الحرب جنوبًا تطيح بما تبقّى من تراث القرى وتاريخها
تعيدنا مجريات الحرب اليوم إلى ذكريات حرب تمّوز المؤلمة التي شنّها الكيان المحتلّ على لبنان، حيث فقد الجنوب إلى جانب الشهداء والجرحى والقرى المدمّرة، عشرات بل مئات المباني والمعالم الأثريّة والتراثيّة التي كانت تحكي تاريخ منطقة بكاملها، ثمّ تضافر على تقويض ما تبقّى جهل عامّة الناس وإهمال الدولة، وكذلك المصالح التجاريّة لأصحاب المشاريع الخاصّة أو الضيّقة.
تعمد الاعتداءات الاسرائيليّة المتكرّرة منذ عشرات السنين وبشكل منهجي على تدمير معالم القرى وذاكرتها، تمامًا مثل ما فعلته من قبل في فلسطين. ونراها تكرّر اليوم أيضًا ما فعلته في حرب تموز من قصف للأحياء القديمة في القرى، ببيوتها العتيقة المبنيّة بالحجر الصخري المقصّب، وأسطحها الترابية المحدولة بسواعد الرجال الأشدّاء، فتندثر معالم تلك البلدات وأزقة حاراتها الضيّقة، وألفة وجمال بيوتها وحميميتها الفائضة.
بيوت الذكريات الحميمة
لطالما روت هذه الأماكن والبيوتات المتواضعة ذكريات الأجداد وجلسات العجائز على تلك المصطبات أمام عتبات البيوت، أو في وسط الدار أو الحوش، وكان يعتبر حرم البيت ويعطي فسحة مفتوحة على السماء، محميّة كانت من أعين العابرين على الدروب، حيث ترتفع” تصوينة” مبنيّة هي الأخرى بالحجر الصخريّ، تسمح لأهل البيت استقبال زوّارهم في هذه الفسحة المحافظة على خصوصيّة البيت، وكانت تتيح لهم، خصوصًا في فصل الصيف، تنشّق الهواء العليل على طريقة البيت الشاميّ وبيوت حوض البحر المتوسّط عمومًا، والتي تعتمد على ميكانيكيّة هبوط الهواء البارد لثقله إلى أسفل، إلى الحوش الداخلي، فينعش جوّ المنزل.
لطالما روت هذه الأماكن والبيوتات المتواضعة ذكريات الأجداد وجلسات العجائز على تلك المصطبات أمام عتبات البيوت، أو في وسط الدار أو الحوش، وكان يعتبر حرم البيت ويعطي فسحة مفتوحة على السماء
كانت البيوت متلاصقة، متّصلة في ما بينها بفتحات بين جدرانها للتقارب والمودّة والعونة وقت الشدة والزيارات، بما يسمّى “باب السرّ”، وهو عبارة عن طاقة كبيرة مفتوحة تصل البيت بالبيت الذي يجاوره؛ وكانت تستعمل كذلك لإطلاق نداء استغاثة أو للهرب من خطر داهم، كما كانت تستخدم لتبادل الحاجات والطعام المنزليّ حينما كانت العلاقات بين الناس في منتهى الحميميّة، يفرضها تقارب البيوت وتلاصقها، ومحبّة الناس بعضهم، والعونة بين الجيران وتضامنهم في المحن والكوارث.
من هذه البيوت التراثية منزل الدكتور محمد حسن التراثيّ القديم في بليدا، والذي كان يلفت نظر كل من يعبر على طريق البلدة العام، بليدا التي نُكِبت بتدمير معظم بيوتها القديمة، خصوصًا في الحارة الشرقيّة.
لا حجر ولا شجر
إضافةً إلى البيوت العتيقة دمّرت الحرب كثيرًا من الأشجار المعمّرة، ومنها أشجار الزيتون والبُطُم والتي لها ذكريات في أذهان معمّري تلك القرى، إذ كانت تحلو تحتها جلسات السمر والأعراس والمناسبات المتنوّعة، وهي من عمر القرى، مغروسة بزنود أوائل من سكنها وبناها وترك أنفاسه الطيبة في رباها، ومنها “بُطْنايات” ميس الجبل التي كانت تملأ سهلها الشماليّ من جهة حولا، وكان بعضها يُشكّل علامات تظهر حدود الأراضي والملكيّات والعقارات.
سبّبت الحروب الإسرائيلية المتكررة والمتلاحقة منذ أكثر من سبعة عقود، إبادة كثير من الأحراج والغابات، بالقصف والحرائق، فانقرضت أنواع من الشجر العتيق، مثل “اللبنى” و”الشبرق”، وهي اشجار جميلة تنمو بخاصة بين أشجار السنديان والملّول. وتضاءلت كذلك مساحات من بساتين الاشجار المثمرة وأعدادها، تمامًا مثلما حصل في بلدة حولا التي كانت تشتهر قديمًا بكروم العنب والتين، وباتت تفتقر حاليًّا إلى هذه الأنواع، إلّا ما أعيد زرعه من جديد، ولكن الأصناف “البلديّة” القديمة اندثرت وثمة أصناف مهددة على نحو أشجار الغار.
ويعزو البعض هذا الأمر إلى تأثير القنابل والقذائف الإسرائيليّة، وخصوصًا الفوسفوريّة والحارقة، التي ما فتئت تطلقها منذ عشرات السنين، بما تتضمّنه من موادّ سامّة انتشرت في التربة وتغلغلت في الحقول فلوثت الإنتاج الزراعيّ، وهو ما يشكّل اليوم خشية للجميع، من مزارعين ومهندسين ومتابعين ومسؤولين في الدولة ووزارتها، وقد تكرّر التحذير أخيرًا من كثرة استخدامها من قبل الإسرائيليين في الحرب الأخيرة وبشكل مقصود.
