الحشيشة والمصارف والليرة..واللعبة المفتوحة
حسين حمية
عندما أوصت شركة ماكنزي في تقريرها بتشريع زراعة الحشيشة لأسباب طبية، لم تكن هذه التوصية بغرض تحسين معاش البعلبكيين والبحث عن موارد جديدة لهم، فهذه الشركة لا يعنيها عدالة توزيع الدخل الوطني بين المناطق، وهذه مهمة خارج اختصاصها، وهي أعدت دراستها بناء لطلب الدولة اللبنانية ومساعدتها حصرا على الخروج من أزمة اقتصادية آخذة بالتفاقم وتقترب من حافة الانفجار.
ولا يؤخذن أحد في منطقة بعلبك الهرمل، بأن القوى السياسية قد استيقظ ضميرها على الواقع الكئيب للمنطقة، وأرادت من وراء تشريع الحشيشة لأسباب طبية التكفير عن ذنوبها الإنمائية بحق أبنائها، وتعويضهم بالسماح بزراعة هذه النبتة، وتنظيم انتاجها بما يؤهلها دخول أسواق تصنيع العقاقير الطبية وحصد أرباح مقبولة لقاء أتعابهم تخفف من وطأة ضائقتهم المعيشية.
هذا كله أوهام، والقصة لا تعدو “كرمال عين فلتشرب مرجعيون”، فهموم الطبقة الحاكمة ليست في بعلبك الهرمل، إنما في مكان آخر، وعندما بقّ رئيس الجمهورية ميشال عون أمام قيادات البلد بحصته الاقتصادية بأن لبنان يحتضر اقتصاديا والمطلوب إنقاذه قبل فوات الأوان، لم يكن مأخوذا بمعاناة البقاعيين المعيشية، لقد كان مصعوقا من دولة تنتظر انهيارا محتما لا محالة.
أليس لافتا، أن القيادات الدينية التي تقيم الدنيا ولا تقعدها على أغنية أو كتاب أو مشهد في فيلم أو بوست أو تغريدة تعتبرها بالاجتهاد مسيئة للأديان، في حين هذه القيادات لا تحرّك ساكنا ولو تلميحا حيال تشريع نبتة هناك التباس في استخداماتها ومنها ما هو محرم دينيا؟ هنا لا ندعو إلى التشكيك بموقف هذه القيادات، إنما تفسيره الذي يضيء على الخطورة الاقتصادية ويراعي مبدأ “الضرورات تبيح المحظورات”.
من يدقق في التقديمات والمساعدات التي نالها لبنان من مؤتمر سيدر، سيلحظ الشروط المهينة التي فرضها المانحون على الدولة اللبنانية، علما أنهم محقون بهذه الاشتراطات، فالمشاريع الممولة تخضع لتعيينهم والتنفيذ لمراقبتهم وغيرها من الإملاءات الناجمة عن انعدام ثقتهم بكفاءة دولتنا وأدائها، بعد تجربتهم المريرة معها، بتبديدها عشرات مليارات الدولارات بالفساد الإداري وتحاصص المشاريع على أسس طائفية وفئوية والنهب المنظم للمال العام والتلاعب على المقاصد الفعلية للمانحين.
لقد وضعت ماكنزي دراستها على ألف صفحة، وإذ تم الكشف عن خطوطها العريضة، لكن الجانب الحالك منها ما زال طي الكتمان وخلف الأبواب المغلقة، وأي مراقب لطريقة تعاطي المسؤولين الكبار مع اقتراحاتها، تتكون لديه فكرة عما تخفيه هذه الدراسة من أخطار على الكيان اللبناني ما لم يسارع المعنيون إلى تداركها بوسيلة أو أخرى.
هناك اقتراحات بالدراسة، وحتى في حال الأخذ بها بالطريقة المثلى، فإن نتائجها الإيجابية لن تبدأ بالظهور إلا بعد سنين طويلة، في وقت أن الأزمة الحالية هي من النوع الذي لا يحتمل مثل هذه المدة، بل تحتاج إلى علاجات فورية وعاجلة قبل أن “يسبق السيف العذل”، ولكسب الوقت إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا.
باختصار، أنهم يريدون إدخال دولارات بأقصى سرعة إلى البلد بأقصى سرعة بناء لتوصيات ماكنزي، لأن لعبة تثبيت سعر صرف الليرة اللبنانية انتهت صلاحيتها ووصلت إلى نقطة الإشباع ومركزت الراسمال اللبناني في قلة من المصارف على حساب قطاعات انتاجية أخرى، وعليه، إن الاستمرار بهذه اللعبة يقتضي إصلاحا من غير الذي تتحدث به الطبقة السياسية، ليست مكافحة الفساد بسن تشريعات جديدة، إنما محاربته على الطريقة الكينية والماليزية أي استراداد كل ما نُهب من الدولة، وهذا ما تعجز عنه الطبقة الحاكمة باعتبار ثرواتها كلها موضع شبهة.
تدرك السلطة ما معنى تحرير سعر صرف الليرة، وباعتبار أن المصارف بحكم موقعها المتحكم في اللعبة الاقتصادية قادرة على تلافي أية خسائر قد تصيبها من مثل هذا القرار، تدرك أيضا هذه السلطة أن كلفة قرارها ستقع على كاهل الفئات الشعبية، وسيؤدي إلى اهتزازات اجتماعية قد تطيح بأحزاب وقيادات، خصوصا عندما يلمس السواد الأعظم من ذوي الدخل المحدود القدرة الشرائية الهزيلة لمعاشاتهم.
تعتقد السلطة أن الحشيشة قد تأتي بمليار دولار أو أكثر بطريقة شرعية إضافة إلى ما سيأتي من دفعات التنقيب عن النفط، طبعا مثل هذه الكميات من العملة الصعبة تعين الليرة اللبنانية على الصمود نسبيا، لكن ستنكشف قيمتها الرديئة والضحلة بعد زوال ال “بوتوكس” الذي كان ينفخها به المصرف المركزي.
وعلى طريقة “مصائب قوم عند قوم فوائد”، يجب النظر إلى تشريع الحشيشة على أنه فرصة لمنطقة بعلبك الهرمل، المطلوب حسن استغلالها باعتبار ستأتي بمداخيل وفيرة للمزارعين، ويجب الإصرار على احتكار زراعتها في المنطقة واحترام شروط انتاجها وعدم تسربها للمهربين والمتعاطين، وهذا مسؤولية السلطة…ومع ذلك، يجب أن ينتبه المتقاعدون على قيمة رواتبهم، فالدولة بحاجة إلى الكثير من الدولارات، فالحشيشة وحدها لن تسد هذا النقص، وسرّاق المال العام لن يعيدوا ما نهبوه.