الرشّ العشوائيّ للمبيدات الزراعيّة يضرب الصحّة ويسمّم الإنتاج

في الحقول اللبنانيّة الممتدّة بين السهل والجبل، يقف المزارع وحيدًا في مواجهة تقلّبات الطقس، وزحف الحشرات، وخطر خسارة الموسم. ولأنّه لا يملك ما يقيه هذه المخاطر، يلجأ إلى الرشّ، يستخدم المبيد مرّة بعد مرة، وأحيانًا أكثر من مرّة، فقط ليُبقي تعبه على قيد الحياة. ليست المبيدات بالنسبة إليه خيارًا علميًّا مدروسًا بقدر ما هي وسيلة للحفاظ على مواسمه. والمفارقة أنّ ما يُعدّ للتصدير يخضع لفحوص وتحاليل دقيقة تراقب أدقّ التفاصيل، أمّا ما يذهب إلى السوق المحلّيّ، إلى موائد اللبنانيّين، فلا أحد يسأل عنه، ولا جهة تراقب ما يحمله من بقايا سموم.
كشفت دراسة حديثة نُشرت في الـ 25 من شباط (مايو) 2025 عن المركز الوطنيّ لمعلومات التكنولوجيا الحيويّة، أجراها الباحثون: نسرين عكّوش وجلال حلواني وعصام شعراني، بعنوان “استكشاف معرفة وممارسات المبيدات الحشريّة والتصوّرات الصحّيّة بين المزارعين في عكّار، لبنان”، أن نحو 49 في المئة من المزارعين في لبنان يستخدمون المبيدات بطرق غير آمنة، ما يسفر عن تلوّث المنتجات الغذائيّة ببقايا كيميائيّة محظورة. وتُعزى هذه الممارسات إلى الأزمة الاقتصاديّة التي تعصف بالبلاد، والتي تحدّ من قدرة المزارعين على اعتماد أساليب زراعيّة أكثر أمانًا.
وعلى رغم اعتماد لبنان على أنظمة التسجيل الدوليّة للمبيدات، مثل تلك المعتمدة في الاتّحاد الأوروبّيّ والولايات المتّحدة الأميركيّة، فإنّه لا تُجرى اختبارات لتقييم بقايا المبيدات على الإنتاج المحلّيّ، والاستمرار في استخدام المنتجات الكيميائيّة المحظورة أو المتقادمة، جميعها عوامل تؤدّي إلى سوء استخدام هذه المواد وزيادة مستويات التلوّث في البيئة وسلاسل الغذاء، بما يهدّد صحّة المزارعين والمستهلكين على حدّ سواء.

بقايا مبيدات محظورة
في أيلول (سبتمبر) 2024، رفض البرلمان الأوروبّيّ مقترحين اثنين من المفوّضيّة الأوروبّيّة كانا سيسمحان بمستويات معيّنة من بقايا المبيدات المحظورة في الأغذية المستوردة، هذا القرار جاء بعد رفض عدّة دول أوروبّيّة دخول منتجات غذائيّة مستوردة، ومن بينها منتجات لبنانيّة بسبب احتوائها على بقايا مبيدات محظورة.
ففي العام 2022، رفض الاتّحاد الأوروبّيّ شحنات من العنب اللبنانيّ بسبب احتوائه على الكلوربيريفوس والمونوكروتوفوس، وهما من المبيدات التي تمّ حظرها في أوروبّا نتيجة تأثيراتهما السامّة على الصحّة العامّة. كذلك تمّ رفض شحنات من ورق العنب المخلّل في قبرص بسبب احتوائه على مزيج من المبيدات المحظورة، كذلك، تمّ رفض شحنات بذور الشبت المجفّفة المُصدّرة إلى هولندا بسبب احتوائها على موادّ محظورة مثل البروبيكونازول.
