الحمرا شارع الضجر والقطط والأجساد المتهالكة

حتّى القطط في شارع الحمرا تشي ملامحها بكلّ ضروب الملل وتهالك الأجساد. فالسير في هذا الشارع يسوق المرء إلى نمط من الضجر، محيّر إلى أقصى الحدود. هل هو المزاج الشخصيّ من يولّف هذا الملل حيال شارع الحمرا، أو أنّ الشارع هو من يودي بمرتاديه إلى أن يكونوا مغبّة هذا الشعور الثقيل؟
في رائعته الروائيّة “الطبل الصفيح” يخبرنا غونتر غراس أنّ الملل هو الشرّ القائم بذاته. ما يبثّنا إيّاه هذا الكاتب الألمانيّ عبر إحدى شخصيّات روايته حيال الملل هو صحيح إلى حدّ كبير. إذ، أيّ عالم هو هذا الذي قد يرتسم داخل الأذهان والأفئدة وطبعًا العيون عندما يكون الملل هو سيّد العملية الإدراكيّة لهذا العالم؟ أيّ عالم هو ذا عندما يكون الملل سيّد السمع واللمس والنظر وتبادل التحيّات والنظرات والكلام وعلى رأس كلّ هؤلاء، النقّ؟
الملل هو نمط من التكتّم الشرّير إزاء علاقتنا مع العالم، تراه في بعض فحشه بمثابة نظرات لا تجيد الاستقرار إلّا فوق كلّ ما هو مقيت، والسير في شارع الحمرا فضلًا عن كونه مملًّا هو أيضًا مقيت.
شارع متدلّي اللسان
أحاول جاهدًا استقصاء ما قد يخفّف من حدّة ضجري الشرّير لدى مروري بالحمرا، فإذا بهذا الشارع المتدلّي اللسان والرخو القسمات والمتهافت الملامح يترصّد استقصائي المسكين ويودّي بي من ثمّ إلى ملل أكثر، إلى فجوة من ضيق الخلق لا قعر لها.
ربّما كان على باشلار أن يسير في شارع الحمرا هذه الأيّام كي يستبدل كلمة “النوم” في عبارته بكلمة “الحمرا”.
أتحرّق شوقًا كلّما سرتُ في شارع الحمرا إلى أن أكون محلّ مباغتة، بصرف النظر عن نوع هذه المباغتة أو ما قد تستبطنه من غرابة، أو ممّا هو غير مألوف، لكن كلّا، فالحمرا يصرّ على أن يكون دومًا ذلك المكان الذي كدّس فوقه كلّ ما هو متوقّع، كلّ ما هو مرتقب، كلّ ما هو مكرّر، كلّ ما هو مملّ.
غالبًا ما تتقاطر فوق خاطري المخلّع، ذكريات حمرا التسعينيّات (بداياتي الأولى هناك) فأعمد بسرعة إلى طرد تلك الذكريات، ذلك أنّ التجربة علّمتني أنّ مقارنة الماضي الجميل مع الحاضر المقيت، تنطوي على تواطؤ خسيس ضدّ الذات، بل ترى هذه المقارنة تنطوي على مؤامرة يحيكها الماضي والحاضر معًا، نكون إزائها مجهولي الهويّة والانتماء، ومحلّ تضعضع و”حيص بيص”. مؤامرة شرّيرة لا يعلم عقابيلها إلّا – ربّما– ربّ العالمين. فمن المجحف بحقّ الذات أن يسوق الإنسان نفسه، لأن يكون مغبّة ترحّم على جزء من روحه عبر الوقوع في فخّ هذه النوستالجيا أو تلك.
تهالك الأجساد
لست أدري من قال مرّة إنّ النوم يفتح نزلًا للأشباح (حسنًا تذكّرت، إنّه الفرنسيّ غاستون باشلار). ربّما كان على باشلار أن يسير في شارع الحمرا هذه الأيّام كي يستبدل كلمة “النوم” في عبارته بكلمة “الحمرا”. فتهالك أجساد الناس في ذاك الشارع البغيض، يشي أنّ زمرة من الأشباح تلبّستْ هذه الأجساد، فإذا بها تسير متهالكة فوق الأرصفة، زومبيّات بنظرات تائهة، وبشفاه تخاطب إغماضات العيون.

