الحرب تعصف بصحة اللبنانيين النفسية.. معاناة مضاعفة!

بالإضافة إلى الأضرار المباشرة التي تتركها الحروب على المجتمعات، من ضحايا وخسائر في الممتلكات، هناك خسائر لا تقلّ فداحة عن هذه الأخيرة، وهي ما يعانيه الناس من أمراض نفسيّة ناجمة من تداعيات هذه الحروب وظروفها.

ولعلّ ما مرّ به لبنان من حروب، آخرها ما نعيشه اليوم، يشكّل أرضًا خصبة لتداعيات الحروب لا سيما النفسيّة منها، خصوصًا بعد موجة النزوح الضخمة التي شهدها لبنان إذ تجاوز عدد النازحين المليون 300 ألف نازح، ما يزيد من احتماليّة الاضطرابات النفسيّة والصدمات المتكرّرة، وهو ما يستدعي دقّ ناقوس الخطر.

آثارٌ نفسيّة على الأفراد

“تأثير الحرب على الأشخاص يولّد لديهم الخوف من الإصابة بعاهةٍ جسديّةٍ أو الموت أو خسارة بيوتهم أو فقدان من يحبّون، فالذعر المستمرّ ينتج عنه قلقًا دائمًا وشعورًا بالخطر وبأنّ مكروهًا ما سيصيبهم”، هذا ما يقوله الطبيب النفسيّ بّول جحا لـ “مناطق نت”.

يتابع الطبيب جحا: “هذا التوتّر والقلق في البداية قد يؤدّيان لاحقًا إلى اضطراب ما بعد الصدمة عند البعض. أمّا بالنسبة للأشخاص الذين يعانون أصلًا من اضطرابات نفسيّة مثل الإحباط والاكتئاب واضطراب ثنائيّ القطب واضطراب القلق وغيرها من اضطرابات، يكون التأثير عليهم مضاعفًا”. ويشير جحا إلى أنّ “هناك بعض الحالات القادرة على التعامل مع الأزمات وتزيد نسبة إنتاجيّتهم تحت الضغط الشديد لأنّ تركيزهم قد يكون موجّهًا إلى مكانٍ واحدٍ مثل تقديم المساعدة للآخرين”.

أمّا في حال النزوح فيقول جحا: “هي مشكلة إضافيّة، إذ تترافق الحال مع انعدام الشعور بالأمان لدى النازحين، نتيجة تركهم لبيوتهم أو المكان الذين يشعرون فيه بالراحة والطمأنينة، فالشعور بالأمان يخفّف من حالة الذعر والخوف”.

من أعمال الفنانة التشكيلية خلود الدسوقي، ومعرضها الذي حمل عنوان “بارانويا”

“أمّا بالنسبة للأشخاص الذين يتناولون الدواء، فعوارض التوقّف عنه قد تختلف من شخصٍ إلى آخرٍ لكن غالبًا ما يتنج عن ذلك عوارض جانبيّة مثل ازدياد القلق، التعرّض لنوبات هلع، وازدياد مشاكل النوم وانقطاع الشهيّة”. يختم الطبيب جحا.

بين الحرب والنزوح

“نوبات الهلع والأفكار الانتحاريّة تلاحقني، ظَهَرَت في اليوم الثالث لخروجي من البيت والتوجّه إلى إحدى المدارس التي تحوّلت إلى مركز للإيواء”. يقول باسل النازح من الجنوب، ويعاني من إضطراب ثنائيّ القطب (Bipolar Personality Disorder) لـ “مناطق نت”.

يتابع باسل: “خرجت من المنزل بعد قصفٍ طال الشارع المجاور لبيتي، وبسبب الخوف الشديد غادرت مسرعًا ولم أحمل معي سوى عبوة مياه، تاركًا جميع أغراضي، من بينها الأدوية التي أتناولها بشكلٍ يوميّ. وبعد توقّفي عن تناول الدواء لمدّة يومين، بدأت تظهر عوارض جانبيّة نتيجة ذلك”. ويشير باسل إلى أنّ توقّفه عن تناول الدواء حصل من دون مراجعة طبيبٍ نفسيّ، بحكم صعوبة الوصول إليه والحصول على وصفةٍ طبّيّةٍ جديدة.

من العوارض الجانبيّة التي أصابت باسل القلق الشديد والكوابيس، اللذين منعاه من النوم لأكثر من ثلاث ساعات يوميًّا، وهذا مستمرّ منذ بداية نزوحه. عن ذلك يقول: “لتلك العوارض تأثير جسديّ أيضًا كخسارة الوزن بسبب انعدام الشهيّة، بالإضافة إلى رجفة دائمة في اليدين، مترافقة مع تعب دائم وإرهاق وخمول”.

يختم باسل: “أعاني كثيرًا من تقلّبات مزاجيّة حادّة، تؤثّر بشكلٍ مباشر في يوميّاتي، فبسبب تلك التقلّبات، أفقد تركيزي وتتلاشى إنتاجيّتي. أشعر بالعجز في أكثر الأوقات حساسيّة ومصيريّة في حياتي، يتفاقم قلقي عندما أفكّر أنّني قد أكون غير قادر على النجاة إذا تعرّض المكان الذي أقيم فيه للقصف مرّة أخرى، وأكثر ما يخيفني هو عجزي عن مساعدة الآخرين”.

باسل: خرجت من المنزل بعد قصفٍ طال الشارع المجاور لبيتي، وبسبب الخوف الشديد غادرت مسرعًا ولم أحمل معي سوى عبوة مياه، تاركًا جميع أغراضي، من بينها الأدوية التي أتناولها بشكلٍ يوميّ

تفاقم المشاكل النفسيّة بغياب الدعم

“خسرت معالجتي النفسيّة بسبب النزوح ولم أعد قادرة على التواصل معها ونفد منّي الدواء”. هذا ما ترويه سُكَينة النازحة من الضاحية الجنوبيّة لبيروت، وتعاني من اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD) لـ “مناطق نت”. تتابع: “مشاهدٌ وذكرياتٌ محزنة ومتكرّرة، أحلامٌ وكوابيسٌ لا تتوقّف، توتّرٌ وردود فعل حادّة، نعم أعيش كلّ ذلك”.

تشير سُكَينة إلى أنّها توقّفت عن تناول مضادّ الاكتئاب صباحًا، وعن تناول دوائها المسائيّ الذي يساعدها على النوم بشكلٍ مريح. وبسبب ذلك “أشعر أنّني أكثر عرضةً من غيري للانتكاس مجددًّا بسبب توقّفي عن الدواء بشكلٍ مفاجئ، وضعي حسّاس بعض الشيء لأنّني خسرت والدي بسبب الرصاص الطائش والمتفلّت، لذلك فإنّ موضوع القتل هو أساس الاضطراب الذي أعانيه، وبالتالي لا أستطيع تحمّل الحرب والدمار والدماء”.

تضيف سُكَينة: “كنت أتابع وضعي مع معالجتي النفسيّة بشكلٍ أسبوعيّ، وكانت تساعدني على التأقلم مع حالتي ومع الوضع القائم، ولكن بسبب التهجير والاكتظاظ في مراكز الإيواء وانعدام الخصوصيّة، بالإضافة إلى انقطاع الانترنت عن المكان، بتُّ غير قادرة على إجراء اتّصال هاتفيّ مع أحد، بمن فيهم معالجتي”.

تختم سكينة مناشدة: “أنا بحاجة ماسّة إلى طبيبٍ نفسيّ جديد، أو على الأقل أريد أدويتي التي أحتاجها، فحالتي تزداد سوءًا يومًا بعد يوم، وأشعر بأنّني أفقد السيطرة على مشاعري وأفكاري وسلوكي، وهذا الأمر ينعكس سلبًا عليّ وعلى من هم في محيطي”.

معاناة اضطراب الشخصية الحدية

تتشابه حالة نيفين مع حالتيّ باسل وسكينة، لناحية النزوح وخسارتها لمنزلها جرّاء القصف الذي طال بلدتها في الجنوب، وتختلف عنهما لناحية حالتها النفسيّة، فهي تعاني من اضطراب الشخصيّة الحدية (Borderline Personality Disorder) بالإضافة إلى الاكتئاب.

تقول نيفين لـ”مناطق نت”: “أعاني من مشاكل جدّيّة، فهذا الاضطراب يؤثّر في الطريقة التّي أشعر بها تجاه نفسي والآخرين، ممّا ينعكس على أدائي اليوميّ”. تتابع: “من العوارض الأخرى لاضطرابي الخوف من الهجر والوحدة، إذ تتفاقم حالتي أكثر فأكثر كلّ يوم يمضي وأنا أعيش الحرب، أخاف كثيرًا خسارة أهلي وأصدقائي، وأن ينتهي بي المطاف وحيدة، كلّ هذه العوارض كانت مضبوطة إلى حدٍّ ما بسبب الدواء الذي أتناوله بشكلٍ يوميّ”.

عن شعورها بالخيبة والفشل تقول نيفين: “قبل الحرب كان هناك تحسّن ملحوظ كنت ألمسه جرّاء جلسات العلاج النفسيّ، بالتوازي مع تناولي للدواء المناسب لحالتي، لكن كلّ ذلك نسفته الحرب بأيّامٍ قليلة، وها أنا أعود إلى نقطة الصفر”.

تضيف نيفين: “أعاني من جنون الإرتياب (Paranoia) أحيانًا لبضع دقائق وأحيانًا لساعات، وأشعر بغضب شديد في داخلي يشتعل بشكلٍ مفاجئ، وتراودني أفكارٌ انتحاريّة بسبب الخوف من الوحدة.. أحيانًا تكون هذه الأفكار بمثابة هروب أو حلّ لتفادي ما يمكن أن ينتج عنه المستقبل في ظلّ الحرب”.

خلال إحدى الجلسات المتعلقة بالصحة النفسية في مؤسسة عامل
إهمالٌ الصحّة النفسيّة من المعنيين

أمّا في ما يخصّ المساعدات التي تقدّمها وزارة الصحّة للحالات النفسيّة تقول نيفين: “الأولويّة في الأزمات والكوارث ليست لنا، الجوّ العام السائد في لبنان لا يعير اهتمامًا للصحّة النفسيّة، علمًا أنّه وبرأيي، كلّ الناس تعاني من مشاكلٍ نفسيّة”.

تختم نيفين: “شخصيًّا لم أتلقَّ أيّ مساعدة من أحد، لأنّ غالبيّة من هم حولي لا يبالون بـ”خرافة” المرض النفسيّ. أنا بحاجة إلى وصفة طبّيّة للسماح لي بشراء الأدوية، وطبعًا في ظلّ الوضع القاهر الذي نمرّ به، لا أستطيع تحمّل كلفة مراجعة الطبيب النفسيّ أو حتّى ثمن الأدوية، فكلّ ما تبقّى لدي لا يكفي تأمين حاجيّاتنا الأساسيّة أنا وعائلتي، كالمياه والطعام”.

نيفين: أعاني من جنون الإرتياب (Paranoia) أحيانًا لبضع دقائق وأحيانًا لساعات، وأشعر بغضب شديد في داخلي يشتعل بشكلٍ مفاجئ، وتراودني أفكارٌ انتحاريّة بسبب الخوف من الوحدة.

مخاطر الحرب والنزوح على الصحّة النفسيّة

تشير نقيبة المتخصّصين في العمل الاجتماعيّ في لبنان ومديرة جمعيّة Sidc Lebanon” ” التي تعنى بالصحّة النفسيّة وصحّة مستخدمي المخدّرات والصحّة الجنسيّة والإنجابيّة ومتابعة المتعايشين مع فيروس نقص المناعة البشريّ، ناديا بدران لـ “مناطق نت”: “لا شكّ في أن المشاكل النفسيّة في ظلّ أزمة الحرب والنزوح تأخذ مسارًا تصاعديًّا، فازدادت الحالات التي لجأت إلى العلاج النفسيّ أخيرًا بشكلٍ كبير”. تتابع “هناك فرق طبّيّة تتبع بعض الوزارات المعنيّة، كوزارة الصحّة ووزارة الشؤون الاجتماعيّة، وأيضًا بعض الجمعيّات تجول على مراكز الإيواء لمعاينة النازحين، وأخذ المعلومات منهم لمعرفة ما إذا كانوا يتناولون أدوية معيّنة. بعدها يجري تقييم حالات المرضى من خلال طبيب نفسيّ، يتمّ على إثرها تحويل المريض إلى الجهة المتخصّصة للمساعدة”.

تتابع بدران: “نتيجة حجم النزوح الكبير وانتشاره في أماكن عديدة، إذ لا يقتصر على مراكز الإيواء فقط، هناك بعض الثغرات تواجه العمل، لذلك تقدّم Sidc خدمة الدعم النفسيّ أونلاين، لأن موضوع الصحّة النفسيّة أساسيّ بالنسبة لنا خصوصًا في هذه الأيّام، والسبب في ذلك لما ينتج عنه من أضرار جسديّة في حال الإهمال”. وتشير بدران إلى أنّ محتاجي المساعدة في موضوع الصحّة النفسيّة يفوق قدراتنا، وهم أكثر بكثير ممّن استطعنا تقديم الرعاية لهم، وذلك بسبب الضغط على الأطبّاء والمعالجين النفسيّين، لذلك يتمّ تقديم المساعدة بحسب الأولويّة والحالات الصعبة”.

وبحسب بدران “هناك تدريب لكوادر من متخصّصين اجتماعيّين للمساعدة في الدعم النفسيّ في مراكز الإيواء، وذلك بهدف التغطية على أوسع نطاق في هذا المجال”، مشيرة إلى أنّ المساعدة يجب أن تشمل جميع النازحين في جميع أماكن تواجدهم.

الجدير ذكره أنّ الحالات التي تخضع إلى علاج من الإدمان، تحتاج إلى متابعة دائمة ودواء. عن ذلك تقول بدران: “نحن نقدّم أيضًا هذه الخدمة في مركزنا، علمًا أنّ كثير من أولئك فقدوا بيوتهم واضطروا للانتقال إلى مناطق مختلفة، حيث قمنا بالتقييم اللازم لأوضاعهم، وتابعناهم وحافظنا على التواصل معهم لاستكمال العلاج المناسب”.

تختم بدران “خدماتنا كلّها متوافرة للجميع من دون تمييزٍ ويمكن للنازحين التواصل معنا للحصول عليها، على الخطّ الساخن: 76028221. مع الإشارة إلى أنّ الخدمة التي لا تتوافر في مركزنا، يتمّ إحالتها إلى مؤسّسات أخرى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى