السهول الزراعيّة في مرمى الحرب هل اقتربنا من أزمة غذاء؟

لم يعتقد غالبيّة اللبنانيّين أنّ الحرب التي بدأت قبل أكثر من عام على الحدود الجنوبيّة ستتصاعد وتيرتها لتشمل أجزاء الوطن كلّها، في حرب شرسة تشنّها إسرائيل على لبنان، تشبه بتفاصيلها الحرب على غزّة، لجهة القتل والدمار الكبيرين وصولًا إلى التضيّيق والحصار.

وهذا ما بدأ يتخوّف منه الناس في لبنان، أيّ أن تتمّ محاصرتهم من البرّ والبحر والجوّ، وتُفقد السلع الأساسيّة في السوق من موادّ غذائيّة وأدوية ومحروقات وكذلك الخضار والفواكه، كون منتوجها انخفض إلى ما دون النصف بفعل تحييد القصف الإسرائيليّ المتواصل سهولًا زراعيّة شاسعة كانت ترفد السوق المحلّيّة بحاجتها من الخضار والفاكهة في الجنوب والبقاع، وقد يصعب في وقت قريب استيرادها عبر الحدود اللبنانيّة– السوريّة في حال تأزّم الوضع أكثر.

حال البلاد والسهول

يُرفد السوق اللبنانيّ بالخضار والفواكه المتنوّعة، التي يتمّ زراعتها في الجنوب والبقاع والشمال، المناطق الأبرز على مستوى المحاصيل والمروج والمراعي، حيث يُزرع ما يفوق الـ 40 في المئة من الأراضي في سهل البقاع وحده، وفي منطقتي الكورة وعكّار. وفي الجنوب تتمّ زراعة المنطقة الساحليّة من صيدا إلى صور وصولًا إلى سهل الوزّاني في القطاع الشرقيّ الذي يرفد السوق المحلّيّة بحصّة وازنة من الخضار والفاكهة الموسميّة والحبوب، وكذلك في النبطيّة وجبل لبنان على رغم طبيعة الأرض الوعرة هناك. إذ تغطّي الأراضي الزراعيّة نحو 65 في المئة من لبنان، وقد ساهم طقسه المعتدل وتربته الغنيّة والموارد المائيّة في جعله مناسبًا للنشاط الزراعيّ، وزراعة مجموعة كبيرة من المحاصيل.

مزارعون يزرعون البطيخ في منطقة الناقورة قبل توسّع دائرة الحرب

يُعدّ الموز والليمون والتفاح والعنب من زراعات الفاكهة الرئيسيّة، والبطاطا والبندورة والخيار والذرة من أهم الخضروات التي تزرع في لبنان، وهذه الأنواع تستحوذ على النسبة الأكبر من الحجم الكلّيّ للإنتاج الزراعيّ. ولا يقتصر تصريف الإنتاج في السوق المحلّيّة بل يتمّ تصدير أصناف زراعيّة لبنانيّة إلى السوق العربيّة في الكويت والسعوديّة والإمارات العربيّة المتّحدة والبحرين ومصر.

مواسم مختلفة

من حيث المواسم، ينتج لبنان مزروعات مختلفة، تتنوّع أصنافها وتوقيت زراعتها بين منطقة وأخرى، وعادة ما تُميز المواسم بين جبال متوسّطة (من صفر إلى 600 متر ارتفاع عن سطح البحر) يكون فيها الإنتاج ربيعيّ ومطلع الصيف، وبين جبال عالية (من 600 إلى 2000 متر) تكون محاصيلها في أواخر الصيف، في حين يبقى هناك استثناءات لأصناف محدّدة، حسبما يقول نقيب المزارعين اللبنانيّين أنطوان الحويّك لـ”مناطق نت”.

ويعتاد لبنانيّون كثر، لا سيّما في القرى النائية، على زراعة أنواع مختلفة من الخضار كالورقيّات مثل البقدونس والنعناع والبصل الأخضر والحبق والمردكوش والبندورة والخيار والكوسا والحرّ والفليفلة، في حدائق المنازل وحتّى على شرفاتها في القرى والبلدات في شمال البلاد وفي جنوبها وشرقها، وكذلك في بعض المدن، وهذه ظاهرة نادرًا ما تتمّ ملاحظتها في المدن الكبرى والعاصمة بيروت. وما يميّز هذه الزراعات أنّها تلقى إهتمامًا كبيرًا من ربّات البيوت. وكذلك يلعب أصحاب الحيازات الصغيرة دورًا مهمًّا في تأمين الغذاء من المزروعات وإرفاد السوق المحلّيّة بأصناف مختلفة.

ينتج لبنان مزروعات مختلفة، تتنوّع أصنافها وتوقيت زراعتها بين منطقة وأخرى، وعادة ما تُميز المواسم بين جبال متوسّطة يكون فيها الإنتاج ربيعيّ ومطلع الصيف، وبين جبال عالية تكون محاصيلها في أواخر الصيف

نحن والحرب (ما بعد العدوان)

منذ الثامن من تشرين الأوّل (أكتوبر) 2023 دخل لبنان في جبهة إسناد غزة، وبدأت الحرب الحدوديّة الجنوبيّة بين “حزب الله” وإسرائيل، فتوقّفت غالبيّة النشاطات الزراعيّة في القرى الحدوديّة بسبب القصف المستمرّ على المنطقة هناك، وقد خسر لبنان أشجارًا كثيرة من الزيتون، في حين لم تتأثّر بقيّة المناطق، إلى أن بدأ العدوان الكبير في الـ 23 من أيلول (سبتمبر) وقبل هذا التاريخ بقليل، نتيجة التصعيد الملحوظ الذي حصل في تلك الفترة وأدى إلى توسّع مناطق الاستهدافات، التي أصابت العمق اللبنانيّ.

وبطبيعة الحال، للحروب وقعها الذي تفرضه على الزراعة والحصاد وأسعار المنتوجات المعروضة في السوق، وهذا ما بدأ يتلمّسه بعض الناس في مناطق مختلفة من لبنان، ولكن بشكل طفيف جدًّا، إذ يؤكّد من تواصلت معهم “مناطق نت” أنّ الأسعار تختلف بين نقطة بيع وأخرى، وبأنّ الارتفاع الحاصل في الأسعار لا يزال مقبولًا، وأنّ بعض الأصناف لا تتوافر بشكل دائم كما كانت قبل الحرب.

هذا الأمر اختبرته بشدّة النازحة أم علي من مدينة النبطية إلى بيروت ومن ثمّ إلى صيدا حيث استقرّت أخيرًا. تقول لـ”مناطق نت”: “كانت الأسعار مشابهة للأسعار في النبطية، مع فارق بسيط يصل إلى 10 و15 ألف ليرة زيادة ليس أكثر، وذلك في محال بيع الخضار الصغيرة، لكنّ الأسعار كانت مرتفعة جدًّا في الـ”سوبّرماركت” الكبيرة التي قصدتها في نطاق نزوحي في منطقة بشارة الخوري في بيروت”.

أمّا في صيدا “فإنّ الأسعار مشابهة لأسعار الخضروات والفاكهة في النبطية. أذهب في الصباح الباكر وأشتريها، والأصناف التي نحتاجها متوافرة كالمعتاد” بحسب ما تقول.

الغارات الاسرائيلية على سهل البقاع عطّلت الزراعة في العديد من المناطق
الأسعار مقبولة ولكن!

يقول المهندس الزراعيّ وعضو تجمّع مزارعي البطاطا في لبنان محمّد الرفاعي لـ”مناطق نت” إنّ “أسعار الخضار والفاكهة لا تزال مقبولة، ارتفعت قليلًا في السوق، لكن بشكل طفيف” إذ تأثّرت الأسعار بالجمود الكبير الحاصل في السوق بسبب توقّف تصريف المنتوجات إلى الخارج عبر المطار لا سيّما الى دول الخليج، ما تسبّب في انخفاض أسعار بعض السلع مثل الفطر الذي وصل سعر الكيلوغرام الواحد منه إلى دولار واحد فقط، في الجملة” ويؤكّد أنّ “الأسعار ستقفز حتمًا بعد هذه الفترة وأسعار المواد الزراعيّة”.

يُرجع الحويّك هذا التبدّل الطفيف إلى حركة السوق الخفيفة راهنًا “إلى نتيجة انخفاض استهلاك غالبيّة الناس النازحة لهذه الأنواع من الأطعمة لا سيّما في مراكز الإيواء، والتي تتلقّى مساعدات معلّبة أو مطبوخة أكثر الأحيان باستثناء بعض الحصص المقدّمة التي تشمل أنواعًا محدّدة من الخضار والفواكه”. لافتًا إلى “أنّ حركة السوق والأسعار ستكون محكومة دائمًا بقوّة العرض والطلب وما ستؤول إليه الأمور في الفترة المقبلة”.

المواد الزراعيّة أيضًا

يحكي الرفاعي، وهو صاحب شركة أسمدة وأدويّة زراعيّة أيضًا، كيف “ألغيت طلبيّات وتوقّف شحن مواد زراعيّة كنّا على وشك استيرادها بسبب المخاطر العاليّة التي يعيشها لبنان”، ويلفت إلى “الصعوبات الأخرى التي تواجه الشركات العاملة في القطاع راهنًا، لجهة عدم قدرة غالبيّتها على تخليص معاملات تحتاجها لدى وزارة الزراعة”. يُذكر أن أسعار الأسمدة الموجودة في السوق المحلّيّة بدأت أيضًا ترتفع بنسبة 20 في المئة بسبب توقف الاستيراد، بحسب الرفاعي.

في الجنوب

جعلت الحرب لكلّ منطقة خصوصيّة وواقعًا مختلفًا عمّا كانت عليه قبل ذلك، لكن كانت للجنوب الحصة الأكبر، يقول رئيس تجمّع المزارعين في الجنوب محمّد الحسينيّ لـ”مناطق نت”: “لدينا في الجنوب منطقة زراعيّة بامتياز، لكنّنا في فصل الشتاء عادة ما يكون لدينا نقص في الخضار والفواكه، نغطّيه من سوريا والأردنّ، لسبب أساس هو أنّ السوق المحلّيّة لا يمكنها تغطية طلب المستهلكين، وحكمًا كان خيار الاستيراد من الخارج”، لافتًا إلى “محاولة المزارعين في وقت سابق للحرب تعويض هذا النقص من خلال البيوت المحميّة البلاستيكيّة، ولكن لم تعتمد بسبب كلفتها المرتفعة”.

محمد الرفاعي: أسعار الخضار والفاكهة لا تزال مقبولة، ارتفعت قليلًا في السوق، لكن بشكل طفيف إذ تأثّرت الأسعار بالجمود الكبير الحاصل بسبب توقّف تصريف المنتوجات إلى الخارج

ويضيف: “كان لدى الجنوب فائض في إنتاج الحمضيّات إذ ينتج لوحده 70 في المئة من مجمل المحصول، وكذلك يستحوذ الجنوب على 80 في المئة من إنتاج الموز في لبنان”. لكنّ الحرب فرضت ظروفًا ومنعت المزارعين من الوصول إلى بساتينهم، لذا يقول الحسيني: ” كما يعلم الجميع لا يمكن الوصول إلى بساتين الحمضيّات بشكل كامل، يمكننا راهنًا الوصول الى مناطق محدّدة ليس أكثر، وهذا هو حال الفواكه الأخرى وليس فقط الحمضيّات، مثل الأفوكا وغيرها”. معتبرًا أنّ الخضار والفواكه ستتوافر في السوق اللبنانيّ عبر الاستيراد لتغطية النقص الحاصل، إذ يستبعد أن تفرض إسرائيل حصارًا كاملًا على لبنان.

هذا وطوال السنة الماضيّة، كانت خسارة الجنوب كبيرة لجهة ثروة الزيتون التي يشكّل إنتاجها في الجنوب وحده 40 في المئة من مجمل الموسم في لبنان، ولا يمكن الوصول إليها بسبب القصف الإسرائيليّ، وهنا لا بدّ من الحديث عن التلوّث العالي الذي أصاب التربة والهواء والمياه وبالتالي الأشجار والمزروعات على اختلاف أنواعها هناك بسبب إطلاق إسرائيل القذائف الفوسفوريّة السامّة.

وتشي التقديرات بخروج الجنوب عن الخدمة الزراعيّة بنسبة 90 في المئة، كون النشاطات الزراعيّة باتت شبه معدومة. وهذا ما يؤكّده الحويّك قائلًا: “إنّ الجنوب أصبح شبه مقفل لا تدخل ولا تخرج منه المنتوجات الزراعيّة”.

وعن كيفيّة استهلاك هذه الأنواع من المأكولات في منطقة الجنوب، من قبل الأهالي التي لا تزال صامدة هناك، أكان داخل مراكز الإيواء أم في منازلها، يقول الصحافيّ نبيل مملوك وهو أحد الصامدين في مدينة صور منذ بدء العدوان الإسرائيليّ لـ”مناطق نت”: إنّ “الحركة التجاريّة مشلولة في صور، وما يتمّ تأمينه من احتياجات الناس يكون عبر سائق التاكسي أو الأقارب الذين لا يزالون يتنقّلون بين العاصمة والجنوب وبعض المبادرات الفرديّة الشبابيّة الفاعلة في المكان”.

في البقاع

يشبه واقع البقاع الزراعيّ إلى حدّ ما حال الجنوب، ولكن بفارق يرتبط بطبيعة السهول الشاسعة ورقعة الاشتباكات والنزوح. يقول الحويّك: “إنّ الأماكن الزراعيّة التي لا يتمّ استهدافها كثيرة، إذ تزرع الخضار والفواكه في سهول البقاع الممتدّة من أبلح ورياق حتّى الحدود شمالًا”.

نتيجة الغارات الاسرائيلية المتواصلة على سهل البقاع نزح عدد كبير من العمال السوريون نحو مناطق أكثر أمنًا

لكنّ ثمّة مشكلة من نوع آخر طرأت أخيرًا في البقاع بسبب نزوح عدد كبير من العاملين في القطاع إلى العاصمة بيروت والشمال اللبنانيّ في ظلّ القصف المستمرّ وخوف بعضهم من الذهاب إلى أماكن العمل، ما اضطرّ العائلات من أصحاب المصالح إلى القيام ببعض الأمور الزراعيّة. علمًا أنّ الموسم بات في آخره، وهو في مرحلة جني المحاصيل والقطاف وتحميلها قبل إرسالها إلى بيروت.

في الشمال

في الكورة وعكّار حيث نزح عددًا كبيرًا من الناس، يتمّ الآن التحضير للموسم الجديد، سيكون الاعتماد عليه في الفترة المقبلة، لكنّه لا يكفي وحده، وفق من يتّفق عليه جميع من تواصلت معهم “مناطق نت”، هو يعاني راهنًا كما حال أيّ منطقة زراعيّة في لبنان من ارتفاع أسعار السلع والمواد التي تشكّل ركيزة الزراعة، بحسب الرفاعي، مثال على ذلك “فإنّ سعر طنّ بذور البطاطا الذي تضاعف من 800 دولار إلأى 1400 دولار تقريبًا، هذا وستضاف إليه كلف زراعته.

ويعتبر الحويّك أن “المرحلة الراهنة مقبولة لجهة تأمين حاجات الناس في غالبيّة المناطق، ومن يرد شراء حاجته متوافرة في السوق ولو بأسعار مرتفعة أكثر من قبل لا سيّما أنّ الموز والحمضيّات التي يتمّ زرعها على طول ضفاف الليطانيّ باتت شبه مفقودة في السوق بسبب عدم القدرة على قطافها، لكنّ الخوف سيكون في حال تمّ قطع الطرقات فيما لو استمرت الحرب، وبالتالي سيصعب التوصيل بين المناطق”.

علمًا أنّ المنتوجات الزراعيّة السوريّة تدخل راهنًا إلى لبنان وفق ما تنصّ عليه الاتفاقيّات بين البلدين ومن دون أيّ رسوم جمركيّة.

خطة طارئة؟

برأي الحويّك، “كان يفترض أن يعمل المعنيّون على وضع خطّة طارئة تجنّب البلاد انقطاع أنواع معيّنة من الغذاء لا سيّما لجهة إيجاد مستودعات خاصّة في كلّ منطقة أو على مستوى الأقضيّة، يتمّ تخزين احتياجات المنطقة فيها من البطاطا والحمضيّات وكلّ ما يمكن تخزينه، تحسّبًا لأيّ انقطاع في الطرقات، وهذا ما يتوقّعه كثر ما دامت كلّ التطورات تشّي بأنّ الحرب طويلة في لبنان وبأنّ حال الناس هيو من سيّء إلى أسوأ”. يُذكر أنّ هناك كمّيّة كبيرة من البطاطا المخزّنة في البقاع والتي تكفي حتّى شهر أيّار (مايو) المقبل تقريبًا، لكنّ الخوف من ألّا تكون متوافرة لجميع المستهلكين.

وفي هذا السياق، يناشد الرفاعي، “رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي والدولة اللبنانيّة، أن تفعل ما بوسعها لتحييد مرفأي طرابلس وبيروت ومعبري الدبّوسيّة والعريضة عن الحرب الدائرة في لبنان، وكذلك مطار بيروت الدوليّ، لضمان عدم حدوث كارثة إنسانيّة في حال قرّرت إسرائيل فرض الحصار الجويّ والبحريّ على كامل لبنان، خصوصًا مع وجود أعداد النزوح الكبيرة، ليس فقط اللبنانيّة وإنّما أيضًا السوريّة والفلسطينيّة”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى