“الخاتون” الإنكليزية في بعلبك: المسيحيون في جوع وخوف والمتاولة في جهل (1)
حسين حمية
ما دفعني لشراء كتاب “سوريا – البادية والغوطة” في معرض الكتاب الأخير ببيروت، ليس مؤلفته ال miss غيرترود بيل، علما أن كل ما كتبته هذه السيدة الانكليزية هو على قدر عال من الأهمية، فالكاتبة شخصية استثنائية، وعلى الرغم من مضي 93 عاما على وفاتها انتحاراً، ما زالت بصماتها محفورة في تاريخ منطقتنا وحاضرها، فهي من يدعوها العراقيون ب”الخاتون”، ومن بنات أفكارها رأى العراق الحديث النور، وعلى تقاريرها وآرائها واقتراحاتها بنت بريطانيا الكثير من سياساتها الدولية، بما فيها تصوراتها لتشكيل المنطقة ما بعد تفكيك الامبراطورية العثمانية.
كان الحافز لشراء هذا الكتاب أن المؤلفة من بين 14 فصلا، خصصت فصلا لزيارتها منطقة بعلبك وهذا ما يهمني، وتزامنت زيارتها إلى هذه المدينة مع انشغال الغرب بإعادة بناء كيانات المنطقة على الورق تمهيدا لاتخاذ القرارات التأسيسية، وقد قامت هذه الورشة على الاستطلاعات الميدانية والاستخبارية، فكانت زيارات ورحلات المستشرقين تشكل مصدر إمداد معلومات لصنّاع القرار وراسمي السياسات، والمعروف، أن السيدة بيل قامت بأكثر من رحلة، كانت الأولى إلى إيران وقد دونتها في كتاب اسمته “صور فارسية”، ثم سافرت عبر شبه الجزيرة العربية 6 مرات، وزارت فلسطين وسوريا مرتين الأولى سنة 1900 والثانية بعد خمس سنوات، ولأهمية ما كانت تنقله من مشاهداتها في هذه الرحلات جرى استدعائها للعمل في المكتب العربي بالقاهرة وهو المقر الإقليمي للمخابرات البريطانية ما قبل الحرب العالمية الأولى.
مع أن ما ساقتطعه على 3 حلقات من كتاب “الخاتون” قد يثير الغضب للغتها المتغطرسة وأحكامها الفيكتورية على الجماعات الثقافية، إلا تناولها بكراهية لشيعة بعلبك ليس حصريا، فهي تصف البغداديين بأنهم أشرار أكثر من كلب الصيد الذي يسطو على الدجاجات، وتبلغ بها الوقاحة أنها تتمنى أن ترى صبية في حمص يسقطون بوابل نيران البنادق لأن ردة فعلهم على مشاهدتها وهي انكليزية بملابس غريبة عليهم كانت ولادية، حتى أنها تصف أهل حمص أنفسهم بالجرذان، وعبّرت في أكثر من مكان عن كراهيتها للشركس. ومع ذلك هناك أكثر من فائدة بالنشر، خصوصا أن هذا الكتاب قد ترجم للمرة الأولى.
الانطباع الذي كانت تنشره “الخاتون” عن رحلتها إلى بعلبك، هو استكشاف المواقع الأثرية في تلك المنطقة، وقد قدمت إليها من دمشق بين شتاء وربيع العام 1905، فعبرت وادي بردى ثم الزبداني، وهناك نصبت مخيمها لقضاء الليل، وفي اليوم التالي عبرت “باتجاه لبنان تحت ريح تعوي”، وإذ تحدثت عن رحلة جميلة، إلا أنها تقول “كانت رحلة طويلة استمرت ثماني ساعات وربع الساعة”.
وتذكر في طريقها إلى بعلبك أنها شاهدت نقوشا لاتينية “على مسافات في الصخور عند أسفل الوادي الذي يقع عند يحفوفا في جنتا”، وعلى هذا استنتجت أنها على “مسار الطريق الروماني من دمشق إلى بعلبك”.
تقول السيدة بيل أنها قطعت أميالا جرداء “تحت وابل من الأمطار، ووصلنا مبللين عبر منطقة بعلبك، كان الجو شبه عاصف بما يجعل من المتعذر على أحد ينصب مخيما، ومع ذلك تمردت روحي على فكرة البحث عن فندق. ولحسن الحظ اقترح ميخائيل (مرافقها) ملتجأ. فقد كان يعرف امرأة مسيحية كريمة تعيش عند مدخل القرية، قال إنها ستوفر لنا المأوى دون شك. وقد صدق توقعه فعلا. إذ بدت المرأة المسيحية سعيدة لرؤيتنا. وقد احتوى منزلها على غرفة نظيفة فارغة كانت جاهزة تلقائيا لأثاث المخيم، بينما جهز ميخائيل لنفسه ومعداته للطهي مكانا آخر، وبدت الرياح وقرع الأمطار على الدرفات أدنى من تلحق بنا أي أذى”.
المرأة التي استقبلت السيدة بيل اسمها “قرنفلة “ويُفهم من سياق النقل أنها من جبل لبنان ومتزوجة من شخص بعلبكي مسيحي اسمه “يوسف عويس، يعيش في أميركا حاليا ويسعى لجمع ثروة من عمله هناك، وهي تتمنى الالتحاق به”، على ما تقول بيل.
وتضيف “قضيتُ ما بين ساعة إلى ساعتين معها وابنها وابنتها وبعض الأقارب، الذين أدلوا بقليل من الحديث، وعزفوا شيئا من الموسيقى، على عود جلبوه معهم. أخبروني أنهم قلقون للغاية بشأن مستقبلهم. فالجزء الأكبر من سكان بعلبك وما حولها ينتمون إلى طائفة إسلامية غير أصولية، تدعى المتاولة، تتمتع بسمعة خاصة جدا بسبب التعصب والجهل. وعندما سمع هؤلاء الجماعة أخبار الانتصارات اليابانية، هرعوا إلى جيرانهم المسيحيين، وهم يهزّون قبضاتهم قائلين: المسيحيون يتلقون الهزيمة! إفهموا الآن، بأننا ايضا سنخرجكم قريبا من هنا ونستولي على ممتلكاتكم”.
طمأنت السيدة بيل قرنفلة بالقول ” إنه من غير المحتمل أن يعاني مسيحيو سوريا من الاضطهاد، لأن البلاد معروفة جدّا ويرتادها الكثير من السيّاح، الذين لن يتوانوا عن إثارة ضجة. وفي الواقع، فإن استمرار تدفق السيّاح من أفضل ضمانات النظام. وهنا، وبما أن قرنفلة امرأة لبنانية (اي من الجبل)، فقد سألتُها عن سبب عدم عودتها إلى قريتها، حيث ستكون تحت الحماية المباشرة للسلطات (أي المتصرفية) وتصبح بمأمن من الخطر”.
بهذا ردّت قرنفلة على الكاتبة: “يا سيدتي، البيت هنا مستملك باسم زوجي، ولا أستطيع بيعه إلا إذا عاد، ولن أتركه فارغا، وعلاوة على ذلك، فالحياة في لبنان (أي في الجبل) ليست مثل الحياة في السهل، وأنا هنا اعتدت على أشياء أخرى، لا يمكنني تحملها هناك، حيث لا شغل لأحد سوى مراقبة جاره، وإذا ما ارتديت تنورة جديدة فإن القرية ستتهامس فيما بينها ويسخرون منك بالقول : هل رأيتم السيدة!؟..أنظري، سأريك كيف تكون الحياة في لبنان. أنا آكل اللحوم في بعلبك كل يوم، لكنهم في القرية لا يأكلونها سوى مرة واحدة في الشهر. أما بقية الايام، فيأخذون البصلة الواحدة ويقسمونها إلى ثلاثة أجزاء، باستخدام جزء واحد كل مساء من أجل نكهة البرغل، بينما أضع عدة بصلات في الطبق كل ليلة.فرص الحياة في لبنان تضيق، بشدّة بحيث دفعت كل السكان ممن يستطيعون ادخار بعض الأموال إلى الهجرة للولايات المتحدة، ويكاد يبدو من المستحيل إيجاد عمل في زراعة الحنطة والتوت والكرم. ليس هناك أية فرصة تقدم، وباستخدام العبارة السورية، فأن الإقليم اللبناني عبارة عن طريق مسدود، بلا ميناء خاص بها وبلا تجارة، صحيح أن الخوف من الموت قد لا يساورك، ولكن بالمقابل، أي نفع من وجود يقدم بثلث بصلة عند العشاء”.
يتبع