“الدفن كوديعة”.. نزوح الأموات في زمن الحرب
لم تقتصر الجرائم الإسرائيليّة على الأحياء فحسب، وإنما طالت الأموات الذين حُرموا من احتضان تراب بلداتهم وقراهم لجثامينهم بعد أن بات الوصول إلى تلك المناطق، أو ما بقي منها، أمرًا صعبًا للغاية. فمنذ بداية الحرب في الثامن من تشرين الأوّل (أكتوبر) 2023 كان أهالي البلدات الحدوديّة، حيثُ تقع المواجهات، يقومون بدفن جثامين أبنائهم في مدافن البلدات بعد تنسيق ذلك مع الجيش اللبنانيّ واليونيفيل، إلّا أنّ توسّع رقعة الحرب بدءًا من الـ 23 من أيلول (سبتمبر) الماضي ونزوح أكثر من مليون لبناني جعل هذا الأمر أقرب إلى المستحيل، إذ انقطع التواصل مع القرى الحدوديّة نهائيًّا، وأصبحت القرى والبلدات الخلفيّة خالية تمامًا من سكّانها بفعل النزوح.
في زمن السلم، كان أبناء تلك القرى، ولا سيّما من انتقل للعيش في مدن وبلدات أخرى، يختارون أمكنة دفن أحبتهم سواء في مساقط رؤوسهم أم في البلدات التي يقطنونها. هذا الترف لم يعد موجودًا في زمن الحرب بعد أن أصبح اختيار المثوى الأخير أمرًا شائكًا ومعقّدًا وخاضعًا للظروف الأمنيّة المحيطة بالبلدة. فلم يعد يمكن أهالي القرى الواقعة في الخطّ الأوّل والثاني الوصول إلى بلداتهم وإجراء هذه المراسم.
حلّ موقّت بانتظار انتهاء الحرب
أمام هذا الواقع، وفي ظلّ اشتداد العدوان وازدياد أعداد الشهداء الذي وصل إلى أكثر من 3100 شهيد، كان لا بدّ من إيجاد حلّ لهذه المسألة، فكان اللجوء إلى دفنهم كوديعة في مناطق يُمكن للدفاع المدنيّ أو سيّارات الإسعاف الوصول إليها، وذلك في مدن صور أو النبطية والقرى المحيطة بانتظار انتهاء الحرب ونقل الجثامين.
يشرح المنسّق الإعلاميّ في “وحدة إدارة الكوارث” في اتّحاد بلديّات صور بلال قشمر، في حديث لـ “مناطق نت”، أنّه “في ذروة الحرب في قرى وبلدات الحافّة الأماميّة كان يتمّ دفن الشهداء في بلداتهم بعد التنسيق مع اليونيفيل والجيش اللبنانيّ الذي كان يواكب هذه المراسم على الأرض”، مضيفًا “بعد توسُّع رقعة الحرب، لم يعد هناك إمكانيّة للقيام بذلك، وهذا ما أدّى إلى إقامة مقبرة موقّتة بالقرب من ثكنة الجيش في صور، وذلك على غرار ما حدث في حرب العام 2006”.
ويؤكّد قشمر أنّ “أسباب دفن الشهداء في هذه المقبرة كوديعة ليس بسبب المخاطر الأمنيّة فقط، وإنّما كذلك رغبة بعض الأهالي- الذين يتحدرون من بلدات واقعة في خطوط خلفيّة يمكن الوصول إليها وإجراء مراسم الدفن- بأن تتمّ هذه المراسم بعد انتهاء الحرب كي تكون بشكل أكثر تنظيمًا وحضورًا”. هذا ما حدث، على سبيل المثال، مع شهداء الدفاع المدنيّ الذين سقطوا إثر غارة نفذها الطيران الحربيّ الإسرائيليّ، في تشرين الأوّل الماضي، على صالون كنيسة بلدة دردغيا حيث كانوا يبيتون.