هذه الوقائع تكشف خللًا عميقًا في الرقابة الزراعيّة اللبنانيّة، وتثير تساؤلات جدّيّة حول سلامة الغذاء المحلّيّ والمُصدّر على السواء، وفي محاولة للامتثال للمعايير الأوروبّيّة، أصدرت وزارة الزراعة اللبنانيّة القرار رقم 26 لعام 2021، الذي يفرض على المصدّرين إجراء اختبارات لبقايا المبيدات على منتجات مثل العنب والتفّاح والحمضيّات واللوز بعد الحصاد أو في مراكز التعبئة، باستخدام مختبرات معتمدة، لكن هل يطبّق هذا القرار؟
في العام 2022، رفض الاتّحاد الأوروبّيّ شحنات من العنب اللبنانيّ بسبب احتوائه على الكلوربيريفوس والمونوكروتوفوس، نتيجة تأثيراتهما السامّة على الصحّة العامّة
سوء الاستخدام وضعف الوعي
يشرح المهندس الزراعي وليد جابر “أنّ المشكلة الأساسيّة لا تكمن في نوعيّة المبيدات المتاحة في السوق اللبنانيّة، حيث إنّ جميعها مرخّصة وتخضع لمراقبة وزارة الزراعة وفقًا لمعايير السلامة، بل تكمن في سوء الاستخدام الناجم عن ضعف الوعي والمعرفة لدى المزارعين”.
يتابع جابر لـ “مناطق نت” أن “المزارع يعاني من ضغوط اقتصاديّة كبيرة، ما يدفعه إلى زيادة جرعات المبيدات، وتكرار رشها لحماية المحصول من التلف، كما في حالة التفّاح أو الفواكه الحسّاسة مثل التين والفريز والتوت، وبخاصّة عندما يفتقر إلى الإمكانيّات اللازمة لتخزين المحاصيل مثل البرّادات أو البيوت البلاستيكيّة، وهذا ما يثير قلقًا حول صحّة وسلامة المستهلك، بالإضافة إلى تأثيرات سلبيّة على التربة والتنوّع البيولوجيّ”. ويؤكّد جابر “أهمّيّة التوجيه الزراعيّ السليم للحدّ من هذه الممارسات”.
تجربة رائدة لزراعة مستدامة
في المقابل، تُظهر تجربة المزارع موسى شرقاوي من بلدة إرزي الساحليّة (قضاء الزهراني- صيدا) نموذجًا للزراعة المستدامة من خلال ممارساته البيئيّة الواعية، التي توازن بين استخدام الأساليب التقليديّة والحديثة في الزراعة. يقول لـ “مناطق نت”: “أعتمد الزراعة في البيوت البلاستيكيّة، وأستخدم التعقيم الشمسيّ كوسيلة طبيعيّة لتعقيم التربة، إذ أقوم بتغطية الأرض بالبلاستيك مع إضافة الماء، ممّا يسمح لحرارة الشمس المرتفعة خلال الصيف بالقضاء على البكتيريا والحشرات الضارّة”.

يتابع شرقاوي “أشتري أفضل أنواع المبيدات وأرشّها مرة واحدة خلال الموسم، مع الالتزام بفترة الأمان المحدّدة على إرشادات الاستخدام، وذلك لحماية نفسي وحماية المنتجات”. ويؤكّد أنّ بعض المزروعات لا تحتاج إلى رشّ، بينما تحتاج مزروعات أخرى إلى رشّ كلّ 15 يومًا. يعتمد شرقاوي أيضًا على مخلّفات الحيوانات، وبخاصة الدجاج، كسماد عضويّ يعزّز من إنتاجيّة وجودة المحاصيل، ويعتبر أنّ اختيار البذور من شركات موثوقة يلعب دورًا في قوّة النبتة ومقاومتها للحشرات.
صعوبات التسويق
لطالما واجه المزارعون في لبنان صعوبات في تسويق منتجاتهم. وفي هذا الإطار يقول شرقاوي “أسعار الخضار ربّما تكون مرتفعة في بعض الأحيان، ممّا يحقّق مردودًا يغطّي الكلف، بينما في أوقات أخرى تكون الأسعار متدنّية لدرجة أنّني أضطرّ إلى ترك الإنتاج في الحقل من دون تسليمه لتجّار الجملة”. هذا التذبذب في الأسعار يعكس واقعًا اقتصاديًّا صعبًا يؤثّر بشكل مباشر في قدرة المزارعين على الاستمرار في عملهم.
وبرأي المهندس الزراعيّ جابر فإنّ “الالتزام بالإرشادات الزراعيّة ليس فقط ضرورة صحّيّة وبيئيّة، بل هو أيضًا شرط أساسيّ لتصدير المنتجات الزراعيّة. فالمزارع الذي لا يحترم الإرشادات سيكون المتضرّر الأوّل، خصوصًا إذا كان يطمح إلى تصدير إنتاجه، لأنّه يتوجّب عليه إجراء تحاليل مخبريّة بشروط صارمة للحصول على إذن التصدير، ممّا يفتح أمامه آفاقًا أوسع في الأسواق المحلّيّة والدوليّة”.
جابر: الالتزام بالإرشادات الزراعيّة ليس فقط ضرورة صحّيّة وبيئيّة، بل هو أيضًا شرط أساسيّ لتصدير المنتجات الزراعيّة. فالمزارع الذي لا يحترم الإرشادات سيكون المتضرّر الأوّل
ويلفت جابر إلى أنّ بعض المناطق مثل الجنوب والنبطية حيث لا توجد مساحات زراعيّة كبيرة، تُظهر التزامًا أعلى بالمعايير الزراعيّة بفضل الاستعانة بالمشورة الفنّيّة. ولأنّ المزارع يأكل ممّا يزرعه، يخاف المزارع شرقاوي “على صحّتي أيضًا ونحن نأكل ممّا نبيعه للسوق”.
تحدّيات تواجه المزارعين
مع ذلك، يعتبر جابر أنّ تفاقم التحدّيات التي تواجه المزارعين في ظلّ التغيّرات المناخيّة الحادّة، وتراجع الموارد المائيّة، وانعدام الدعم الحكوميّ، ربّما يؤدّي إلى فشل الموسم الزراعيّ وهذا ما يدفع كثيرين منهم إلى عدم الالتزام بالارشادات الموضوعة على عبوات المبيدات أو بنصائح المهندس الزراعيّ بهدف حماية الإنتاج وإطالة عمره، ما يزيد من خطورة الممارسات العشوائيّة ويفاقم من تأثيراتها السلبيّة على الصحّة العامّة والبيئة.
مخاطر على النحل
يروي الحاج عبّاس الدّرّ لـ “مناطق نت” تجربته التي تمتدّ إلى أكثر من أربعين عامًا في تربية النحل. ويحذّر من أنّ “الاستخدام المفرط والعشوائيّ للمبيدات الحشريّة، بات يُشكّل خطرًا وجوديًّا على النحل في لبنان”. يتابع الدرّ “في موسم الربيع، حين تزهر الحمضيّات وتُشكّل مصدرًا أساسيًّا لرحيق النحل، يعمد بعض أصحاب البساتين إلى رش المبيدات لمكافحة الذباب، ما يؤدّي إلى نفق أعداد كبيرة من “الجيش الرعويّ” للنحل، وهو الحلقة الأساسيّة في إنتاج العسل.
ويشير الدّر إلى “خطورة المبيدات التي تُستخدم لمكافحة حشرة “المنّ”، والتي تُخلط بمادة “اللينيت” المحظورة دوليًّا، لكنّها لا تزال تُتداول بطرق غير شرعيّة في السوق اللبنانيّة، ما يكشف هشاشة الرقابة وغياب المحاسبة”.
الزراعة فعل حياة. في كلّ حبّة فاكهة أو خضار، هناك جهد مزارع، وعرق عامل، وأمل عائلة. لكن حين تتسلّل المبيدات السامّة إلى هذه السلسلة، فإنّها لا تلوّث التربة والمياه وحسب، بل تُهدّد صحّة الإنسان وتكسر التوازن البيئيّ الهشّ. أمام هذا الواقع، يصبح الضمير الحيّ والوعي المجتمعيّ أدوات رقابيّة ذاتيّة، في غياب سياسة زراعيّة حازمة تحافظ على صحّة وجودة الحياة.