المسجد الأثري في بليدا
لم تسلم من حرب الإسرائيليين على القرى الجنوبيّة الحدوديّة دور العبادة والمساجد القديمة، على نحو ما حدث لمسجد بليدا الاثريّ، وقد أفادنا أحد ابناء بليدا ويدعى سمير إبراهيم “أنّ مسجد بليدا القديم أصيب بأضرار جسيمة نتيجة القصف، وكذلك البيوت القديمة حوله”.
كما لم يسلم مقام محيبيب من القصف؛ ويضاف إلى ذلك تدمير مدافن القرى والمقابر أو ما يسمّونه القرويّون “التُرَب”، إذ تشكّل القبور عامل ارتباط بأرواح من رحلوا، وبالأرض والتاريخ، وعمق تعلّق الأحفاد بإرث اجدادهم المدفونين فيها.
المقابر في عين الاستهداف
ولا ينسى أبناء حولا ما حدث في حرب تموز 2006، حيث قُصفت هذه “التُرب” ما أدّى إلى تحطّم كثير من الأضرحة، وأعاد أبناء البلدة في ما بعد ترميم جزء منها، لكن فقدت معالم بعضها بالتدمير الكلّيّ وصار يصعب عليهم التمييز بين ضريح وآخر، إلّا ما استطاعه بعض الأقارب من تحديد صاحب هذا القبر أو ذاك أو لمن يعود، وإعادة وضع شاهد جديد يحمل اسم المتوفّى. اليوم يتكرّر المشهد حيث أصابت المقبرة عينها (التربة الشماليّة) في حولا جرّاء القصف أضرار جزئية مقارنة مع ما حصل في حرب تمًوز، ويقوم بعض الشبّان المتطوّعين بترميمها والاهتمام بها.
هكذا هي الحرب، تفقد القرى تاريخها تدريجيًّا، وتستمر في سلب الذاكرة الفردية والجماعية ومضمونها، من حرب إلى حرب، ومن جيل إلى جيل، ويسارع البعض بعد كلّ تدمير إلى بناء الجديد البعيد كلّيّا عن الهوية القرويّة، ربّما هربًا من بعض الترميم الذي يكلّف كثيرًا، في ظلّ تجاهل تامّ لهذا الأمر من الدولة ومن البلديات ومن الأهالي أعينهم.
لا ينسى أبناء حولا ما حدث في حرب تموز 2006، حيث قُصفت هذه “التُرب” ما أدّى إلى تحطّم كثير من الأضرحة، وأعاد أبناء البلدة في ما بعد ترميم جزء منها
البيوت جروح القرى يدمّرها الورثة
إلّا ما ندر أو بمبادرات فرديّة، ما لم تدمّره الحرب يدمّره في أعقابها بعض أصحاب البيوت ممّن يستغلّون إصابة منازلهم الجزئيّة، حتى لو كانت أضرارًا يمكن ترميمها، فيعمدون إلى هدمها، إمّا طمعًا بالتعويضات أو لإقامة مبنى حديث وأكبر على أطلالها، أو ربّما للتخلّص من تشابك الورثة وتعدّدهم، وصعوبة استثمار المبنى من قبل أحدهم لوحده، فيكون التعويض حلًّا للإشكاليّة، وتتمّ على جراح الذاكرة توزيعها أموالًا أو شققًا، من دون إقامة أيّ اعتبار لتاريخيّة المبنى ولطابعه التراثيّ والقرويّ وما يحمله من إرث وذاكرة.
للأسف الشديد، تتحوّل تلك القرى الريفيّة الهادئة إلى بلدات لا تشبه القرى ولا المدن، تغدو تجمّعات هجينة عشوائيّة يطغى فيها البناء الفوضويّ والتجاريّ. أمّا العمارة المحلّيّة والتراثيّة التي ميّزت قرانا باستعمال الحجر الصخري المحلّيّ المقصّب بألوانه المتعدّدة والأسطح الجميلة التي بدأت ترابيّة وتطوّرت إلى القرميد والباطون، فتتحوّل إلى عمارات شاهقة مبنيّة بموادّ حديثة مستوردة ولا تمتّ بصلة إلى طابع العمارة التي كانت سائدة.
لقد تغيّر مشهد القرية الممتدّ أفقيًا على مدى النظر، ببيوتها التي لم تكن تتجاوز طبقة واحدة أو طبقة و”علّيّة” أو قبو أحيانًا، إلى مبان مرتفعة عاموديًّا متعدّدة الطوابق، وكثير منها مخالف لقوانين البناء والتنظيم المدنيّ، خصوصًا بعد الحرب، إذ تسود فوضى معماريّة وسط غياب الرقابة والإشراف الهندسيّ بحجّة الحرب عينها وضرورة الإسراع بإسكان الأهالي، وهذا ما يدفع ثمنه الجيل الجديد الذي صار يفتقد إلى معرفة تراث قريته وتاريخها ومعالمها، وقد أضحت أثرًا بعد عين واستحالة إعادتها إلى روحها الوجودية.
فهل يستدرك القيّمون على شؤون القرى من بلديّات ومؤسّسات عامة وجمعيات أهليّة هذه الفوضى ويسارعون إلى لجمها بعد انتهاء الحرب ومنع إزالة المباني القديمة وتغيير معالم القرى وتراثها؟