الحرب تعبث بصحة اللبنانيين النفسية.. قلق وخوف وصدمات
بعد مرور 15 عامًا على توقّفه عن التدخين، ها هو إبراهيم يعود من جديد، والسبب ما يعيشه يوميًّا من قلق وتوتّر وكوابيس فضلًا عن نوبات هلع.
حال إبراهيم كحال معظم اللبنانيّين الذين يعانون من الضغوط النفسيّة جرّاء الحرب المندلعة منذ السابع من تشرين الأوّل (أكتوبر) الماضي، وما رافقها من دمار هائل ألحقته آلة الحرب الإسرائيليّة في القرى الجنوبيّة، والذي يترافق مع تحليق كثيف شبه يوميّ لطيران العدوّ في الأجواء اللبنانيّة، وتوالي الغارات على بعض القرى البقاعيّة، إلى الخرق المتكرّر لجدار الصوت فوق معظم المناطق اللبنانيّة بما فيها العاصمة بيروت. يترافق ذلك مع تزايد المخاوف عند اللبنانيّين من توسّع رقعة الحرب لتصبح شاملةً بعدما كانت محصورة فقط بالمناطق الحدوديّة.
لهذه المخاوف تداعيات جدّيّة على الصحّة النفسيّة للبنانيّين، تظهر على شكل صدمات، من الممكن أن تكون مباشرة أو قد تظهر بعد فترة. أمّا في أحوال الأشخاص المتواجدين ضمن بيئة الحرب فهم يعيشون في حال إنكار ورفض للواقع على رغم معرفتهم للخطر المهدّد لحياتهم، وفي هذه الحال يمكن أن تتشكّل صدمة كبيرة لديهم، ومن ثمّ إلى اضطراب ما بعد الصدمة عند بعض الأشخاص.
صدمات متفاوتة
تختلف أنواع الصدمات التّي تظهر بسبب الحرب، منها الصدمة الحادّة، ومنها المزمنة والمعقّدة، وصولًا إلى الصدمة الثانويّة أو غير المباشرة.
لهذه المخاوف تداعيات جدّيّة على الصحّة النفسيّة للبنانيّين، تظهر على شكل صدمات، من الممكن أن تكون مباشرة أو قد تظهر بعد فترة. أمّا في أحوال الأشخاص المتواجدين ضمن بيئة الحرب فهم يعيشون في حال إنكار ورفض للواقع
تُعتبر الصدمة الحادّة أكثر أثرًا وقوّة على الفرد، بينما الصدمة المزمنة عبارة عن صدمات متكرّرة تنتهي ليعود الشخص ويعيش صدمة أخرى جديدة، في حين تتخلّل الصدمات المعقّدة صدمات قويّة متتالية، تؤدّي إلى شعور عند الشخص المصاب بفقدان الأمل من إيجاد الحلول والتخلّص من الصدمات.
أمّا عن الصدمات الثانويّة فتكون غالبًا لدى الأشخاص غير المتواجدين في مكان الحدث بشكلٍ مباشر، وتتشكّل من خلال الخوف على عائلاتهم أو أقربائهم أو أصدقائهم.
لبنانيّون ضحايا الصدمات
تختلف أنواع الصدمات من شخصٍ إلى آخر بحسب المرونة النفسيّة لكلّ فرد. وفي هذا الإطار تقول المعالجة النفسيّة شيماء الحزواني لـ “مناطق نت”: “ازدادت أعداد الأشخاص ممّن لجأوا إلى العلاج النفسيّ منذ بدء الحرب، وهم متنوعو السكن، فمنهم من يقيم في الجنوب حيث الحرب على أشدّها، ومنهم في بيروت، وهناك أشخاص خارج لبنان، يعانون الصدمات الجديدة والخوف والقلق”.
تتابع الحزواني: “بالنسبة إلى المتواجدين داخل لبنان، هم يعانون من أعراض الصدمة والخوف والقلق والتوتّر واستعادة لمشاهد قديمة من أيّام الحرب الأهليّة وحرب تمّوز العام 2006 وانفجار مرفأ بيروت العام 2020 ومعظمهم يعانون من هذه الأعراض بشكلٍ قويّ وغير سهل، حيث تأتي الصدمات على شكل اضطرابات في النوم والإنتاجيّة”.
جينات اللبنانيّين قابلة للاضطراب
تروي كارولين التي تبلغ من العمر 32 عامًا وهي من سكّان الحمرا في بيروت تجربتها لـ “مناطق نت” فتقول: “كشخص يعاني من الوسواس القهريّ والذي يلازمني منذ سبع سنوات وأتناول دواءً منذ ذلك الحين، لا تُعدّ الحروب مناخًا ملائمًا لي، وللاضطراب الذي أعانيه وتتفرّع منه اضطرابات أخرى على رأسها القلق، بل ويُعدّ ذروةً لحالات القلق المتعدّدة”.
تتابع كارولين: “قبل فترة قال لي طبيب نفسيّ إنّ جينات اللبنانيّين على ما يبدو لديها قابليّة أكثر من سواها للإصابة باضطراب الوسواس القهريّ المتفشّي بينهم أكثر ممّا هو معروف، فمعظم الناس لا تزال تتكتّم على هذا الاضطراب بالتحديد لأن عوارضه في أحيانٍ كثيرة ترتبط بـ”العار”، والسبب في ذلك أنّهم عانوا من حروب وأزمات لا تحصى، في القرنين الماضي والحالي”.
تضيف كارولين: “الحروب عمومًا هي مناخٌ مثاليّ لمختلف أنواع الوسواس القهري، لأنّها ببساطة الفترة التي تزدهر فيها احتمالات السوء، وفيها يقيم الجميع على حافّة شاهق، والوسواس مثلما عاهدتُه هو الهلع الدائم من السقوط، من أن تطيع جاذبيّة الهاوية السحيقة أسفل هذا الشاهق”.
هلع جدار الصوت
“حين سمعنا أوّل جدار صوت في بيروت قبل أسابيع، ركضت داخل المنزل إلى الزاوية التي هرعت إليها أيضًا عند وقوع انفجار المرفأ العام 2020. لسبب ما أعتقد أنّ هذه الزاوية هي أكثر أمانًا في المنزل. اتّصلت بأمّي فورًا “فطمأنتني” أنّه جدار الصوت وليس قصفًا على بيروت أو ضاحيتها” بحسب كارولين.
عن الدواء الذي تتناوله باستمرار تقول: “مع أنّه ساعدني كثيرًا في السيطرة على عوارض الوسواس القهريّ، لكنّ فكرة احتمال اتّساع رقعة الحرب تخيفني كثيرًا وتجعل دماغي أرضًا خصبة للوساوس والأفكار السيّئة. أفكّر بمن يعانون من هذا الاضطراب ومن اضطرابات أخرى من الغزّيّين وأبناء الجنوب اللبنانيّ. أفكّر في أنّني حتّى الآن أعيش في بيروت، فيما الأهوال لا تزال بعيدة نسبيًّا عنّي وعن حياتي اليوميّة وعمّن أحبّهم، لكنّني أخاف من الآتي، فالوسواس القهريّ يتأتى من الخوف والقلق”.
قلق عن بعد
لا يختلف وضع لورا البالغة 30 عامًا من سكّان الأشرفيّة في بيروت كثيرًا عن وضع كارولين، فتقول لـ “مناطق نت”: يوم اندلاع الحرب في غزّة وامتدادها إلى جنوب لبنان مسقط رأسي ومكان تواجد أهلي، كنت خارج لبنان، ممّا زاد نسبة الخوف والقلق لديّ كَوني بعيدة عنهم وعمّن أحبّ، وبسبب تواجدي خارج البلاد لم يكن بإمكاني الوصول إلى الأخبار بشكلٍ سريع ودقيق، نظرًا إلى التعتيم الإعلاميّ على بعض القنوات اللبنانيّة في بداية الحرب، ممّا شكّل لديّ نوعًا من التوتّر الدائم”.
كارولين: حين سمعنا أوّل جدار صوت في بيروت قبل أسابيع، ركضت داخل المنزل إلى الزاوية التي هرعت إليها أيضًا عند وقوع انفجار المرفأ العام 2020. لسبب ما أعتقد أنّ هذه الزاوية هي أكثر أمانًا في المنزل
تتابع لورا: “أذكر جيّدًا عندما كان يصلني خبر قصف لطريقٍ تسلكها أمّي للوصول إلى مكان عملها، كيف كنت أهرع إلى الإتصال بها والإطمئنان عليها. وفي شهر أيّار الماضي وصلتني رسالة هاتفيّة من أمّي، هي عبارة عن ڤيديو لاستهداف سيّارة على طريقٍ عام في الجنوب، والصدمة الأكبر التي تلقّيتها كانت حين علمت أنّ السيّارة كانت على الطريق نفسه وقريبة من سيارة والدتي”.
انفصام تحت سماء واحدة
“اختلطت عليّ الأمور وشعرت بتقلّباتٍ مزاجيّةٍ بسبب حال الانفصام الموجودة في لبنان، فمن جهّة التهويل الذي نراه والحرب النفسيّة التي نعيشها، ومن جهّة أخرى كنت أشاهد مقاطع “فيديوز” لأشخاصٍ في لبنان يعيشون حياتهم بشكلٍ طبيعيّ، ومقاطع أخرى لحفلات ومهرجانات تُقام في مناطق عدّة، عندما كنت أشاهدها أشعر بأنّ الوضع عاديّ جدًّا ولا يحتاج إلى كلّ هذا الخوف والقلق والهلع. ولكن بقي الشعور بالذنب يطاردني بشكلٍ يوميّ لأنّني بعيدة من أهلي” تقول لورا.
تضيف لورا: “عدت إلى لبنان في أوّل الصيف، فشعرت بأنّ الوضع طبيعيّ نوعًا ما، ومن ثمّ ذهبت إلى الجنوب لزيارة عائلتي، وكان الوضع مختلفًا عن المدينة، إذ طيران حربيّ إسرائيليّ في الأجواء، خرقٌ يوميّ لجدار الصوت، وأصبح من يوميّات سكّان الجنوب”.
أمّا في بيروت “ومن مدّة قصيرة، بدأ الطيران الحربيّ يخرق جدار الصوت أكثر من مرّة في أسبوع واحد، ومع كلّ خرقٍ أستعيد ذكريات ومشاهد بشعة ومزعجة، تذكّرني بحرب تمّوز (يوليو) 2006، وانفجار مرفأ بيروت في آب (أغسطس) 2020، كَوني أيضًا مصابة وناجية من هذا التفجير” تختم لورا.
عن أمل لا شفاء منه
عن كيفيّة التأقلم مع الوضع الراهن، توضح المعالجة الحزواني “أنّ التعبير عن المشاعر هو جزء أساس ومهمّ، وكذلك خلق روتين خاصّ لكلّ شخص، ومحاولة التواجد في بيئةٍ آمنةٍ مع أشخاصٍ مريحين ومشاركة تلك المشاعر معهم”.
تنصح الحزواني أيضًا بالمشاركة في نشاطاتٍ نفسيّة ودعم نفسيّ اجتماعيّ، وعدم التردّد في طلب المساعدة واللجوء إلى العلاج النفسيّ. ومن المهمّ أيضًا، بحسب المعالجة، “عدم التوقّف عن العمل، وتناول الأكل الصحّيّ، والنوم بشكلٍ جيّد، وممارسة نشاطات اجتماعيّة، والإحاطة بالأشخاص الداعمين والمتفهّمين”. وتشدّد أخيرًا على أهمّيّة تقبّل الواقع وعدم إنكار الوضع القائم.