السلامة الرقميّة في لبنان وعي هشّ أمام تطوّرات متصاعدة

يبرز الأمن الرقميّ اليوم كأحد أبرز التحدّيات التي تواجه الأفراد والمؤسّسات والدول على حدّ سواء. وإذا كانت الدول المتقدّمة قد قطعت أشواطًا مهمّة في بناء منظومات حماية وتشريعات رادعة، فإنّ الواقع في لبنان لا يزال مختلفًا. فالمجتمع اللبنانيّ، على رغم انخراطه الواسع في الفضاء الرقميّ، يعاني من ضعف في الثقافة الرقميّة، فضلًا عن ثغرات قانونيّة تجعل الأفراد والمؤسّسات عرضةً لمختلف أشكال الجرائم الإلكترونيّة.
من هنا، تبرز الحاجة إلى مقاربة شاملة تضع السلامة والأمن الرقميّين في صلب النقاش العام، من خلال تفكيك التحدّيات الراهنة واستعراض دور المؤسّسات التربويّة والإعلاميّة، وصولًا إلى المخاطر التي تطال الصحافيّين أنفسهم في بيئة رقميّة هشّة.
الوعي بالسلامة الرقميّة في لبنان
دخل لبنان رحاب الشبكة العنكبوتيّة في العام 1994، وبلغ عدد مستخدمي الإنترنت في العام 2012 نحو مليونين ونصف المليون مستخدم. وبحلول العام 2020، ارتفعت النسبة إلى نحو 85 في المئة، وفقًا لدراسة صادرة عن مركز السكينة لبحوث الإنترنت في العالم العربيّ. ومع هذا الاعتماد شبه الكامل على الشبكة، في أدقّ تفاصيل الحياة اليوميّة وصولًا إلى كبريات الشركات الحكوميّة والمؤسّسات الخاصّة، تتزايد الحاجة إلى ترسيخ الوعي بالسلامة الرقميّة.
توضح الدكتورة عطاف قمرالدين، المتخصّصة في السلامة الرقميّة والأمن السيبرانيّ، في حديث إلى “مناطق نت”، أنّ نسبة الوعي بالسلامة الرقميّة في لبنان تُعدّ متقدّمة مقارنةً ببعض الدول منخفضة الموارد، لكنّها متدنيّة إذا ما قورنت بدول منظّمة التعاون الاقتصاديّ والتنمية (OECD) وبعض دول الخليج.

فجوة رقميّة
ولكن الوعي الرقميّ لدى اللبنانيّين متفاوت بشدّة، تقول قمرالدين وتتابع: “تتوافر المهارات الرقميّة لدى فئات شابّة ومتعلّمة، لكنّها محدودة جدًّا بين كبار السنّ وسكّان المناطق المهمّشة. هذا التفاوت يجعل الفئة الأولى أكثر تمكّنًا في التعامل مع الفضاء الرقميّ، فيما تبقى الفئات الأخرى أكثر عرضة للمخاطر والانتهاكات الإلكترونيّة”.
كذلك، تنتشر خدمات الإنترنت في لبنان، إلّا أنّ جودة الاتّصال المرتبطة بالتكلفة والانقطاع المتكرّر تقيّد تجربة المستخدم، وتحدّ من قدرته على الوصول إلى معايير أمان ثابتة أو متابعة حملات التوعية الإلكترونيّة.
استراتيجيّات على الورق لواقع هشّ
تبنّى لبنان الاستراتيجية الوطنيّة للأمن السيبرانيّ في العام 2019، بهدف حماية بنيته التحتيّة الرقميّة وتأمين مؤسّساته الحيويّة ضدّ الهجمات السيبرانيّة. تسعى الاستراتيجيّة إلى تطوير القدرات الوطنيّة من خلال سدّ الفجوة في مهارات الأمن السيبرانيّ، وبناء ثقافة وعي لدى الأفراد والمؤسّسات بالمخاطر الرقميّة، إضافةً إلى تعزيز القدرة على مواجهة التهديدات المتزايدة عبر تحديث القوانين والتشريعات وإنشاء كيان مركزيّ لإدارة الحوادث السيبرانيّة.
لكنّ ضعف التطبيق وقلّة الموارد يشكّلان العقبة الأساس أمام تحقيق هذه الأهداف. فغياب الالتزام بسياسات صارمة أو تفعيل حقيقي وملموس للهيئات التنفيذيّة يجعل الجهود الوطنيّة تتركّز غالبًا على الاستجابة للحوادث بعد وقوعها، بدل اعتماد نهج وقائيّ يقوم على التثقيف والوعي المستمرّ.
الصحافة في مواجهة الخطر الرقميّ
في العام 2023، أجرت مؤسّسة “مهارات” الإعلاميّة استطلاعَ رأي شمل أربعين صحافيّة، بهدف تقييم مستوى الوعي بالمخاطر الرقميّة المرتبطة بعملهنّ في لبنان. أظهرت النتائج أنّ 70 في المائة من الصحافيّات المشاركات لا يشعرن بالأمان أثناء ممارسة عملهنّ، فيما أشارت 36 منهنّ إلى أنّهنّ لا يتلقّين أيّ إرشادات أمنيّة تتعلّق بالمخاطر المرتبطة ببيئة العمل الصحافيّ.
