الحرب تجدّد مواسم النزوح.. آلاف السوريين يلجأون إلى عرسال
كأنّ مآسي اللجوء المريرة، قساوة الغربة والتشرد، بؤس المخيمات، لا تكفي اللاجئ السوريّ في لبنان مآسيه، والتي ستُروَى لسنوات طويلة، على أنَّها وصمة عارٍ على جبين الإنسانيّة، قليل منها ظهر وتَمَّ توثيقه، وكثيرٌ كثيرُ لا يزال مخفيًّا طيّ الكتمان، وقد يبقى كذلك.
لأول مرة منذ سنوات، أَخْرَج العدوان الاسرائيليّ الإجراميّ على لبنان اللجوء السوريّ من مربع المزايدات والمماحكات، بين القوى السياسيّة المتناحرة، ووضعَه في مربّع المآسي المتراكمَة.
مخيمات تتكدّس
بلدة عرسال البقاعيّة، فتحت أبواب بيوتها ومدارسها، لاستقبال الضيوف النازحين، الهاربين من وحش الإجرام الاسرائيليّ، إذ بلَغ عدد اللبنانيّين منهم حتّى يوم الجمعة 6230 لبنانيًّا مُسجَّلًا، توزعوا على سبع مدراس رسميّة، إضافة إلى مئات العائلات في منازل أبنائها.
أمّا اللاجئين السوريّين، فلم تلتفت إليهم أيّ جهة إغاثيّة، بحسب ما يقول سامر عامر مُنَسق مخيّمَات اللاجئين السوريّين لـ “مناطق نت” ويضيف: “وفَدوا إلى البلدة قادمين من مناطق لبنانيّة متفرّقَة، غالبيتهم من البقاع الشمالي الذي تعرّض لقصفٍ عنيف، بلَغَ عددهم 850 عائلة مسجّلة، ما يقارب 4300 شخص، توزعوا على ثلاث مدارس صغيرة، بقدرة استيعابيّة ضعيفة، 18 عائلة في مدرسة قرية حياة، 12 عائلة في مدرسة الملعب، 11 عائلة في مدرسة مخيم أبناء الشهداء، بينما تَوزّعت بقيّة العائلات على مخيمات أهلنا في البلدة، والبالغ عددها 143 مخيّمًا”.
حول تقديمات الهيئات والجمعيّات الدوليّة الإغاثيّة ومنظّمة الأمم المتّحدة لشؤون اللاجئين UNHCR للنازحين اللاجئين يؤكّد عامر أنّها “صفريّة بالكامل، لم يساعدوا ببطّانيّة واحدة أو بليتر مياه، اقتصرت بعض التقديمات على الجمعيّات المحلّيّة وهي مشكورة بالطبع، لكن امكاناتها صغيرة، الناس قَدِمَت إلينا عارية بالكامل، كأنّها بداية اللجوء، عملنا قدر المستطاع على توزيعهم في مخيّمات، لقد باتت المخيّمات “مرصوصة متل المكدوس”.
وعن عدد المغادرين إلى سوريّا يتساءل عامر: “أيّ عودة يا رجل؟ أنظر إلى مخيّمات السوريّين في عرسال كيف ازداد عدد المقيمين فيها، قد يكون قد غادر بعض الأفراد، لكن لا يمكننا الحديث عن مغادرة جدّيّة، أقلّه هنا”.
فرحة عرس لم تكتمل
على هامش موجة نزوح اللاجئين السوريّين، قصص مرارات تتكرّر، تكتب كأنّها فصل من كتاب البؤساء والمعذّبين في الأرض، كأنَّ قدَرَ أصحابها العيش على حافّة القلق دائمًا.
سامر عامر: اقتصرت بعض التقديمات على الجمعيات المحلية وهي مشكورة بالطبع، لكن امكاناتها صغيرة، الناس قَدِمَت إلينا عارية بالكامل، كأنها بداية اللجوء، عملنا قدر المستطاع على توزيعهم في المخيمات
الشاب السوريّ منصور بكر، ابن الـ 25 ربيعًا، سبق أن لجأ مع أهله إلى بلدة البزّاليّة البقاعيّة قبل ثماني سنوات، يروي في حديث لـ “مناطق نت” قصّة نزوحه مع عروسه بعد زفافهما فيقول: “قبل ثماني سنوات سكنت مع أهلي في بلدة البزّاليّة، أعمل في الزراعة والبساتين وبكلّ ما توافَر لي، قبل سنتين استأجرت بيتًا صغيرًا، عملت على تجهيزه لأعيش فيه مع خطيبتي، عقدت زَوَاجي قبل بداية الحرب بيومين، ثمّ جاء القصف والصواريخ، هربنا إلى هنا نحمل ثيابنا فقط، أهل المخيم قاموا باستضافتنا، جمعوا لنا ما يساعدنا قليلًا”.
حول أسباب عدم مغادرته إلى سوريّا يقول بكر: “عودتي إلى سوريّا مثل عودة غيري من الشباب السوريّين، دونها حواجز وعوائق، خدمة الجيش، تسوية الأوضاع المصالحات، ثمّ إلى أين سأعود؟ هناك بيتنا مدمَّر، وهنا دمَّر كذلك، خسرت كلّ شيء” يختم متحسرًا.
ضغط أمنيّ وموافقات مسبقة
منذ سنوات عدّة، كان أيّ تحرك ضمن المخيّمات، زيادة خيمة، استقبال عائلة جديدة، تغيير مكان الإقامة، يحتاج إلى سلسة من الإجراءات منها: موافقة البلدية، موافقة صاحب الأرض، موافقة المخابرات، موافقة رئيس المخيّم، كلّ هذه الإجراءات يضعها البعض في باب الضغط على اللاجئين، لحثّهم على الرحيل والمغادرة إلى سوريّا.
لذلك حصل الضياع في البداية، حول كيفيّة التعامل مع نزوح اللاجئين السوريّين، إلى أن صدر القرار بمنعهم من دخول مراكز إيواء اللبنانيّين، وترك موضوعهم إلى رؤساء المخيّمات، ما خلق ضغطًا كبيرًا على هؤلاء.
أبو محمود الحقوق رئيس مخيم البراء اثنان، يقول في حديث لـ “مناطق نت”: “تمَّ إبلاغنا من قبل الجهات الرسميّة، أنّ استيعاب السوريّين النازحين من المناطق اللبنانيّة، هو مسؤوليّتنا وعلينا إيجاد الحلول، دون تقديم أيِّ مساعدة، لا خيم، لا أدوات نوم، لا مواد غذائيّة، تدَبَّرْنا الأمر بتوزيع الناس على مخيّمات، لكنّه حلّ موقّت ولأيام، فالخيمة المُجَهَّزة لثلاثة أشخاص كيف ستتّسع لعشرة؟”.
ويضيف: “لذا، جَمَعنا ما تَيَسَّر من الخيم وموادّ غذائية وموادّ تنظيف وبطّانيّات وفرش اسفنج للنوم، لكن نحن مقبلون على شتاء ستزداد احتياجات الناس خصوصًا موادّ التدفئة. المفوّضيَّة والمنظّمّات انحسرت تقديماتها، هذه كارثة كبرى تحتاج إلى دول لحلّها، ليس باستطاعة الأفراد تحمّلها”.
المستجيب الأول جاهز بغصَّة
في العام 2018 تمَّ تشكيل وتدريب فِرَق استجابة شبابيّة، بالتعاون بين البلديّات وهيئة إدارة الكوارث في رئاسة الحكومة، مَهَمَّتها إغاثة وإسعاف عندَ أيِّ كارثة،: حرائق، سيول وزلازل. تشَكَّل الفريق حينها من شابّات وشُبّان لبنانيّين وسوريّين، تَمَّ تدريبهم وصقلهم من خلال دورات عدّة، وأجروا مناورات حيَّة للتأكّد من جهوزيتهم.
منذ اللحظات الأولى للحرب، نزل عناصر فريق المستجيب الأوّل بكامل جهوزيتِّهم على الأرض، يُرشدون الناس إلى مراكزِ الإيواء والبيوت، يُحصون العائلات، يشاركون في توزيع المواد المتوافرة.
الشاب السوريّ منير بكّور، عضو الفريق، يقول في حديث مع موقع “مناطق نت”: “فور توافد النازحين، لبَّينا النداء، سارعنا إلى القيام بواجبنا، فالكارثة تطال الجميع، كلّ المقيمين في لبنان، لكن للأسف اللاجئ السوريّ الذي نزح إلى عرسال لم يلقَ أيِّ اهتمام أو رعاية من أيِّ جهة، فقط جمعيّات محلّيّة من البلدة وأهالي المخيَّمات هم مَن بادروا إلى مدّ يد العون والمساعدة، هذا يترك في القلب غصَّة وتساؤل عن سبب التمييز بين الناس، كلّ ما تدربنا عليه، كان هدفه إنقاذ الإنسان كإنسان، دون النظر إلى جنسيته أو دينه أو لون بشرته، لكن يبدو أنّنا كسوريّين مطاردين بالعذاب والمعاناة، أملنا أن تنتهي هذه الحرب، وكلّ الحروب، كي يعود كلّ لاجئ ونازح ومهجَّر إلى وطنه وأرضه وبيته”.
في كلّ عرس لنا قرص
بين الجدّ والمزاح، يتَنَّدر “العراسلة” على واقعهم هذه الأيام، كثافة الناس في شوارع بلدتهم، يردّدون مثليَن شعبيّيَن شائعيَن: “بتحبل بالصين بتخلّف عنا” و”بكلّ عرس إلنا قرص”، نظرًا للظروف الصعبة التي يعيشونها منذ بداية اللجوء السوريّ العام 2011، وتسمعهم جميعهم يردّدون في حواراتهم أو عبر وسائل التواصل ويُكرِّرون الجملة ذاتها: “نختلف في السياسة وقراءة الواقع، لكن الواجب الإنسانيّ لا نقاش فيه”. يستقبلون الناس بكلّ طيبة خاطر، يقاسمونهم “فلس الأرملة”، يأملون عودة اللاجئ السوريّ إلى وطنه، وعودة النازح اللبنانيّ إلى بيته بكلّ أمان وهدوء وسلام.