن منذ السادسة، على يد الشيخ عبد الله نعمة في مدينة صور. وعلى أثر مشادّة بينها وبينه لم تلبث أن انتقلت إلى كتّاب السيّد نورالدين الأخوي، وهناك توسّعت مداركها حيث بدأت بتلقّي مختلف العلوم وأصبحت على معرفة بأصول اللغة العربيّة وقواعدها.

المعلّمة الصغيرة

ألقت قصيدتها الأولى وهي في العاشرة، وقد أثنى عليها أستاذها، كانت كثيرة الحفظ، أنهت الابتدائيّة في العام 1928. والتحقت بالمدرسة الرسميّة للبنات في صور وبقيت فيها إلى العام 1932، حتّى أنهت المرحلة المتوسّطة. كانت تميل إلى قراءة الشعر وحفظه وإلقائه أمام زميلاتها في غرفة الدرس، شجّعها أساتذتها، وصار يتمّ اختيارها في المدرسة لإلقاء القصائد بعد حفظها في الحفلات المدرسيّة. التحقت بدار المعلمين والمعلّمات في بيروت، ولكنّها سرعان ما تركته، وانتقلت لتمارس مهنة التعليم في الثانويّة التي درست فيها، فأضحت زميلة معلّماتها اللواتي لقّبنَها بـ”المعلّمة الصغيرة”.

تعدّ زهرة من روّاد حركة تحرير المرأة في جبل عامل، ومن الأعضاء المؤسّسين للمجلّس الثقافيّ للبنان الجنوبيّ 1964. وهي تتصدّر لائحة المنتسبين الأوائل إليه

لم يستهوها التدريس فعافته للالتحاق بالمعهد الطبيّ في بيروت العام 1934 فكانت أوّل متخرّجة جنوبيّة “صوريّة” حصلت على الدبلوم في التوليد النسائيّ العام 1937، أنشأت عيادة في مدينة صور لاقت شهرةً واسعة في المنطقة.

تزوّجت من ابن عمها عبد الله خليل الحرّ وأنجبا ثمانية أبناء. سافرت إلى العراق بين عامي 1940 و1941 لتمارس التدريس واستمرّت هناك في نشر قصائدها في المجلّات والصحف العربيّة. وتذكُر الدكتورة شهاب أنّها كانت تجيد الفرنسيّة وقامت بترجمة قصيدة للشاعر الفرنسيّ فيكتور هيغو بعنوان “ليلة شاعر” نشرت في مجلّة العرفان المجلّد 26 سنة 1935.

في زمن كان يُقيّد حياة المرأة استطاعت إثبات حضورها العلميّ والعمليّ. شاركت في النشاطات الثقافيّة والاجتماعيّة في بلدتها وخارج بلدتها.

من روّاد تحرير المرأة

ساهمت في تأسيس عدد من الجمعيّات والأندية الأدبيّة والثقافيّة والرابطات النسائيّة، ومنها: “المجلس الثقافيّ للبنان الجنوبيّ” سنة 1964، و”الرابطة الأدبيّة العامليّة”، و”جمعيّة نساء جبل عامل”، و”جمعيّة النهضة النسائيّة في صيدا”، و”جمعيّة الشابّات المسلمات”، و”جمعيّة الاتّحاد النسائيّ” في صور، و”المجلّس الوطنيّ للتنمية العامّة”. كان ذلك بين منتصف الخمسينيّات وأوائل السبعينيّات.

تعدّ من روّاد حركة تحرير المرأة في جبل عامل، ومن الأعضاء المؤسّسين للمجلّس الثقافيّ للبنان الجنوبيّ 1964. وهي تتصدّر لائحة المنتسبين الأوائل إليه، وقد منحتها الهيئة الإداريّة للمجلّس وسام التأسيس لمنزلتها المرموقة في الوسط الأدبيّ الجنوبيّ وصلتها بالروّاد من أدباء الجنوب. وقد نشر المجلّس ديوانها “رياح الخريف” العام 1992.

الشاعرة زهرة الحر توقّع ديوانها “رياح الخريف” في المجلس الثقافي للبنان الجنوبي. وفي الصورة: الوزير أنور الخليل، النائب والوزير السيد جعفر شرف الدين والأديب حبيب صادق

حازت وسام العمل الفضّيّ من رئاسة الجمهوريّة اللبنانيّة بعد نشرها ديوان “قصائد منسيّة” 1971، وانتُخبت في العام 1975 الأمّ المثاليّة.

شاعرة بالوراثة

تذكر الدكتورة شهاب أنّ الشاعرة وفي بدايات النشر في مجلّة العرفان، لم تكن على اتّصال ومعرفة بأدباء عصرها، وتعرّضت للنقد اللاذع. وتقتبس حديثًا كانت قد أجرته الشاعرة في مقابلة لها مع إحدى الصحف إذ تقول: “إنّني ولجهلي ببعض الأمور التي تتعلّق بقوانين نظم الشعر، قد أخذت أحد الأبيات التي كنت أحفظها من دروس الاستظهار ووضعته في إحدى قصائدي من دون أن أضعه بين قوسين ومن ثمّ نشرتها في مجلّة العرفان.. “.

وتضيف أنّ ذلك سبّب لها أذى نفسيًّا جعلها تُقلع عن قول الشعر وكتابته، والتفرّغ لدراستها في الطبّ، ولكنّها لم تستمرّ على القطيعة طويلًا حتّى عادت تُلقي قصائدها في الاحتفالات والمناسبات، ومنها قصيدة ألقتها في المعهد الطبّيّ الفرنسيّ في بيروت في رثاء الدكتور محمد بارتي سنة 1936، منحها شعورًا بالفخر كونها أوَّل جنوبيّة تخرق حجاب العزلة والاضطهاد.

