الخطّاط كامل البابا بين سطوع الخطّ وانطفائه
في كلّ فنّ هناك تدرّج في التجربة والمهارة، وصولًا نحو المراتب العليا، في الغالب يتساقط الموهوبون في بلادنا في منتصف الطريق، لقلّة الحيلة، وغياب التحفيز الكافي. لذلك حين يبلغ المبدع درجة الكمال فهو مؤشّر على اجتهاده الذاتيّ، وإصراره الفرديّ المتجاوز للمؤثّرات المتقاطعة مع فنّه. الخطّاط الصيداويّ كامل البابا من العصاميّين الذين امتزجوا بتركيبة حبر الخطّاطين، المؤلَّف من صبغة حصى الجوز والصمغ العربيّ والغراء الأبيض، متماهيًا بشحمة القصبة ومنقارها وشقّها وسنّيها الوحشيّ والإنسيّ.
المثقَّف العارف
كان كامل البابا من أولئك الخطّاطين المثقّفين المتبحّرين بمزايا ابن مقلة، كبير خطّاطي العصر العباسيّ ومخترع خطّ الثلث، والذي قال فيه ابن الزنجيّ: “ذاك نبيّ فيه، أُفْرِغَ الخطّ في يده كما أُوحِي إلى النحل في تسديس بيوته”. كان البابا من أواخر الخطّاطين الذين يرون في فنّهم طقسًا روحيًّا مرتبطًا بقداسة الحرف العربيّ، ببعده القرآنيّ، خصوصًا أنّه ابن الشيخ سليم البابا، الذي علّم ابنه مبادئ الخطّ في سنّ مبكرة، ويكتمل خطّ الحبر بالحفيد مختار الذي احترف الخطّ إلى جانب عمله كاتبًا في المحاكم.
ولادة بين مدينتين
في العام 1905 ولد كامل البابا في صيدا، وعاش فيها الجزء الأوّل من طفولته، ثمّ كانت له ولادة ثانية في بيروت، حينما قرّر الوالد الشيخ سليم (أستاذ الخطّ العربي والأدب الإسلاميّ في الكلّيّة الإسلاميّة في بيروت) النزول إلى بيروت كي يستقرّ فيها، فتشكلت هويّته بثنائيّة الجنوبيّ- البيروتي، فعايش أجواء وأصداء الحرب العالميّة الأولى، وما رافقها من مجاعات وأهوال، وإجبار الشبّان على المشاركة في الحرب، لذلك كانت نشأة البابا متدرّجة بين سلطنة عثمانيّة وانتداب فرنسي ولبنانيّة مستقلّة.
طالبًا وأستاذًا
من دار المعلّمين تخرّج كامل البابا في العام 1923، ونال شهادة البكالوريا اللبنانيّة في العام 1929 وكانت دفعته الأولى في لبنان، وكان شديد التميّز باللغة العربيّة، كذلك أتقن الفرنسيّة فكانت ميزة أخرى سهّلت انغماسه في الأعمال التي مارسها لاحقًا، علمًا أنّه تابع تعلّم الخطّ علي يد خطّاط ملك مصر نجيب هواويني، وهو من أشهر الخطّاطين الذين أنجبهم العالم العربيّ، فكان من حظّ البابا أنّه غرف من النبع.
كانت بيروت ولادة ثانية لكامل البابا، حينما قرّر الوالد الشيخ سليم (أستاذ الخطّ العربي والأدب الإسلاميّ في الكلّيّة الإسلاميّة في بيروت) النزول إلى بيروت كي يستقرّ فيها، فتشكلت هويّته بثنائيّة الجنوبيّ- البيروتي
امتهن ابن صيدا التعليم عدّة سنوات في مدارس المقاصد الإسلاميّة، ثمّ في المدارس الرسميّة، إلى أن عيّن أستاذًا للخطّ العربيّ والزخرفة في معهد الفنون الجميلة التابع للجامعة اللبنانيّة من العام 1968 إلى العام 1974، قبل أن تندلع الحرب الأهليّة اللبنانيّة بعدها بعام واحد، فقرّر كامل البابا الانتقال مع جميع أفراد عائلته إلى المملكة العربيّة السعوديّة، وتابع دوره كفنّان يشار إليه بالبَنان.
توقيع “البابا”
لم يقتصر عمل البابا على التعليم، فقد عاش العصر الذهبي للخطّ في زمن كان فيه الخطّاط ضرورة لكلّ صحيفة ومجلّة ودار نشر وشركة إعلانات وإدارة رسميّة. وقتذاك اتّخذ الخطّاط دور الفنّان الذي يقدّم الكلمات بشكل أنيق تمهيدًا لعمليّة الطبع. ولأن اسم الخطّاط كان قيمة بذاته، سوف نجد عشرات الكتب الصادرة عن الدور القديمة بتوقيع “البابا” وهو ما نجده مدوّنًا بحرف صغير ضمن العنوان الرئيس، على غرار ما فعله الخطّاطون في العهود العبّاسيّة والصفويّة والفاطميّة، وصولّا إلى العهد العثمانيّ وما بعده.
وريث الحبر
امتلك كامل البابا روحيّة المعلّم، فلَم يبخل على مريدي الخطّ بنصيحة ودرس ومتابعة. إنّ واحدة من صفات الخطّاط الحقيقيّ أن يكون عنده تلامذة يتباهون باسم استاذهم، وكان خير تلامذته ابنه مختار البابا الذي ورث عن والده موهبة الخطّ وعمله في المحكمة، إذ كان والده خبيرًا محلّفًا في الخطّ أمام المحاكم اللبنانيّة.
حاول مختار أن يتحرّر من الشكل الكلاسيكيّ للخطّ العربيّ، مغازلًا الحروفيّة في بعض لوحاته، فاستوقف النقّاد وعلى رأسهم أحمد بزّون الذي كتب عنه في صحيفة السفير بعد تنظيمه معرضًا للوحاته: “ينقسم المعرض، بالفعل، إلى قسمين منفصلين تقريبًا، الأوّل يُظهر فيه الفنّان إمكانات الحرفة والمعرفة التراثيّة في الخطّ، وكلّ ما شاع من تشكّلات وتكوينات وفنون، تأخذ الكلام مرّة إلى مشاهدات شكليّة هندسيّة ومرّة أخرى إلى زخرفة وغنائيّات بصريّة. أمّا القسم الثاني، فيبرز محاولات جديدة لتقديم لوحة خطّ تخرج على إطار التقليد لتتماهى أكثر مع ايحاءات الحرف العربي بالإضافة إلى إيحاءات وتجلّيات أنواع الخطّوط”.
يتابع بزّون: “أمّا في اللوحات التي يعمل الفنان فيها على تحرير الخطّ والسعي إلى تأليف لوحة فنّيّة والبحث في احتمالات إطلاق الصيغ، فإنّ الفنّان بقي محافظًا على عدد من عناصر الخطّ الأساسيّ. أراد مختار البابا أن يحقّق نقلة جديدة في معرضه الجديد هذا، فحقّق ما طمح إليه، لكن بقي ذلك في شكله الجزئيّ، إذ إنّ اللوحة بقيت مشدودة بحنين قويّ إلى اللوحة الكلاسيكية”.
ثنائيّة النخبويّ والشعبيّ
عاش كامل الباب نخبويّة الفنّان وشعبيّته، وبينما كان يرسم خطوطه مسطّرًا آية كريمة، كان يكتب بطاقات أفراح ولافتات استقبال الحجّاج العائدين من مكّة. حال يصفها الناقد اللبنانيّ محمّد سويد، الذي عرف آل البابا عن قرب وكجيران في الشارع ذاته: “كان كامل البابا من أجمل من رسم الخطّ الفارسيّ الذي عشقته منذ صغري، وشجّعني تعلم فنون الخطّ عبر جلوسي ساعات أمام دكّان كلّ خطّاط أمرّ به. والحي الذي ولدت فيه ازدهر والأزقّة المجاورة له بدكاكين الخطّاطين: بعيون ومزيّك ومراياتي وصبره وبخاريّ. معظمهم اعتاش من الإعلانات التجاريّة وملصقات الأحزاب والحملات الانتخابيّة والحفلات الفنّيّة والترويج للأفلام والمسرحيّات وكتابة عناوين الصحف ومقالاتها وبطاقات المعايدة والأعراس”.
موتٌ في الغربة
أدرك البابا أنّ التتلمذ على يديه لا يكفي كي يتمّم دوره ويخلّد اسمه، فكان أصدر كتابًا في العام 1983 يحمل عنوان “روح الخطّ العربيّ” تناول فيه نشأة الخطّ العربيّ وانتشاره وأنواعه وميزات أساتذته، مقدّمًا بعض النماذج الإيضاحيّة المحمّلة بالرسائل الجماليّة. مع ذلك ربّما لن تجد سوى هذا المؤلَّف من أثر البابا إذا ما حاولت البحث عن صوره أو أعماله الخطّيّة، علمًا أن الرجل غادرنا في العام 1991، إذ توفّي في السعوديّة عن عمر 84 عامًا، أمّا ابنه مختار فقدر رحل في مصر مطلع العام 2021. خطّاطان ماتا في الغربة، هي انعكاس لغربة الخطّ في بلادنا.