الحرب في المنازل تداعيات النزوح على العلاقات الأسريّة

“أجد نفسي في مواجهة معاناة مضاعفة. فَقَدَ زوجي عمله نتيجة الحرب ومع مرور الأيّام، أصبح مقيمًا في المنزل بشكل مستمرّ، بعدما كان يقضي معظم وقته في العمل، هذا الوضع الطارئ شكّل ضغطًا إضافيًّا على حياتنا اليوميّة”، بهذه الكلمات تروي مريم معاناتها في الحرب إلى “مناطق نت”.

الحرب كما الانهيار المالّي الذي دخل حياة اللبنانيّين في العام 2019 وجائحة كورونا في العام 2020، سببت فقدان عديد من الأشخاص وظائفهم ودفعت بآخرين للبقاء في المنازل، حيث يصبح الضغط النفسيّ والاجتماعيّ أكثر حدّة. في ظلّ هذا الوضع تزداد التوتّرات داخل الأسر، ممّا يؤدّي إلى زيادة حالات العنف الأسريّ، لا سيّما ضدّ المرأة. ففي ظلّ غياب الاستقرار الماليّ والمعنويّ، تزداد احتماليّة تعرّض النساء إلى الإيذاء الجسديّ والعاطفيّ من قبل الشركاء أو أفراد الأسرة. كذلك فإنّ ضعف الموارد والدعم الاجتماعيّ يجعل الهروب من هذه الدائرة المغلقة صعبًا، فيزيد من معاناتهنّ.

سجن بين جدران أربعة

تتابع مريم: “في البداية، كنت أتمنّى أن يكون هذا التغيير موقّتًا وأن يتجاوز زوجي هذه الفترة الصعبة. لكن مع مرور الوقت، ازداد شعوري بالقلق والتوتّر، خصوصًا مع تدهور حالته النفسيّة بسبب فقدان مصدر رزقه. أصبح في حالة من الإحباط المستمرّ، إذ كان يصبّ غضبه عليّ بشكل مستمرّ. بدأ يمارس العنف اللفظيّ والجسديّ تجاهي، ويحمّلني مسؤوليّة الوضع الصعب الذي نعيشه”.

في ظلّ هذا الوضع تزداد التوتّرات داخل الأسر، ممّا يؤدّي إلى زيادة حالات العنف الأسريّ، لا سيّما ضدّ المرأة. ففي ظلّ غياب الاستقرار الماليّ والمعنويّ، تزداد احتماليّة تعرّض النساء إلى الإيذاء

لم يقتصر الأمر على كلمات جارحة أو تصرّفات قاسية، بل تطوّر إلى عنف جسديّ في بعض الأحيان، إذ كان يصرخ في وجهها كما تقول، ويحاول إهانتها في أكثر اللحظات ضعفًا لها.

“كنت أجد نفسي محاصرة بين جدران المنزل، غير قادرة على الهروب من هذا العنف الذي يلاحقني في كلّ زاوية. ومع تزايد ضغوط الحياة، ازداد شعوري بالعزلة والضعف، بينما كنت بحاجة إلى الدعم والمساندة أكثر من أيّ وقت مضى. القلق من المستقبل والضغوط الاقتصاديّة دفعته لكي يصبح أكثر عدوانيّة. تلك المعاناة اليوميّة جعلتني أسيرة مجموعة من التوتّرات التي لم أجد لها مخرجًا بعد”. هذا ما ختمت به مريم.

تأثير الحروب في العلاقات الأسريّة

“يتأثّر الجميع جرّاء العنف في ظروف الأزمات والحروب. لكنَّ النساء والفتيات على وجه الخصوص يتعرّضنَ إلى مخاطر أكبر ولأنواع مختلفة من العنف” تقول الاختصاصيّة والمعالجة النفسيّة علا عطايا في حديث إلى “مناطق نت”.

وتتابع: “الأزمات الإنسانيّة، أكانت كوارث طبيعيّة أو حروبًا ونزاعات مُسلّحة، تزيد من مخاطر العنف الذي تتعرّض له الفتيات والنساء، سواء كان عنفًا جسديًّا أو جنسيًّا أو لفظيًّا ومعنويًّا أو اقتصاديًّا. في أزمات كهذه، تنفصل النساء عن عائلاتهنّ ومجتمعاتهنّ، لا سيّما بفعل النزوح وتغيير مكان السكن، وبالتالي تتعطّل وتتضرّر شبكات الحماية والدعم الاجتماعيّ، وتتعطّل المعايير التي تحكم السلوك الإنسانيّ، وتغيب الحماية الاجتماعيّة وتنهار الإجراءات اللازمة لمعاقبة الجناة، وتشحّ الموارد الأساسيّة، ويصعب الحصول على الخدمات بأمان أو الوصول إلى الموارد التي يمكن أن تساعدهنّ على أفضل وجه”.