وبحسب إحصاء أجرته منظّمة “مراسلون بلا حدود“، فإنّ نحو 30 في المائة من الانتهاكات (من أصل 140 انتهاكًا) التي سُجّلت خلال تحرّكات “17 تشرين” في العام 2019، استهدفت صحافيّات عبر الشبكة العنكبوتيّة، بشكل هجمات رقميّة وحملات تشهير وإبتزاز.
نحو 30 في المائة من الانتهاكات التي سُجّلت خلال تحرّكات “17 تشرين” في العام 2019، استهدفت صحافيّات عبر الشبكة العنكبوتيّة، بشكل هجمات رقميّة وحملات تشهير وإبتزاز
في هذا السياق، تفصّل الدكتورة عطاف قمرالدين انعكاسات المخاطر الرقميّة على مهنة الصحافة في لبنان، مشيرةً إلى أنّها تتنوّع بين انتهاك خصوصيّة المعلومات وتسريبها قبل النشر، وسوء استخدام وسائل التواصل الاجتماعي لنشر الشائعات والأخبار المفبركة، إلى جانب اختراق حسابات الصحافيّين لتسريب رسائل خاصّة أو صور تُستعمل في حملات تشويه السمعة.
وتضيف: “الهجمات تشمل أيضًا عمليّات الحرمان من الخدمة (DDoS) التي تستهدف المواقع الإخباريّة، ما يعوق وصولها إلى الجمهور ويقوّض الثقة بمصادرها”.
طرق لحماية الصحافيّين
في المقابل، ثمّة وسائل حماية رقميّة يمكن للصحافيّين اعتمادها درءًا للمخاطر المحتملة. أبرزها استخدام التشفير الكامل للهاتف والحاسوب أو أيّ جهاز آخر، والاعتماد على تطبيقات مراسلة آمنة مع تفعيل ميزة التحقّق بخطوتين لتجنّب الاختراق. كذلك يُنصح بتفعيل خدمة VPN (الشبكة الافتراضيّة الخاصّة) أثناء التواصل في أماكن مشبوهة، إذ تتيح هذه التقنيّة حماية الهويّة والموقع وتشفير الاتّصال وإرسال الملفّات بشكل آمن.
إضافة إلى ذلك، من الضروريّ تخصيص حسابات بريد إلكترونيّ ومواقع تواصل مخصّصة للعمل الصحافيّ، بحيث تكون منفصلة تمامًا عن الحسابات الشخصيّة، والحرص على الاحتفاظ بنسخ احتياطيّة مشفّرة للمواد الصحافيّة تحسّبًا لأيّ هجمات أو أعطال مفاجئة.
يبقى الدور المحوريّ في هذا المجال للتدريب والتوعية، من خلال ورش عمل متخصّصة بالأمن الرقميّ تنظّمها منظّمات مثل SMEX، إضافةً إلى أهمّيّة تبادل الخبرات بين الصحافيّين ضمن شبكات دعم مهنيّ أوسع، تعزّز مناعة الوسط الإعلاميّ في وجه التهديدات الرقميّة المتزايدة.
تشريعات موجودة لكن التطبيق؟
هل التشريعات اللبنانيّة كافية للتعامل مع الجرائم الإلكترونيّة؟ عن هذا السؤال تجيب الدكتورة عطاف قمرالدين قائلة إنّ الإطار التشريعيّ الذي يرعى أحكام الجرائم الإلكترونيّة في لبنان هو قانون المعاملات الإلكترونيّة والبيانات ذات الطابع الشخصيّ (القانون 81/2018)، الذي يتناول في بابه السادس الجرائم المتعلّقة بالأنظمة والبيانات المعلوماتيّة.
ويشمل ذلك الولوج غير المشروع إلى الأنظمة الرقميّة، والاعتداء على سلامتها أو بياناتها، وإعاقة أو تعطيل الخدمات، إضافةً إلى تقليد أو تزوير البطاقات المصرفيّة، والنقود والشيكات الإلكترونيّة، فضلًا عن التزوير الإلكترونيّ ومخالفة الموجبات المفروضة على مُصدّري الرسائل الترويجيّة أو التسويقيّة غير المستدرَجة.
وتوضح قمرالدين أنّه يمكن، إلى جانب ذلك، تطبيق النصوص الجزائيّة التقليديّة على الجرائم المرتكبة بوسائل إلكترونيّة، مثل القدح والذمّ والاحتيال والتشهير. لذلك، يمكن القول إنّ الإطار القانونيّ موجود من حيث النصّ، لكنّ الثغرات في التطبيق تحدّ من فاعليته. فآليّات التحقيق الرقميّ وأجهزة إنفاذ القانون ما زالت تفتقر إلى الموارد التقنيّة والكوادر المدرّبة، وأنّ “التقنيّة تسبق التشريع”، إذ يتطوّر نمط الجريمة الإلكترونيّة بوتيرة أسرع من قدرة القوانين على مواكبته، لا سيّما في مجالات مثل إساءة استخدام الذكاء الاصطناعيّ.
تضيف قمرالدين: “إنّ القانون 81/2018 نصّ على قواعد لحماية البيانات الشخصيّة وفرض عقوبات على انتهاكها، لكنّ هذه الحماية لا تزال غير منسجمة مع معايير اللائحة الأوروبيّة العامّة لحماية البيانات (GDPR)، ما يجعل خصوصيّة المستخدمين هشّة. لذلك، يبقى التعاون الدوليّ محدودًا، إذ لم ينضمّ لبنان حتّى اليوم إلى اتّفاقيّة بودابست لمكافحة الجرائم الإلكترونيّة، وهي الإطار التشريعيّ المرجعيّ الأوسع عالميًّا في هذا المجال”.
أبرز الجرائم الرقميّة في لبنان
تسرد الدكتورة عطاف قمرالدين أبرز ملامح الجرائم والتهديدات الرقميّة في لبنان، مستندةً إلى تقرير SOCRadar’s 2025 Lebanon Threat Landscape Report، الذي يرسم صورة مقلقة عن واقع الأمن السيبرانيّ في البلاد.
أوّلًا: القطاع العام تحت الاستهداف. فقد سجّل قطاع الإدارة العامّة نسبة 26.32 في المئة من مجموع التهديدات السيبرانيّة، ما يجعله الأكثر عرضة للهجمات في لبنان. والموقع الرسميّ لمجلس النوّاب سبق أن تعرّض للاختراق، كذلك طاولت القرصنة موقع وزارة الشؤون الاجتماعيّة في العام 2024، إلى جانب مواقع كلٍّ من المديريّة العامّة لأمن الدولة والأمن العام اللبنانيّ، وهو ما يكشف هشاشة البنية الرقميّة في المؤسّسات الرسميّة.
ثانيًا: هيمنة “الدارك ويب”. شكّلت التهديدات الموجّهة حصريًّا إلى لبنان عبر الشبكة المظلمة نحو 88.9 في المئة من مجموع التهديدات، وتركّز 74 في المئة منها على سرقة البيانات وقواعد المعلومات.
ثالثًا: هجمات الفدية (Ransomware) التي تُستخدم فيها البرمجيّات الخبيثة لاحتجاز البيانات مقابل مبالغ ماليّة.
رابعًا: سرقة بيانات الدخول. إذ جرى تسريب أكثر من 556 ألف بريد إلكترونيّ مع كلمات مرور، إضافةً إلى 8,269 سجلّ بطاقة مصرفيّة، ما يعكس حجم الاختراقات المتزايدة.
خامسًا: هجمات حجب الخدمة الموزّعة (DDoS)، حيث تعرّض لبنان إلى 468 هجومًا من هذا النوع، ما يهدّد استمراريّة الخدمات والعمليّات التشغيليّة في القطاعات الحسّاسة.
سادسًا: عمليّات الاحتيال الإلكترونيّ، ولا سيّما عبر منصّات استثماريّة مزيفة تُدار بأساليب “بونزي” (Ponzi schemes)، حيث تُغري المستخدمين بعوائد خياليّة قبل أن تنهار بشكل احتياليّ منظّم.
ماذا عن الحلول الممكنة؟
ترى الدكتورة عطاف قمرالدين أنّ على المدارس والجامعات اللبنانيّة دورًا محوريًّا في تعزيز الثقافة الرقميّة، من خلال إدماج مناهج متخصّصة بالسلامة الرقميّة تتناول موضوعات مثل حماية الخصوصيّة، مكافحة التنمّر الإلكترونيّ، السلوكيّات الآمنة وإدارة الهويّة الرقميّة.
وتتابع: “من الضروريّ تنظيم ورش تدريبيّة لتنمية التفكير النقديّ لدى الطلّاب والأساتذة، بالتعاون مع المجتمع المدنيّ والقطاع الخاص للاستفادة من خبراتهم وبرامجهم الدوليّة”.
أمّا على مستوى الأفراد، فتوصي قمرالدين بمجموعة من الإجراءات لحماية المواطن اللبنانيّ من التهديدات الرقميّة، أبرزها استخدام كلمات مرور قويّة ومختلفة مع تفعيل التحقّق بخطوتين، وضبط إعدادات الخصوصيّة في التطبيقات والمنصّات المشفّرة، إضافةً إلى التحقّق من الروابط وتجنّب المصادر المشبوهة والعروض الوهميّة، والحدّ من مشاركة المعلومات الشخصيّة، مع الحرص على تفعيل خصائص حماية الأجهزة والنسخ الاحتياطيّ المنتظم للبيانات.
ولكن في ظلّ هذا العالم الرقميّ المتسارع، هل ستكون المؤسّسات اللبنانيّة- الحكوميّة والخاصّة على حدّ سواء-قادرة على بناء جيل واعٍ ومسلّح بالمهارات الرقميّة الكفيلة بحمايته؟