الجنوبيّة “كريمة عبود”.. أوّل مصوّرة فوتوغرافيّة في فلسطين
“منذ أن بدأت التصوير، كانت كريمة تستعرض في ذهنها، بين حين وحين، من هو ذلك المصور الذي سيلتقط لها صورتها، الرسمية، الشخصية، التي ستكون الصورة الأكثر استخداما من بين صورها “
(من رواية “سيرة عين ” للروائي الفلسطيني إبراهيم نصر الله).
من هي كريمة، الذي استوحى من اعمالها الفوتوغرافية ومن سيرة عائلتها الروائي إبراهيم نصر الله روايته “سيرة عين”، ليؤرخ حقبة موؤدة من تاريخ فلسطين؟
هي كريمة عبود مواليد 1893، أول مصورة فوتوغرافية في فلسطين وربما في العالم العربي، يعود جذور أسرتها الى بلدة الخيام في جبل عامل. هاجرت عائلتها إلى فلسطين في أواسط القرن التاسع عشر واستقرت في مدينة الناصرة. عائلتها مكوّنة من والدها سعيد. والدتها بربارة بدر. إخوتها نجيب، كريم، منصور. وأختاها كاترينا، ليديا. كانت والدتها معلمة وأبوها راعيًا للكنيسة الإنجيلية اللوثرية في مدينة بيت لحم.
بحكم طبيعة عمل الوالد التبشيرية، عاشت الطفلة كريمة حياة اجتماعية منفتحة على مكونات المجتمع الفلسطيني، وتنقلت مع والدها الى مدن عدة، فزارت وصورت مدن بيت لحم وطبرية والناصرة وحيفا وقيسارية وتعرفت عن كثب على طبيعتها وتقاليدها وتراثها. أحبت التصوير منذ صغرها بعد أن أهداها والدها كاميرا فوتوغرافية، حيث تعلمت لاحقًا مبادئ التصوير الاحترافي على يد مصور ارمني، فانكبت على تصوير كل ما يقع أمام عينها من حياة يومية وتجمعات نساء بأزيائهم التراثية المختلفة.
صورة المُستعمِر والمُستعمَر
تلقت كريمة عبود دراستها الابتدائية في مدينة بيت لحم، وتابعت دراستها في بيت جالا والقدس، ثم التحقت بالجامعة الأميركية في بيروت لدراسة الأدب العربي. اتاحت طبيعة عمل والدها، الاختلاط بمبشرين إنكليز، فنشأت في جو متعدد اللغات والثقافات. أتقنت الإنكليزية والألمانية الى جانب العربية وهو ما ساعدها فيما بعد على الاتصال بعدد من المصورين الأجانب والعرب المحليين.
كانت الصورة في تلك الحقبة تقتصر على المصورين الأجانب التي جذبتهم منطقة الشرق الأوسط في القرن التاسع عشر، ولكن اقتصرت صورهم على المعالم الأثرية والدينية الخالية من الناس أو على المناطق العسكرية لجيوش الانتداب. هكذا كانت الصورة الفوتوغرافية تحاكي صورة المستعمر الذي سعى إلى طمس كل معالم الحياة ووجوه الناس، الوجوه التي افتتنت بها كريمة وصورتها باحترافية عالية، خصوصًا بعد عودتها من بيروت وتأسيسها لأستوديو خاص بها.
استطاعت المصورة المثقفة التي تجيد اللغات وقيادة السيارة من الدخول إلى المجتمعات النسائية داخل المنازل وتصويرها مع أطفالها، بالإضافة إلى تصوير المناسبات والأعياد الدينية والنزهات العائلية وفرق التمثيل وغيرها من صور الحياة اليومية التي عمل الانتداب وبعده الاستيطان إلى طمس أي أثر لأعمال كريمة الفوتوغرافية، لا سيما الوجوه التي صورتها في استديواتها الأربعة في الناصرة وبيت لحم وحيفا ويافا، بعد توسع اعمالها وبعدما نالت شهرة واسعة في المجتمعات المحلية.
استطاعت المصورة كريمة عبود المثقفة التي تجيد اللغات وقيادة السيارة من الدخول إلى المجتمعات النسائية داخل المنازل وتصويرها مع أطفالها، بالإضافة إلى تصوير المناسبات والأعياد الدينية والنزهات العائلية وفرق التمثيل وغيرها من صور الحياة اليومية
كانت صورة كريمة عبود تشبه النسخة النسائية للمصور اللبناني الأصل خليل رعد، وهو من مواليد بحمدون مهاجر إلى فلسطين، ويعتبر عميد المصورين، فهو أسس استوديو في شارع يافا في القدس خارج السور وصوّر الحياة الاجتماعية في المدن والقرى الفلسطينية إضافة الى تصويره للأحداث والشخصيات السياسية آنذاك. تلك الحياة التي ذهبت في غياهب الذاكرة بعد عام 1948.
مصورة الشمس الوطنية
وحدها الصدفة من قاد الباحث الفلسطيني أحمد مروات في العام 2006، إلى اكتشاف أول مجموعة صور لكريمة عبود، عندما أعلن جامع مقتنيات قديمة إسرائيلي من مدينة القدس في جرائد عربية محلية عن مجموعة صور تحمل توقيعًا، طالبًا المساعدة بالعثور على تاريخ هذه المصورة وجذورها، وألبوماتها الأربعة المذيلة بختمها واسمها بالعربية والإنكليزية “كريمة عبود مصورة شمس”.
وبعد اكتشافه هذه المجموعة، واصل أحمد مروات مساعيه وحصل من عائلة عبود في الناصرة على ثلاث ألبومات أُخرى لكريمة عبود مذيلة بالعربية وأُخرى بالإنكليزية بالختم نفسه. ومنذ اكتشافها أقيمت المعارض والندوات التكريمية لها في بيروت وعمان والقدس وعدد من المدن العربية، كما أُنتج فيلمًا وثائقيًا لها، وكتب توثق وتحلل الفترة التاريخية لعبود وصورتها، كما أقيمت المسابقات والجوائز الفوتوغرافية التي تحمل اسمها.
احتفى محرك البحث “غوغل” بمناسبة مرور 122 على ولادة كريمة عبود، بنشر رسم لها تظهر فيه وهي تحمل آلة تصوير. كما لا تزال الأبحاث جارية عن آثارها والحقبة النشطة التي عملت فيها. وقد اكتشف مؤخرًا إعلانات في جريدة الكرمل الفلسطينية، كانت عبود قد نشرتها وكتبت على رأس العنوان “كريمة عبود مصورة شمس وطنية”. وإطلاق صفة الوطنية على عملها دلالة واضحة على ثورية هذه المرأة التي نجحت في إصدار 112 بطاقة بريدية لمعالم تاريخية وأماكن مقدسة.
يكتب الروائي نصر الله عن أهمية صورة كريمة عبود في تأريخ الزمن وحفظه من النسيان: “ماذا لو كان باستطاعتي أن أترك الكاميرا فـي مكانها ثمانية أشهر، حتى أوائل الربيع، دون أن تتوقف عن التصوير، تصوير كل لحظة: الليل والنهار، عري الأشجار، العواصف، وحتى رنين أجراس الكنائس، آذان المساجد، صوت العصـافير، والبشـر العابرين أمام البوابات؟”.
الصورة المناضلة
لم تكن صورة عبود متقدمة بقيمتها التقنية، بالمقارنة مع صورة اليوم. كانت تحمض الصور في مشغلها الخاص، وتلونها بيديها وتنتجها. وكانت تجلب ورق الصور خصيصاً من مصر.
لم تبقَ كريمة عبود وحيدة كمصورة محترفة في فلسطين، ففي أواخر الثلاثينيات برز إسم مارغريت سابا عبده وصورها التي تظهر مهارة وتحكُّم في العدسة، خصوصاً في أسلوب البورتريه للصور الشخصية والعائلية داخل الاستديو. إلا أن مارغريت انتقلت بعد عام 48 إلى مدينة طرابلس حيث عملت في استوديو شقيقها ومن ثم إلى شارع الحمرا في بيروت حيث توفيت في العام 1974.
تبقى أعمال كريمة عبود، رائدة المصورات في العالم العربي، والشخصية الثورية التي واجهت الاستعمار البريطاني والتقاليد المحلية عبر تشجيع النساء الفلسطينيات على الظهور أمام عدستها، لتحفظ الوجوه التي مرت على ذاك الزمن المسلوب، حيث كانت تحرص على إظهار الحضارة في البيوت، وجماليات الناس وملابسهم التقليدية، والمباني الجميلة، والحياة المتنوعة الشعبية والحضرية.
ومن سخرية القدر أن هذه الرائدة، تزوجت عام 1930 من يوسف طايع، وهو تاجر من مرجعيون، وأجرى مراسم الزواج والدها القس سعيد عبود، ولم تتدوّن مهنة كريمة في عقد الزواج، بل مهنة زوجها فقط، فقد كان من المتعارف عليه حينها أن الرجل هو الذي يعمل.
في العام 1940 توفيت كريمة عبود بعد اصابتها بحمى شديدة، يقول المقربون منها: كانت الجنازة حزينة من البيت إلى المقبرة، حزينة وطويلة رغم قصر المسافة، كانت الكاميرا إلى جانب نعشها، تنفيذًا لوصيتها بقولها: “أريدها أن ترافقني حتى القبر، لكن لا أريدها أن تدفن معي، أريدها أن ترى كل الأشياء التي لن أستطيع رؤيتها فيما بعد”. كتب إبراهيم نصر الله في ختام روايته عنها:
في البعيد كان ظل يهمس للظل الآخر بجانبه، والنعش في مرمى بندقية الظل الأول…
- هل انت متأكد انها هي التي ماتت؟
- كما أراك
- متأكد تمامًا؟
- ولكنني على يقين من أنها خدعتنا، إنها تخدعنا.
- لماذا تقول شيئًا كهذا وقد تأكدت من أنها اختفت من هذا الوجود؟!