الجنوبيّ حسن بشارة..”فرّان” رفع الميداليّة الأولمبيّة

لا يحتاج المرء سوى حدث واحد كي تتغيّر مسارات حياته، وفي الغالب يحصل هذا الحدث في عمر مبكّر، بسبب الحساسيّة الفائضة، وبداية تكوين الشخصيّة.

في مطلع مراهقته، وبينما كان مع أصحابه في مكان عامّ، تلقّى حسن بشارة صفعة من شخص يكبره بسنوات. لم يكن بشارة قد ارتكب خطأً عظيمًا كي ينال تلك الضربة على وجهه. وقتذاك جمد الفتى في مكانه، غاص في عمق كيانه، واتّخذ قرارًا غيّر مجرى حياته، بل غيّر كثيرًا من سطور تاريخ وطنه.

في تلك اللحظة، عزم صاحب البنية الضخمة، على توظيف قوّته في قالب احترافيّ، ويمنهج مسار عزيمته وعضلاته، ويمنع أيّ متطفّل من الاقتراب منه، ولو اقتربت مئات من “المتطفّلين” في ما بعد، طمعًا بالتقاط صورة مع البطل الذي حقّق للبنان والعرب الميداليّة اليتيمة، في أولمبياد موسكو، سنة 1980. في تلك اللحظة، قرّر حسن ممارسة الرياضة بشكل احترافيّ.

حسن بشارةزمن الأبيض والأسود والميداليات
ابن أهله والطبيعة

في بلدة القنطرة الجنوبيّة (قضاء مرجعيون) ولد حسن علي بشارة (17 آذار 1944) في بيت استثنائيّ، من والد صاحب أملاك ومواشٍ، وأمّ صلبة ببنية قويّة. دعم الوالد علي سلامي بشارة أدهم خنجر وصادق حمزة، لوجستيًّا وبالمؤن والإمدادات الضروريّة، بينما اشتهرت الوالدة زينب شحادة بموقفها في مواجهة الضابط الذي جاء يبحث عن أحد أبنائها كي يجنّده في الحرب.

سرح حسن بشارة في براري القنطرة، وكان يهبط نحو وادي الحجير، وييمّم مسيره شطر وادي السلوقي في مغامرات متعدّدة، فكان ابنًا طبيعيًّا للمكان، شاربًا من عيونها مياهًا متسرّبة من بين الصخور، وكذلك شرب حليب القطعان من الدلاء، قبيل غليها على الحطب. في سنيّه الاستكشافيّة تلك، كان يعوز كمّيّة من الطعام تفوق ما يحتاجها أترابه، وكان يصارع الجميع، لاعبًا على الأتربة والأعشاب. اعتاد الانتصار حتّى في تلك المباريات العفويّة، من دون أن يشهد عليها حكَم أو تعرفها حلبة.

بائع المخبوز

نزل بشارة إلى بيروت سنة 1958، بكل ما في ذلك الفعل من ارتجال وعصاميّة، لا مال في جيبه ولا زوّادة في يمينه وهو ابن الـ14 عامًا. عمِل في فرن مدّة طويلة وكان ينام فيه، بين ألواح العجين، ملتحفًا أكياس الطحين الفارغة. ضمِن قوت يومه، بطبيعة عمله الشاق، إذ كان يستكمل الشغل عصرًا، حاملًا “سدرًا” (طبقًا كبيرًا من القشّ أو صينيّة) من العجائن المخبوزة فوق كتفه من “بريوش” وكعك وما شابه.

نزل بشارة إلى بيروت سنة 1958، بكل ما في ذلك الفعل من ارتجال وعصاميّة، لا مال في جيبه ولا زوّادة في يمينه وهو ابن الـ14 عامًا. عمِل في فرن مدّة طويلة وكان ينام فيه، بين ألواح العجين

عندما انتسب بشارة إلى نادٍ رياضيّ ازدادت حاجته الجسمانيّة إلى الطعام بكمّيّات أكبر، بغية توفير سعرات يحرقها في ساعات الإصرار على النجاح، فكان رفاقه يتواصلون مع الجزّارين لتأمين كتل الليّة له، كونها أقلّ ثمنًا، في حين يحصل على “قحاطة” البقلاوة بشكل دوريّ، وللسبب عينه.

منطلقات التدريب والمراتب

كانت تدريباته الأولى في رياضة الملاكمة، ثم انتقل إلى لعبة المصارعة، فانضمّ إلى نادي “الفتوّة” في منطقة الغبيري، تحت اشراف المدرّب ابراهيم عواركي الذي كان مصارعًا دوليًّا.

بدأ ابن القنطرة بتذوّق طعم الانتصارات الرسميّة، في العام 1960، محرزًا المرتبة الأولى في المصارعة الرومانيّة في بطولة لبنان للدرجة الثانية، وينال المرتبة الأولى عن الفئة الأولى بعد ثلاث سنوات، ويبقى محتلًّا هذا المركز عامًا تلو عام. في تلك الاثناء، حصل حسن بشارة على وظيفة في “شركة طيران الشرق الأوسط”، عاملًا في المطبخ الذي تُحَضَّر فيه أطعمة ركّاب طيارات الشركة.

أولى الانجازات الكبرى

كانت أهمّية العام 1965، أنّه عرّف بشارة على العالم العربيّ مثلما عرَّف العالم العربي عليه، إذ مثّل لبنان في الدورة العربيّة الرابعة في القاهرة، ويعود ظافرًا بالميداليّة الفضّيّة، كفاتحة خير أوّليّة، ثمّ ينال المرتبة الرابعة في تونس سنة 1967، لكن لم ترضه النتيجة حتّى حقّق تعويضه المعنوي بعد أسابيع قليلة، عندما زارت لبنان بعثة رياضيّة ألمانيّة وأقامت مباريات عديدة مع رياضيّين لبنانيّين، وكان بشارة الفائز الوحيد من لبنان، إذ هزم المصارع الألماني “باشمان” بالتثبيت.

في العام 1971 ربح مباراته في بطولة العالم التي جرت في صوفيا- بلغاريا
أولمبياد ميونخ

كثيرة هي البلدان التي زارها حسن بشارة ضمن البعثات الرياضيّة اللبنانيّة، ومثّل وطنه في الألعاب الأولمبيّة في المكسيك سنة 1968 وفي كندا، مشاركًا في بطولة العالم 1970،  فيحقّق فوزًا مميّزًا بعد سنة في بطولة العالم التي جرت في صوفيا- بلغاريا. غير أنّه انسحب من أولمبياد ميونخ في العام 1972، على أثر الظروف التي رافقت الدورة بعد العمليّة التي نفّذتها “منظّمة أيلول الأسود”، وكان مطلبها الإفراج عن 236 معتقلًا في السجون الإسرائيليّة معظمهم من العرب، بالإضافة إلى كوزو أوكاموتو من الجيش الأحمر الياباني. وقتذاك اعتُبر بشارة خاسرًا أمام المصارع السويسري، علمًا أنّ انسحابه لم يكن قرارًا فرديًّا، إنما قرار انسحاب البعثة اللبنانيّة ككلّ.

شهادتا تدريب وتحكيم

لم يتوقّف البطل اللبنانيّ عن تطوير خبراته، فكان العام 1974 عامًا هامًّا، بعد مشاركته في دورتين، الأولى لإعداد المدرّبين في بغداد حيث نال شهادة مدرّب، بينما الثانية خوّلته أن يكون حكمًا. شهادتان ساعدتاه في افتتاح ناديه الخاص “نادي البشارة” بعد سنوات.

لم تثنه الحرب اللبنانيّة التي اندلعت في نيسان 1975 عن المشاركة في البطولات، فشارك في الجزائر في دورة ألعاب البحر الأبيض المتوسّط حاصدًا الميدالية البرونزيّة، ثمّ شارك في الدورة عينها التي نظمتها يوغوسلافيا سنة 1979، بعدها نال الذهبيّة في “الدورة العربيّة الخامسة لكأس فلسطين” التي جرت في بغداد.

برونزية أولمبياد موسكو

الحدث الأكبر للمصارع اللبنانيّ الجنوبيّ، جرى في موسكو، وكان في الـ36 من عمره إذ شارك في وزن 100 كيلوغرام، ففاز على بطل إيطاليا بتثبيت الكتفين، ثمّ على بطل رومانيا، ليخسر بعدها أمام بطل الاتّحاد السوفييتي ألكسندر كولشنسكي، محرزًا المركز الثالث، وبرونزية عربيّة وحيدة على الرغم من مشاركة 700 عربيّ (منهم سبعة لبنانيّين مثّلوا البعثة اللبنانيّة) لم يتمكّنوا من حصاد أيّ من ميداليّات دورة الألعاب الأولمبيّة التي نظّمتها موسكو سنة 1980.

لهذا احتفل به العرب بقدر ما احتفى به لبنان، واحتّلت صورته مقدّمات نشرات الأخبار، وصفحات الصحف الأولى. رفع ذلك الفرّان القديم ميداليّته أمام أعين العالم، وفي مطار بيروت الدوليّ حيث استقبلته حشود لبنانيّة، هو عينه الذي رفع طويلًا صينيّة الخبز، ذات أيّام شاقّة.

أصبح حسن بشارة، الحدث، ورآه اللبنانيّون في القصر الجمهوري، مُكرَّمًا من الرئيس الياس سركيس، وفي القصر الحكوميّ مكرّمًا من الرئيس سليم الحصّ، وفي وزارة التربيّة من الوزير بطرس حرب الذي منحه مبلغ 10 آلاف ليرة لبنانية (ما يعادل 4000 دولار في حينه) وكذلك في بلديتيّ بيروت والغبيري. وكانت احتفالات لم تنتهِ، حتّى بعد أن رقد البطل في قبره بتاريخ الـ24 من أيلول (سبتمبر) 2017، ظلّت تأتي المراسلات للعائلة من قبل السفارات، آخرها من قبل الفرنسيّين، قبيل افتتاح دورة ألعاب البارالمبيّة سنة 2024، في باريس.

من الأفلام التي شارك فيها حسن بشارة
تجارب سينمائيّة

بعد إحرازه الميداليّة الأولمبيّة في العام 1980، عرض المخرج سمير الغصيني على حسن بشارة المشاركة في فيلم “المغامرون” 1981، إلى جانب البطل محمّد المولى وأحمد الزين وهويدا وميشال تابت. ثمّ لعب دورًا آخر في فيلم “عودة البطل” 1983 لسمير الغصيني مع محمّد المولى ومادلين طبر وغيرهما، وكرّرها ثالثة في فيلم “الغجريّة والأبطال” 1984 لسمير الغصيني مع محمّد المولى وجان سعادة وأحمد الزين ورولا حمادة، وكان هدفه من المشاركة في التمثيل إظهار قوّته وقدراته البدنيّة.

اعتزل حسن بشارة المصارعة سنة 1983. وفي العام 1987 انتخب نائبًا لرئيس الاتّحاد اللبنانيّ للملاكمة، ثمّ عضوًا في اتّحاد المصارعة، وكذلك عضوًا في الاتّحاد العربيّ للمصارعة، وشغل لاحقًا منصب رئيس الاتّحاد اللبناني للمصارعة وبقي كذلك سنوات عدّة.

 

حسن بشارة إلى اليمين على منصة التتويج
الميداليات والأوسمة التي أحرزها حسن بشارة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى