الحرب..مليون كتاب في الرماد
بعد ساعة من نشر المربّع الأحمر على خارطة المبنى الواقع في محيط الجامعة اللبنانيّة، أطلقت الطائرة صاروخًا، وهبط في لحظته، بطوابقه الخمسة. هناك في الدور الأخير، ثمّة مكتبة تضمّ 1200 كتاب، تخصّ صاحب المنزل محمد ح. الذي قال لـ “مناطق نت”: “جمعت تلك الكتب منذ مطلع الثمانينيّات، غالبيّتها مجلّدات وموسوعات سياسيّة ودينيّة وتاريخيّة.
“لا شيء يعوّض تلك المؤلّفات. أكثرها نافد من المكتبات، وبعض دور النشر التي أصدرتها أغلقَت أبوابها ومطابعها منذ سنوات”. أمّا الشاعر محمّد ناصرالدين، فقد نشر صورة مكتبة البيت في الشيّاح، حيث الكتب التي تسيّج النافذة المشرفة على الخراب، خراب كثير.
دعونا نتخيّل كم مكتبة سقطت مع تلك البيوت والأبنية، بين الضاحية والجنوب والبقاع؟ إذا أحصينا عدد الوحدات السكنيّة التي انمسحت عن الخارطة، وتلك المتضرّرة بشكل جزئيّ، غضافة إلى الأضرار التي لحقت بالمكتبات ودور النشر، سيكون الرقم مهولًا، ولا يقلّ عن مليون كتاب على أقلّ تقدير، ففي كلّ بيت كتب جامعيّة وقواميس لغويّة وكتب دينية، ناهيك بالروايات والمراجع المتعلّقة بالاختصاصات.
حرائق الحبر
في هذه الحرب الأخيرة، تتجاوز الخسائر البشريّة والمادّيّة لتطال روح الثقافة وذاكرة الأمّة المتمثّلة في الكتب والمكتبات. فكلّ كتاب يحترق هو جزء من التاريخ يندثر، وكلّ مكتبة تدمّر هي نافذة معرفيّة تغلق، وكلّ صفحة تتحوّل إلى رماد هي فكرة تتبدّد في الهواء.
تُعد فظائع إحراق الكتب من أكثر الأحداث مأسويّة في تاريخ الحضارة الإنسانيّة، إذ شهد التاريخ خسائر فادحة للتراث الفكريّ والعلميّ. ففي العام 1258 ميلادي، دُمّرت مكتبة بغداد (بيت الحكمة) على يد المغول بقيادة هولاكو، حيث ألقيت آلاف الكتب في نهر دجلة حتىّ تحوّل لونه إلى أسود من حبر الكتب (كدلالة رمزيّة على كمّيّة الكتب). أمّا مكتبة الإسكندريّة، التي كانت أعظم مكتبات العالم القديم، فقد تعرّضت لحوادث تدمير عديدة على مرّ التاريخ، أبرزها في القرن الأوّل قبل الميلاد خلال حروب يوليوس قيصر.
وفي الأندلس، شهد العام 1195 ميلادي حادثة مؤلمة عندما أُحرقت كتب الفيلسوف ابن رشد بأمر من الخليفة الموحّديّ يعقوب المنصور، وكان ذلك تعبيرًا عن رفض طروحاته الجريئة التي اعتبرت آنذاك مخالفة للتعاليم الدينيّة السائدة (أخرج يوسف شاهين فيلما يجسّد حياة ابن رشد، حتّى لحظة الذروة بإحراق كتبه). تمثّل هذه الأحداث الثلاثة لحظات مظلمة في تاريخ الحضارة الإنسانيّة، حيث فُقدت كنوز معرفيّة لا تقدّر بثمن وضاعت معها إسهامات علميّة وفكريّة قيّمة.
كتب لن تبصر النور
تكشف الأرقام عن حجم الكارثة التي حلّت بالمشهد الثقافيّ اللبنانيّ، فعندما نتحدّث عن أكثر من مليون كتاب محترق، مع افتراض أنّ المعدل الوسطيّ في كلّ بيت لبنانيّ هو 20 كتابًا، فإنّنا نتحدّث عن خسارة ثقافيّة فادحة تتجاوز القيمة المادّيّة بأشواط. ليست المكتبات المنزليّة في لبنان مجرّد رفوف تحمل كتبًا، بل هي مستودعات للذاكرة العائليّة والثقافيّة، تحتوي على كتب شخصيّة، أو مدرسيّة، أو ربّما موروثة عبر الأجيال، وهناك مخطوطات ووثائق تاريخيّة لا تقدّر بثمن، تعكس في مجملها التنوّع الثقافيّ والفكريّ الذي يميّز المجتمع اللبنانيّ.
عندما نتحدّث عن أكثر من مليون كتاب محترق، مع افتراض أنّ المعدل الوسطيّ في كلّ بيت لبنانيّ هو 20 كتابًا، فإنّنا نتحدّث عن خسارة ثقافيّة فادحة تتجاوز القيمة المادّيّة بأشواط
لم تقتصر الخسائر على المكتبات المنزليّة فحسب، بل امتدّت لتطال دور النشر والمكتبات العامّة، تلك المنارات الثقافيّة التي تمثّل رافدًا أساسيًّا للثقافة العربيّة. فقد أدّى تدمير عديد من دور النشر إلى خسارة أرشيف ومخطوطات لم ترَ النور بعد، وضياع نسخ نادرة وطبعات أولى لكتب مهمّة كانت تشكّل جزءًا من الذاكرة الجماعيّة للمجتمع، فهناك كتب كانت على وشك الصدور ولم تسلك طريقها نحو المطبعة، وبعض المؤلّفات اتلفت في حواسيب، انسحقت في البيوت المهدّمة.
نحو حماية رقميّة للتراث الثقافيّ
في ظلّ الأزمات المتتالية التي يواجهها لبنان، وما نتج عنها من خسائر فادحة في التراث الثقافيّ والمكتبيّ، تبرز أهمّيّة استخلاص الدروس ووضع استراتيجيّات مستقبليّة لحماية هذا الإرث الثمين. وتتجلّى أبرز العناوين المستفادة في أهمّيّة التحوّل الرقميّ كضمانة أساسيّة لاستمراريّة المحتوى الثقافيّ وحمايته. (هذا ونحن نعلم أنّ كثيرًا من الإدارات الرسميّة لم يتمّ مكننتها حتّى اليوم).
ولعلّ التجارب العالميّة في هذا المجال تقدّم نماذج ملهمة يمكن الاستفادة منها. فها هي مكتبة الإسكندريّة في مصر تنجح في تحويل أكثر من نصف مليون كتاب ومخطوطة إلى صيغ رقميّة، بينما تقدّم المكتبة الوطنيّة الفرنسيّة نموذجًا رائدًا في إنشاء نسخ رقميّة من مقتنياتها النادرة. وقد أثبتت منصّة Internet Archive نجاحها العالميّ في توفير نسخ رقميّة احتياطيّة للكتب والوثائق، ممّا يشكّل شبكة أمان حقيقيّة في حالات الكوارث والحروب.
وفي عصر التكنولوجيا المتسارعة، تبرز فرص واعدة لاستخدام التقنيّات الحديثة في خدمة التراث الثقافيّ. فتقنيّة البلوكتشين، على سبيل المثال، يمكن توظيفها في حفظ وتوثيق الملكيّة الفكريةّ للكتب والمخطوطات، بينما توفّر أنظمة التخزين الحسابي الموزّع ضمانات إضافيّة لأمان البيانات. كما يمكن الاستفادة من تقنيّات الذكاء الاصطناعيّ في فهرسة وتصنيف المحتوى الرقميّ، مع تطوير أنظمة متعدّدة للنسخ الاحتياط.
تضافر جهود عالميّة
ولا يمكن إغفال أهمّيّة التعاون الدوليّ في هذا المجال، فقد نجحت عديد من المبادرات الدوليّة في حماية التراث الثقافيّ اللبنانيّ. فتعاون اليونسكو مع المؤسّسات الثقافيّة اللبنانيّة أثمر في إنقاذ مخطوطات دير المخلّص، بينما قدّمت مبادرة “الكتب بلا حدود” نموذجًا مهمًّا في دعم المكتبات في مناطق النزاع. كما فتحت اتّفاقيّات التعاون بين الجامعات اللبنانيّة والأوروبيّة آفاقًا جديدة لحفظ النسخ الرقميّة، فيما قدّمت برامج الترميم المشتركة مع معهد الترميم المركزيّ في روما مساهمات قيّمة في هذا المجال.
خطّة شاملة
إنّ الحديث عن إنشاء مركز وطنيّ للرقمنة والحفظ الرقميّ ليس مجرّد طرح إداريّ عابر، بل هو ضرورة ثقافيّة ملحّة تفرض نفسها في عصر يتسارع فيه فقدان الموروث الثقافيّ. غير أّن المسألة تتجاوز مجرّد إنشاء مؤسّسة جديدة، إنّها دعوة لثورة في مفهومنا للحفاظ على التراث.
ومن المثير للاهتمام أن نلاحظ كيف تصبح البرامج التدريبيّة المتخصّصة حجر زاوية في هذا المشروع الطموح. لكن دعونا نكون واقعيّين – التدريب وحده لا يكفي- ما نحتاجه هو منظومة متكاملة تجمع بين التأهيل البشريّ والبنية التحتيّة التقنيّة.
وحين نتحدّث عن التمويل، فإنّ فكرة إنشاء صندوق وطنيّ لحماية التراث تستحقّ التمحيص النقديّ. مشاركة القطاع الخاص؟ بالتأكيد، لكن مع ضوابط صارمة تضمن عدم تسليع التراث. المنح الدوليّة؟ مرحبًا بها، شريطة ألّا تؤثر في استقلاليّة القرار الثقافيّ.
أمّا دور المغتربين اللبنانيّين، فيجب أن يتجاوز مجرّد الدعم المادّيّ. خبراتهم، شبكات علاقاتهم، ورؤيتهم العالميّة – هذه هي الثروة الحقيقية التي يمكنهم المساهمة بها في حماية تراثهم الأم- فهذه البلاد على خطّ زلازل أمنيّة متعاقبة، تتحرّك كلّ بضع سنوات باحتكاكات في الداخل أو مع الخارج.