ربّما يرى البعض في هذا الكلام مبالغة، “يصطفلو”، وليهنأوا بتفاؤلهم الأعور الركيك، أمّا أنا وعلى الرغم من هذه المقالة، فأجد أنّ الكلمات (حتّى هذه اللحظات) لم تسعفني بما فيه الكفاية، لتظهير الملل الذي يسود شارع الحمرا الفاغر الفاه بتثاؤب مديد، مديد، مديد. “ما بعرف”، ربّما الملل هو في أحد وجوهه ارتخاء الكلمات، جرجرة الكلمات لنفسها بأقدام تتوسّل بقيّة نشاط، ربّما الملل هو مهمهة الصوت، أيّ قولنا “مه، مه” كإشارة منّا إلى أنّ كلّ الأمور لم تعد تعنينا بالمرّة، ونحن مجرّد كائنات الصدفة، فوق هذا الرصيف أو تلك البقعة أو ذاك الطريق.
أحوال المدن ومصائرها
يخبرنا الأنثروبّولوجيّ الفرنسيّ مارك أوجيه، وهو المدعوك بأحوال المدن ومصائرها بما يفوق التصوّرات، فيقول: “إنّ المدن تفلت منّا مع تعاقب الأيّام والسنين”، وما قد استدعى أوجيه إلى ذهني الآن هو تحديدًا كلمة “أطلال” في كتابه الأشهر “الزمن أطلالًا”.
ربّما تراخي قسمات الوجوه هناك في شارع الحمرا، وأيضًا تهالك الأجساد فضلًا عن ملامح الملل التي تحفر في الشارع عميقًا، ربّما كلّ هذه الأمور مردّها إلى أنّ هذا الشارع يقتات على أطلال زمن مضى وولّى، فالشوارع أيضًا تشيخ وتبور كما يقول مارك أوجيه، وأكثر تبدّيات هذه الشيخوخة تراها تتجسّد عبر ديدان الملل التي “تنعف بِسما ربّ الشوارع والطرقات والرؤوس والأقدام والألسن والقلوب” (والعبارة الأخيرة ليست لأوجيه بل لي).
ليس الملل بزائر الصدفة، ولا هو بالضيف الخفيف الظلّ، إنّه ذلك الشبق المخزي الذي يرتّب كلّ أسباب الفرار و”يُجَعْلك” كلّ نوستالجيا ممكنة ويستبيح بفجور (في ما يتعلّق بكاتب هذه المادّة) كلّ كراسي- بشكل خاصّ– كلّ كراسي المودكا كافّيه.
بين الكبابجي والدانكن دوناتس
انحنيتُ فوق قطّ عجوز عند تلك المساحة الممتدّة بين الكبابجي والدانكن دوناتس بعد خروجي من مقهى إمّ نزيه. مسّدتُ فوق وبره بحنوّ، هو الملتفّ حول نفسه كدائرة مقدّسة يعلوها الغرور وسألته، “كيفك اليوم؟”. لم يردّ عليّ بنأمة مواء أو حتّى بلفتة نظر، جلّ ما قام به هو أنّه أشار بذنبه إلى جسده الدائريّ جدًّا، وكأنّي به يقول لي: “إنّ اليوم مثل البارحة، وغدًا سيكون مثل اليوم”، ليتثاءب بعدها ويغمض عينيه عن آخرها.
إنّه واحد من قطط الحمرا “العتاق” وقد أجاد رسم شارع الحمرا عبر دائرته المغلقة تلك، وربّما غنيّ عن القول إنّ الحليف الأقوى للملل هو تلك الدوائر المغلقة بإحكام، تلك الشوارع الموصدة إلّا عن جرجرة الأجساد وتأفّف الأنفاس، وشرود النظرات و”التكبتل” فوق دبق الساعات والأيّام، وصمغ الأسابيع والشهور والسنين.