ما يقوم به الأهالي هو تكرار لما حدث بعد أيّام على انتهاء حرب تمّوز (يوليو) 2006، إذ تحوّل الجنوب اللبناني إلى بيت عزاء كبير، لفّ الحزن فيه جميع المواطنين ممّن فقدوا أحباءهم في الحرب. فقد جرى نقل جثامين 138 شهيدًا من مقبرة الوديعة التي أنشئت في مدينة صور حينذاك، لتوارى جثامينهم في الثرى في مساقط رؤوسهم في نحو 40 قرية جنوبيّة.
وعن أسباب اختيار المدينة لإقامة هذا المدفن الموقّت، يوضح قشمر أنّ “ذلك يعود إلى كونها أكثر أمنًا من بين بقيّة البلدات المحيطة بها، ويتوافر فيها الجانب اللوجستيّ، فضلًا عن أنّ المستشفيات التي تصل إليها جثث الشهداء تقع في محيط المدينة.”
وحتّى كتابة هذا التقرير تخطّت أعداد الشهداء الذين دفنوا فيها الـ 130 شهيدًا، وهم لا يقتصرون على أبناء البلدات المحيطة بصور أو الواقعة في القطاع الغربيّ، وإنّما على مناطق أخرى. وتقام مراسم الدفن بشكل مماثل للمراسم المعتادة لدى مختلف الطوائف، على أن تتمّ كتابة اسم الشهيد على النعش من الجهتين بغية منع أيّ فوضى.
ما يقوم به الأهالي هو تكرار لما حدث بعد أيّام على انتهاء حرب تمّوز (يوليو) 2006، إذ تحوّل الجنوب اللبناني إلى بيت عزاء كبير، لفّ الحزن فيه جميع المواطنين ممّن فقدوا أحباءهم في الحرب
النبطية والتجربة الأولى
يضيف مختار مدينة النبطية، حسن نزار جابر، في حديث لـ”مناطق نت”، سببًا آخر يدفع المواطنين إلى دفن أمواتهم كوديعة، وهو “عدم قدرتهم على حضور مراسم الدفن بسبب صعوبة الانتقال من أماكن النزوح إلى مساقط رؤوسهم”.
وعلى خلاف صور، تشهد النبطية تجربتها الأولى في هذا المضمار، ففي حرب تمّوز “لم نصل إلى هذا الوضع ولم نقم بفتح مقبرة لدفن الجثث كوديعة”، وفقًا لجابر الذي يوضح أنّه “بعد نحو 10 أيام على توسُّع رقعة الحرب، قمنا بافتتاح هذه المقبرة في بلدة تول”. ويؤكّد أنّه “في النبطية وبعض البلدات المحيطة مثل ميفدون وشوكين وكفررمان وغيرها يتمّ الدفن بشكل طبيعي”.
وفي حالات أخرى يتمكّن الأهالي من نقل الجثامين إلى أماكن نزوحهم ودفنها هناك كوديعة، إلّا أنّ هذه الحالات استثنائّية ومحدودة نظرًا إلى التعقيدات المحيطة بها.
يبدو أنّ الحرب جعلت من لحظة الوداع الأخير مختلفة، فتحوّلت مشاهد الحزن والأسى بفقدان الأحبّة إلى وداع محكوم بظروف الحرب الصعبة والمعقّدة. وما زاد من مرارة المشهد، تكرار الاحتلال لمشاهد تجريف المقابر التي مارسها في عديد من المناطق التي تشهد ارتكابات لجرائمه، وتحديدًا في مدينة غزّة وشمالها، وهو وضع خلّف كثيرًا من الفوضى والألم. إنّ تلك المشاهد القاسية أعاد العدوّ تكرارها في بعض البلدات الجنوبيّة، متعمّدًا الانتقام من الأموات بعد أن رفع من مستوى جرائمه بحقّ الأحياء.