النساء في الحرب ضحيّة حرب ناعمة داخل الأُسر (رسم خلدون عزّام)

لكن من المهمّ أن نتذكّر أنّ العوامل التي تقف وراء العنف، والتي تتفاقم بفعل الأزمات، هي عوامل موجودة وفاعلة سواء في أوقات الطوارئ أو أوقات الاستقرار، بحسب عطايا، “فالحروب والأزمات تُعتبر عوامل مُساهمة في بروز العنف ضدّ المرأة، ولكنّ العنف ضدّ الفتيات والنساء هو نتيجة غياب ثقافة الحقوق ونتيجة الثقافة المُتمثّلة بالاتّجاهات والمعتقدات والعادات والهيكليّات التي تعزّز التمييز بين الجنسين أو تتقبّله، وبالتالي تتقبّل التمييز والعنف ضدّ المرأة”.

هل أنا كافية؟

كانت حياة هبة مستقرّة قبل أن تضرب الحرب لبنان مرّة أخرى، و”كان زوجي، يمتلك متجرًا صغيرًا في ضاحية بيروت الجنوبيّة، وكنّا نعيش حياة بسيطة لكنّها مليئة بالأمل. لكنّ الحرب مع إسرائيل غيّرت كلّ شيء، إذ تعرّض متجره إلى التدمير نتيجة القصف، ليجد نفسه بلا مصدر رزق، وأصبح في المنزل بشكلٍ دائمٍ، محاطًا بكثير من الفراغ والقلق”، تقول هبة في حديثٍ إلى “مناطق نت”.

وتتابع: “في البداية، كان زوجي يحاول التكيّف مع الوضع الجديد، لكنّه سرعان ما بدأ يشعر باليأس، وبدأ هذا الشعور يتحوّل إلى إحباطٍ. مع مرور الوقت، أصبح يصبّ غضبه عليّ، معبّرًا عن استيائه من وضعنا المادّيّ ومن تغيّرات حياتنا. أصبح يوجّه لي كلمات قاسية، يتّهمني بأنّني لا أقوم بما يكفي لتحسين الوضع، وأنّني لست كما كان يتوقّعني”.

يقول لي: “أنتِ لا تجيدين التصرّف ولا التعامل مع الحياة، لماذا لا تستطيعين إيجاد حلول؟ أنتِ لستِ جيّدة بما فيه الكفاية. كانت كلماته تتردّد في عقلي وتكسرني في كلّ يومٍ أكثر. كلّ إهانة كانت تترك أثرًا عميقًا في نفسي، وتزيد من شعوري بالعجز والإحباط”.

هبة: مع مرور الوقت، أصبح يصبّ غضبه عليّ، معبّرًا عن استيائه من وضعنا المادّيّ ومن تغيّرات حياتنا. أصبح يوجّه لي كلمات قاسية، يتّهمني بأنّني لا أقوم بما يكفي لتحسين الوضع

تضيف: “كنت أشعر بأنّني إمرأة فاشلة، غير قادرة على تحمّل المسؤوليّة في وقت الشدّة. وبعد فترة، تزايدت مشاعري بالذنب، وكأنّني أنا المسؤولة عن فقدان الأمان المادّيّ والنفسيّ في حياتنا”.

تختم هبة: “هل حقًّا أنا غير كافية؟ لماذا لا أستطيع أن أكون دعمًا كافيًا لزوجي في هذا الوقت العصيب؟ هكذا، أصبحتُ أسيرة للشكوك والآلام التي طالت كرامتي وأفسدت سلامي الداخليّ”.

فورات غضب مكبوت

في الحروب يتغيّر روتين الفرد قسريًّا، وتحت هذا الضغط يتصرّف كلّ بطريقته، وغالبًا ما تقع المسؤوليّة على النساء مهما كان موقعهنّ. في هذا الصدد تقول علا عطايا: “هذا ويزيد إغلاق المدارس والجامعات وتغيُّر الروتين اليوميّ للأبناء من تفاقم عبء أعمال الرعاية غير المدفوعة الأجر على النساء والفتيات، اللاتي يأخذنَ على عاتقهنَّ العمل الإضافيّ المتمثِّلّ برعاية الأطفال”.