لُقبّت بـ “شاعرة جبل عامل”، وكان بيتها مقصد المثقّفين من مُحبّي الشعر والأدب. صدر لها ثلاثة دواوين شعريّة، وكثير من القصائد في الصحف والمجلّات؛ ديوان “قصائد منسيّة” (1970)، و”رياح الخريف” (1992). إضافة إلى ديوان “الله جلّ جلاله” نُشر بعد وفاتها العام 2005.  إضافة إلى قصائد غير منشورة ضمّنتها الدكتورة شهاب في كتابها عن حياة الشاعرة.

كانت زهرة الحرّ امرأة تعيش عصرها بكلّ تفاصيله، وفي قصائدها نلمس ونرى كلّ مرئيّات ذلك الزمن بقاداته وزعمائه وحروبه، عن الوحدة العربيّة في زمن الخذلان.

موضوعاتها

لم تنأَ الشاعرة بنفسها عن هموم عصرها، ولم تطلّ من عليائها المُترف لتتحدّث عن جمال الطبيعة كرومانسيّة حالمة، بل جمعت في ذاتها الشاعرة كلّ الهموم وكلّ القضايا.

عالجت في شعرها كثيرًا من القضايا الاجتماعيّة والإنسانيّة، وتجرّدت في معالجتها من الأحكام الجاهزة، فأظهرت تعاطفًا وإحساسًا إنسانيًّا عاليًا وهي تحكي عن شخصيّات خرجت عن أعراف المجتمع كالمجرم والمومس، عن الهجرة واستغلال الدين لمآرب سياسيّة، عن الأمومة وعن نزاع المرأة في المجتمع العربيّ، عن الخيانة والطلاق، وعن النساء ضحايا المجتمع وضلالهن الذي ليس نتيجة خيارٍ واع منهنّ:

هو الجوع ينهش قلب الفتاة
فتنسى الفضيلة والمحتدا
وما حرّةٌ يا تمارا تجوع
فتأكلّ ثديًا لها أو يدا

كانت زهرة الحرّ امرأة تعيش عصرها بكلّ تفاصيله، وفي قصائدها نلمس ونرى كلّ مرئيّات ذلك الزمن بقاداته وزعمائه وحروبه، عن الوحدة العربيّة في زمن الخذلان.

غرفت من مصافي الحبّ الإلهيّ، وقالت الشعر في مناسبات عقائديّة، وتذكر الدكتورة شهاب أنّ الشاعرة كانت تقيم مجالس العزاء عن أرواح الأئمّة وتبكيهم.

الجنوب وفلسطين والمرأة

حضر الجنوب، في قلبها وشعرها، حملته كقضيّة تحكي فيها عن هموم ومشاكل ناسه، وتعاتب الدولة على تقصيرها تجاهه:

هنا  الجنوب أما من منعة
وحمى وعدّة ودعامات وحرّاس
أيغتدي لقمة في الأرض سائغة
ما بين أنياب أجلاف وأشراس؟

كذلك دأْبُ شعراء الجنوب تحضر فلسطين الجريحة منذ نكبتها في كتاباتهم، فمّما قالته:

أنا من فلسطين من الجريحة نقطة
من أدمع محمومة ودماء
سالت على الصخر ففجّرت
جنباته قطعًا من الرمضاء

وفي زمن كان الاختلاط فيه محظورًا على المرأة، وكان مفكّرو ومثقّفو ذاك الوقت يناقشون موضوع حرّيّة المرأة من لا حرّيّتها في الكتب والتجمّعات النخبويّة، كتبت الحرّ عن العظيمات ووقفت إلى جانب النساء:

الثائرات الواثبات إلى العلى
والحافظات لموثقٍ وعهودُ..

وحيث كان الحبّ فيه ابن الضيعة رسائل مهرّبة، كانت زهرة الحرّ تعيش حرّيّتها في الاختيار وفي التنقّل وفي القول المُباح بما يحفظها عن سفاسف الكلام. فكتبت كثيرًا من الغزل. متخطّية حاجز الخجل، محافظة على حيائها الأنثويّ:

“أنت الحبّ، وإذا ما الحب ناداني ولبّيت نداه”.
والحبّ عندها ناصع كالزنابق البيض، يزهو في الحنايا طهارة وانطلاقا.

حافظت في حبّها على كبرياء الأنثى ولطافتها، فكانت رقيقة العبارة ليّنة الشعور:

أحبّه يا كبريائي قفي
فما لقلبي عن هواه غنى

حازمة الموقف، فعاتبت الحبيب على إهماله:

رويدك لست أنا وردةً
تشمّ عبيري وتطوي حسابي
ولستُ الجريدة تقرأ فيها
وترمي بها تحت درج الكتاب

كانت قارئة متمكّنة، وجعلت من شعرها منبرًا يحكي عن ثقافتها وكثرة اطّلاعها وفهمها، وكانت كلاسيكيّة الطبع بحيث أنّ قارئها يميّز أسلوبها المباشر، فعالجت موضوعات تماهت فيه مع أسلوب بعض شعراء المشاهير مثل إيليا أبو ماضي، إلياس أبو شبكة، نازك الملائكة وغيرهم، فحرصت على الوزن الشعريّ وفق عروض الخليل وعلى الالتزام بنظام التفعيلة. لم تحد عن موسيقى النصّ في قالبها النظميّ، وحرصت على إرواء نهاية الأبيات بقافية تترك بصمة سمعيّة في أذن متلقّيها، فأعطت لنفسها المجال لتكون كلّ كلمة وسع قالبها الموسيقيّ المعدّ لها ووفق أثرها المعنويّ التي كانت تحرص على تحقيقه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى