الحجر العرسالي.. المزاحمة عصفت به والحرب أنهكته
بين الأرض والإنسان حبل سرّة وجدانيّ لا ينقطع، فالأرض هي الأمّ الثانية، هي الإنتماء والأمان والهويّة، تزداد متانة الحبل وقوّته بقدر ما تشكّل الأرض مصدر رزق وتجذّر لأبنائها، هذا ما نراه بالعين المجرّدة بين المواطن “العرساليّ” وجبال بلدته.
خبّأت جبال عرسال في أحشائها ثروة طبيعيّة هائلة، إلى أن اكتشفها لاجئ فلسطينيّ يُدعى أبو خالد سعيد اللحام، الذي وفد إلى البلدة في ستينيّات القرن الماضي، مهجّراً من وطنه بسبب الاحتلال الإسرائيليّ. كأنّ الزمّن يتكرّر، وها أنّ الاحتلال عينه يعلن حربه المفتوحة المدمّرة على غزّة الفلسطينيّة، ما وجّه “طعنة” كبيرة إلى هذا القطاع الذي يستفيد منه آلاف العائلات على مستوى الوطن برمّته.
حجر عرساليّ ملوّن متين
ما من منطقة في لبنان لم تتزيّن جدران بعض مبانيها وحدائقها بالحجر العرساليّ الخام، أو المصنّع أو المنحوت. في الرحلة الشاقّة لهذا الحجر المشهور يقول مسعود عزّ الدّين، صاحب مقلع ومنشرة في عرسال، لـ”مناطق نت”: “الحديث عن الحجر في بلدتنا طويل ومتشعّب وله أوجه عدّة، بين النعمة الربّانيّة التي أفضت خيرها على أبناء البلدة والجوار وعلى جميع العاملين في هذا القطاع، وما وصل إليه اليوم من انخفاض مريع في الأسعار”.
ويضيف: “يتميّز حجرنا من حيث الجودة بالصلابة والمتانة وتنوّع ألوانه بين أبيض وأسمر وأصفر وبلون موج البحر. وكذلك بأحجامه ومقاساته. وهو لا يمتصّ المياه، ولا يخزّن الحرارة، ولا تنبت فيه الحشائش و”الخزّ”؛ لذلك يستخدم كعازل أيضًا، أمّا من حيث الشكل فالعين أفضل شاهد، ومئات القصور على امتداد لبنان خير دليل”.
عن رحلة استخراجه وتصنيعه يضيف عزّ الدين (ضاحكًا): “إنّها أعمال شاقّة بكلّ معنى الكلمة، تشبه أعمال المناجم التي نسمع ونقرأ عن قساوتها، تبدأ في المقلع حيث يتمّ نقب جبال بأكملها بحثًا عن طبقاتها الصالحة للتصنيع”. ويتابع:” منذ العام 2007 بتنا نعتمد في المقالع على نوعيّة معدّات جديدة منها: “بوكلين” و”جنزور”، و”حزّازة” إلى جرّافات كبيرة مجنزرة ومُدولبة كلفتها أكبر، بيد أنّ مصاريفها أقلّ، وتحافظ على سلامة الصخور بنسبة أعلى، يصل متوسط كلفتها إلى نحو 130 ألف دولار أميركيّ وصعوداً. بعد ذلك يتمّ نقلها إلى المنشرة كمادّة خام، ويجري تصنيعها تمهيدًا لتسويقها”.
إيجابيّات بمواجهة مضاربات “صبيانيّة”
حول إيجابيّات وفوائد ما يزيد على 400 منشرة ومقلع في عرسال، يؤكّد عز الدين: “نحن كبلدة حدوديّة نائية، بعيدة عن الوظائف والمؤسّسات، وفّرت صناعة الحجر فرص عمل كثيرة لنا ولأبنائنا. لقد ثبّتتنا في أرضنا بدل النزوح إلى بيروت أو الجبل، كما كان يحصل سابقًا. كذلك رفعت من مستوى معيشتنا وحياتنا بشكل ملحوظ، وساهمت في بناء شبكة علاقات اجتماعيّة وعائليّة لمعظم أبناء البلدة وعلى مستوى لبنان”.
ويتابع: “لكن من أسف شديد، فإنّ الإنهيار الحاصل على مستوى الدولة، أثّر سلبًا في هذا القطاع، بسبب توقّف قروض الإسكان والمشاريع. أمّا “ولدنات” التجّار “الفايسبوكيّين” والطارئين على القطاع، الفاقدين للإلمام بالمصلحة والمعرفة، أوصلونا إلى مأزق كبير وخطير، فأحيانًا يطالعنا من يعرض بضاعة للبيع بسعر الكلفة أو أدنى، ما يشكّل تدميرًا فعليًّا لمصدر رزق وعيش الآلاف. لذلك، نناشدهم أن يتّقوا الله في لقمة أهلهم، وألّا يبدّدوا ويبدّلوا نعمة الله بنقمة طمعهم وجشعهم”.
وبحسب عزّ الدين، تبلغ كلفة إنتاج المتر المكعب الواحد من الحجر العرساليّ ما يقارب 600 دولار أمريكيّ، في أرضه، أيّ من دون نقل، “لكنّ التجّار الفايسبوكيّين يبيعون المتر المكعب بنحو 500 دولار، وهذا يعدّ كارثيًّا على القطاع”.
مسعود عزّ الدين: يتميّز حجرنا من حيث الجودة بالصلابة والمتانة وتنوّع ألوانه بين أبيض وأسمر وأصفر وبلون موج البحر. وهو لا يمتصّ المياه، ولا يخزّن الحرارة، ولا تنبت فيه الحشائش و”الخزّ”؛ لذلك يستخدم كعازل أيضًا.
يتابع عزّ الدين كلامه بغصّة و”خوف من الآتي”: “بالرغم من كلّ المشاكل والصعوبات التي نعيشها ونحياها، جاء العدوان الإسرائيليّ ليشكّل ضربة قاتلة لنا. لقد توقّفنا عن العمل كلّيًّا، إذ إنّ سوقنا الأوّل هو جنوب لبنان”. ويقول خاتماً حديثه: “في حالة الحرب لا نعرف ماذا سنفعل! فمن ناحية كلفة الإنتاج مرتفعة وأموالنا في السوق “وما إلك عين تطالب حدا بهالوضع السيّء”، ومن ناحية ثانية العمّال بحاجة إلى العمل على أبواب الشتاء، فهناك أكثر من خمسة آلاف عامل وموظف في هذا القطاع باتوا مهدّدين بلقمة عيشهم. ببساطة، الوضع محزن جدًّا، ونتمنّى الفرج من الله”.
تعرية الجبال ومعوّقات دائمة
بالرغم من الإيجابيّات الكثيرة لصناعة حجر الزينة، إلّا أنّ سلبيّاتها، اجتماعيًّا واقتصاديًّا، لا يمكن تجاهلها، إذ تساهم هذه المصلحة في التسرّب المدرسيّ المبكر والكبير للذكور، إذ يلتحقون فيها لأنّهم من خلالها، يستسهلون تحصيل المال على الدراسة، والزواج المبكر، ما يُحدث تفاوتًا ثقافيًّا وعلميًّا واسعًا بين الذكور والإناث، وهذه مشكلة اجتماعيّة أكيدة”.
يقول عضو بلديّة عرسال السابق، حافظ الحجيري لـ”مناطق نت”: “إنّ صناعة حجر الزينة في بلدتنا تحمل تناقضًا غريبًا، فهي خلقت قطاعًا صناعيًّا بالتأكيد، لكنّها أتت على مساحات زراعيّة كبيرة، خصوصًا في كروم العنب وحقول القمح والشعير، وأعدمت مناطق الرعي، ما جعل أصحاب قطعان الماشية يتوهون بين الشرقيّ والغربيّ”.
ويضيف: “سبّبت المقالع تعرية الجبال، كونها تؤثّر بشكل سلبي مباشر في الغطاء النباتيّ، وتهشّم القشرة الخارجيّة للأرض، وغبارها يقتل العشب. كما أنّها تحدث ضررًا مباشرًا على المياه الجوفيّة، إن بسبب المواد المستخدمة في التفجيرات (النيترات)، أو لجهة إحداث خلل في مساربها”.
ويتابع الحجيري: “إنّ صناعة الحجر لم تدخل في عمليّة التنمية المستدامة، وفي خلق فرص عمل ثابتة، اذ يمكن أيّ متموّل صاحب إمكانات مادّيّة عالية إزالة جبل بكامله في خلال فصل الصيف، بينما المنطق يوجبه أن يستمرّ العمل به لسنوات عديدة. أمّا الخطر الأكبر في ظلّ غياب الرخص والتأمين، فهي حوادث العمل ونتيجتها الحتميّة، إمّا الموت أو الإعاقة الدائمة، كفقدان النظر وبتر الأطراف”.
بالرغم من أن جبال عرسال وما تحتويه من كنز حقيقي، وفّر لأبناء المدينة فرصاً حقيقية للعمل والعيش، إلا أن ذلك لم يمرّ بدون ضريبة، فهناك نحو 120 عاملاً في مقالع الحجر في عرسال وفي مناشيرها أصيبوا بجراح أو بإعاقة جزئيّة أو دائمة، أو حتى فقدوا حياتهم أثناء العمل في هذا القطاع، بحسب إحصاء سابق لبلدية عرسال.
يروي أحمد الحجيري، وهو شاب وسيم صاحب نكتة حاضرة وروح جميلة، وأب لثلاثة اطفال صغار، حيثيّات رحلته القصيرة إلى مقالع الحجر، فيقول لـ”مناطق نت”: “كغالبيّة شباب البلدة توجّهت للعمل في الحجر كمصدر رزق وحيد متوافر. بعد مدّة، كنت أقوم بالتفجير لأنّني معروف بالحرص والإنتباه، لكن للأسف لم أكن خبيرًا بنوعيّة المواد المستخدمة، ولأنها كانت مغشوشة، أُصبت في خلال تفجير الصخور، في صيف العام 2014 وفقدت بصري بنسبة عالية، وخضعت لعدّة عمليّات، لكن للأسف من دون جدوى”.
يتابع أحمد متسائلًا: “برأيك، ماذا يعوّض عليك صاحب المقلع؟ وهل كلّ حجارة عرسال تساوي بصر إنسان؟ أنا أستطيع التحرّك نسبيًّا، لكن شبابًا غيري فقدوا أبصارهم بالكامل، ويعيشون على الهامش”. ويختم باسمًا كعادته: “هلّق أكلناها، لكن يجب على الجميع التنبّه والحذر والبحث عن وسيلة غير التفجير في المقالع”.
قد يكون الحديث عن ضرورة تحسين وتحديث هذا القطاع الحيوي الآن في غير أوانه، خصوصاً أن البلاد برمتها يعصف بها الركود من كل حدب وصوب، فجميع القطاعات تعاني مرارة توقف الأعمال وصعوبة الاستمرار. لكن وجب القول إنه بعد انجلاء غمامة الحرب العدوانيّة على فلسطين ولبنان، وعودة الأوضاع إلى ما كانت عليه، ينبغي على المعنيين بهذا القطاع، خصوصاً وزارات الصناعة والبيئة والداخليّة، وبالتعاون مع بلديّة عرسال، إيجاد آليّات علميّة وعمليّة تضع هذا القطاع على الطريق السليم من حيث التنظيم والتشريع، وذلك بما يؤمّن مصادر دخل ثابتة للناس، وفتح الباب لتصدير الحجر العرساليّ وتسويقه إلى الخارج، إضافة لاتّباع كلّ وسائل الأمان والحماية، وصولاً إلى الدفع بهذا القطاع ليكون مصدر نعمة لا مصدر نقمة لأبناء عرسال ومحيطها.