وتتابع: “تزيد المخاوف الناجمة من الحرب من التوتّر داخل الأسر، ممّا يساهم في تفاقم العنف الأسريّ. كذلك، تساهم مشاعر القلق والعجز والخوف والغضب والتوتّر التي يعيشها الجميع، إضافةً إلى كثرة المسؤوليّات والأعباء، والتواجد في أماكن مزدحمة مع انعدام الخصوصيّة، والتغييرات على الروتين اليوميّ، والابتعاد عن شبكات الدعم. تساهم هذه العوامل وكثير غيرها في خلق ضغوط نفسيّة كبيرة لدى الأفراد”.

توضح عطايا “يحاول كثيرون التعامل مع هذه المشاعر والمشكلات، ولكنّ البعض، بما فيهم بعض الرجال ممّن لا يُحسنون التعامل مع الضغوط والغضب، يُفرغون توتّرهم على شريكاتهم أو أبنائهم أو أفراد أسرهم، وما يسهّل لهم ذلك هو تقبُّل المجتمع لذلك”.

باحة أحد مراكز النزوح في البترون (تصوير بلال غازية)

عن أهمّيّة التعامل مع هذه الضغوط النفسيّة والمشاعر المختلفة الناتجة عن ظروف الحرب والتي تتطلّب جهدًا، تقول عطايا: “من الضروريّ أن نتذكّر أن التضامن والدعم الأسريّ والاجتماعيّ هو أساس في هذه المرحلة، وتفريغ الغضب على محيطنا لا ينتج عنه إلّا مزيدًا من الضغوط والتوتّر. من المهمّ الاعتراف بأنّنا لسنا بخير، والتعامل مع مشاعرنا المختلفة ومحاولة دعم بعضنا البعض”.

وتختم عطايا: “بالنسبة إلى الفتيات والنساء ممّن يتعرّضن للتعنيف والتحكُّم من قبل شركائهنّ أو أفراد أسرهنّ، من الضروريّ، كلّ واحدة بحسب ظروفها طبعًا، محاولة طلب المساعدة في حال كنّ بحاجة إلى ذلك … هناك عديد من المنظّمات الفاعلة والناشطة في لبنان التي يمكن للفتيات والنساء الاستفادة من خدماتها”.

خطّ الأمان

في حديثٍ إلى غيدا أناني من مؤسِّسة جمعيّة “أبعاد” والتي تهدف إلى تعزيز الشراكة بين الجنسين كشرط أساس للتنمية الاجتماعيّة والاقتصاديّة المستدامة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، تقول أناني: “أثّرت الحرب بشكل كبير في ازدياد معدّلات العنف ضدّ المرأة، خصوصًا بسبب الاحتكاك الزائد داخل المنازل  والإنتقال إلى المدارس/ مراكز النزوح مع البقاء لفترات طويلة في ظروف معيشيّة ضيّقة وصعبة واكتظاظ”.

بحسب أناني شهدت المؤسّسة زيادة ملحوظة في عدد الناجيات اللواتي لجأن إلى طلب المساعدة خلال فترات النزوح والحرب. تقول أناني: “من خلال الخطّ الساخن الذي توفّره الجمعيّة، تلقّينا عديدًا من الإحالات لطلب خدمات مباشرة مثل إدارة الحالات، الدعم النفسي الاجتماعيّ، والمساعدة القانونيّة والطبّيّة. وعليه كنّا نعمل على التنسيق بين مختلف الجمعيّات كي نضمن تلقّي وتوفير هذه الخدمات للسيّدات مجّانًا وبشكلٍ آمن يحفظ الخصوصيّة والسرّيّة”.

تختم أناني: “جمعيّة أبعاد تقدّم جميع خدماتها مجّانًا للناجين/ات من العنف القائم على النوع الاجتماعيّ. تشمل هذه الخدمات إدارة الحالات، الدعم النفسيّ الاجتماعيّ، الاستشارات القانونيّة، والدعم الطبّيّ الشرعيّ وبناء المهارات الحياتيّة الأساسيّة والإيواء الآمن الموقّت الطارىء. يمكن النساء التواصل معنا عبر الخطّ الآمن  المتاح 24/7 وهو 81787881، حيث نوفر استجابة سريعة ومباشرة لاحتياجاتهنّ”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى