السياحة في مرمى التصعيد والمغتربون يغادرون لبنان باكرًا
طغت التطوّرات العسكريّة منذ حادثة مجدل شمس (السبت في 27 تموز) وما تلاها من اعتداء إسرائيليّ على الضاحية الجنوبيّة لبيروت على كامل المشهد اللبنانيّ ودفعت المغتربين إلى حسم أمرهم، سواء بتقديم مواعيد المغادرة أمّ بتأجيل الحضور إلى لبنان. وعلى رغم الأجواء المشحونة التي تُسيطر على الوضع العام في البلاد منذ الثامن من تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، إلّا أنّ عددًا كبيرًا من المغتربين قرّر الحضور إلى لبنان للقاء الأهل وقضاء الموسم الصيفيّ، بيد أن ارتفاع التصعيد الأمني إلى أقصى درجاته، دفع هؤلاء إلى اتّخاذ قرار مغادرة البلاد في أقرب فرصة.
وفي الوقت الذي يكاد لا يخلو بيت جنوبيّ من اغتراب أحد أبنائه في أفريقيا وغيرها من دول العالم، يمكن القول إنّه من الصعب أن يمرّ موسم صيف من دون زيارة هذا المغترب مسقط رأسه، بعدما قام معظمهم بتشييد منازل لهم في قراهم. هكذا هو المشهد منذ عشرات السنين في الجنوب، يقوم المغترب بشكل عام، بإرسال أسرته إلى لبنان في أواخر شهر حزيران (يونيو)، أيّ مع نهاية العام الدراسيّ، على أن يلتحق بها ليعودوا معًا في نهاية موسم الصيف.
صيف مغاير
غير أنّ المشهد هذا العام يبدو مغايرًا عن السنوات الماضية في ظلّ استمرار الحرب الإسرائيليّة على لبنان، ولا سيّما الاعتداء الأخير على الضاحية الجنوبيّة. وتغيب الأرقام الرسميّة حول عدد المغتربين الجنوبيّين ممّن قرّروا زيارة لبنان هذا العام. وإنّ إيجاد إحصاء لعددهم قد يكون مهمّة مستحيلة في ظلّ إيثار بعضهم السكن في بيروت أو المناطق الجبليّة بعيدًا من الأوضاع الأمنيّة السائدة جنوبًا، فيما فضّل البعض الآخر التريّث في المجيء إلى لبنان إلى منتصف آب المقبل.
تراجع الحجوزات والزيارات
انعكست التطورات العسكريّة على الحركة السياحيّة والاغترابيّة بشكل كبير وحاسم، وهذا ما ظهر جليًّا من خلال إقبالهم الكثيف على تقديم موعد المغادرة، وتراجع الطلب على حجوزات الطيران الجديدة، وفقًا لنقيب أصحاب مكاتب السياحة والسفر جان عبّود، إذ أكّد في حديث صحافيّ أنه “منذ أكثر من أسبوع كان يصل إلى لبنان في حدود 14 ألف راكب يوميًّا، ليبلغ عدد الطائرات بين 85 و87 يوميًّا. أمّا أمس فتراجع عدد الوافدين إلى 9500 وافد، وعدد الطائرات إلى 75 طائرة”، وتوقع عبود أن تزداد وتيرة التراجع لتصل إلى “ثمانية آلاف راكب كحدّ أقصى يوميًّا”.
وفي الإطار عينه، يشير مختار “حيّ البياض” في النبطية، محمد بيطار، في حديث لـ”مناطق نت” إلى أنّ “معظم الأهل نصحوا أبناءهم بعدم الحضور حاليًّا إلى لبنان بانتظار التطوّرات التي يمكن أن تحصل”. ويلفت كذلك إلى أنّه “على رغم ذلك، فهناك قسم كبير من المغتربين حضروا إلى النبطية والبلدات المجاورة”، موضحًا أنّ “الذي تبدّل هذا العام هو مدّة الإقامة التي قرّر المغترب قضاءها في لبنان، ففي السابق كانت تراوح بين شهر ونصف الشهر وصولًا إلى شهرين، أمّا هذا العام فقد اقتصرت الفرصة على 15 إلى 20 يومًا”.
وقال: “إنّ كثيرًا من هؤلاء قرّروا تقديم موعد مغادرتهم جرّاء تصاعد الاعتداءات الإسرائيليّة التي وصلت إلى حدّ استهداف الضاحية الجنوبيّة”.
المغتربون ودعم الاقتصاد
وفي السياق، لم ينعكس الحضور الاغترابيّ الجنوبيّ على تنامي الحركة الاقتصاديّة مثلما يحصل عادة، وفقًا لبيطار الذي يؤكّد أن “المغترب كما جميع اللبنانيين يشعرون بعدم الاطمئنان من الأوضاع الجارية ويفضل أن يحافظ على أمواله خوفًا من تطوّر الأحداث”. كذلك يوضح أنّ هناك “غيابًا تامًّا لأيّ سياحة داخليّة، فانتشار أدنى خبر عن اعتداء إسرائيليّ أو حتّى سماع دويّ جدار صوت تنفّذه الطائرات الحربيّة الإسرائيليّة من شأنه إخافة الجنوبيّين واللبنانيّين من الحضور إلى الجنوب”.
انعكست التطورات العسكريّة على الحركة السياحيّة والاغترابيّة بشكل كبير وحاسم، وهذا ما ظهر جليًّا من خلال إقبالهم الكثيف على تقديم موعد المغادرة، وتراجع الطلب على حجوزات الطيران الجديدة
من جانبه، يرى صاحب مؤسّسة تجاريّة كبيرة في النبطية صادق إسماعيل، في حديث لـ”مناطق نت” أنّه “منذ شهر أيّار (مايو) بدأ المغتربون بالقدوم إلى البلاد، وهؤلاء عادةً ما يرصدون مبلغًا معيّنًا لصرفه في البلاد بغضّ النظر عن الوضع الاقتصاديّ أو الأمنيّ الحاليّ”. ويشير إلى أنّ التجارب بيّنت “أنّ المغتربين الجنوبيّين يأتون في مختلف الظروف”، مستذكرًا بعض المغتربين “الذين صمّموا على التواجد في لبنان خلال حرب تمّوز 2006”. ويؤكّد: “أنّ ما نراه في كلّ عام من المغتربين ما زلنا نراه هذا العام أيضًا”.
وعن تأثير المغتربين على الحركة التجاريّة هذا العام، يوضح إسماعيل وهو عضو مجلس بلديّة النبطية “أنّه في الأسابيع والأشهر الأولى للحرب كان أيّ تطوّر عسكريّ أو اختراق جدار الصوت يتبعه تراجع في الحركة التجاريّة عدّة أيّام، إلّا أنّ الناس تأقلمت مع الوضع”. ويلحّ على أنّه في ظلّ الوضع الأمنيّ الحالي يمكن توصيف الحركة التجاريّة بـ”الجيّدة”.
ثمّة عامل آخر دخل على خطّ الحركة التجاريّة، ساهم في تعويض تراجع حضور المغتربين، هو النزوح من القرى الحدوديّة إلى النبطية وجوارها، ممّا أدّى إلى زيادة عدد السكّان ممّن ساهموا بدورهم في تعزيز الحركة التجاريّة. وهذا ما يؤكّده بيطار ويلفت إلى “وجود زيادة سكّانيّة هائلة في منطقة النبطية جرّاء النزوح”، مشيرًا إلى أنّ “أوضح مثال على ذلك هو محلّة كفرجوز التي كانت منطقة هادئة جدًّا وتخلو من المواطنين ليلًا، إلّا أنّها باتت اليوم تعجّ بالنازحين ممّن افتتحوا مصالح ومحالًا تجاريّة فيها”.
بانتظار سياحة المغتربين
أمّا على صعيد القطاع السياحيّ، فيبدو أنّه أكثر تضرّر بتضاؤل عدد المغتربين القادمين هذا العام. وبدوره، يُشير مدير منتجع سياحيّ وفندق ومطعم في بلدة العبّاسيّة الجنوبيّة، علي برجي، إلى أنّ “الوضع السياحيّ شبه ميّت في المنطقة بأسرها، ووصلت نسبة التراجع عن السنة الماضية إلى حدّ الـ80 في المئة”.
ويوضح برجي في حديثه لـ”مناطق نت” أنّ “هذا النوع من المشاريع يتركّز بشكل أساس على السياحة الداخليّة ووجود المغتربين، فجميع زبائننا يأتون من بيروت والمتن وجبيل وكسروان والشمال وبقيّة المناطق اللبنانية، وهذا ما يظهر انخفاضًا كبيرًا في نسبة الزبائن”. ويتابع: “على صعيد المغتربين، جزء كبير منهم قرّر الاستقرار في العاصمة بيروت أو مناطق أخرى، وجزء آخر قرّر التريث في الحضور إلى لبنان، لذا أعتقد أنّ شهر آب (أغسطس) الجاري سيكون أفصل من شهر تموز الماضي في حال عدم حصول مستجدّات أمنيّة”.
ويقول برجي: “إنّ النزوح من القرى الأماميّة لم ينعكس إيجابًا على الحركة السياحيّة إذ إنّ هؤلاء المواطنين كما سائر الجنوبيّين، يفضّلون الاحتفاظ بأموالهم خشية تطور الحرب”، مؤكّدًا أنّ “مناطق الجنوب تُعتبر من أكثر مناطق لبنان غلاءً سياحيًّا”. ويلفت إلى أنّه من الطبيعيّ تسجيل خسائر مادّيّة سياحيّة في ظلّ الوضع الحالي “خصوصًا أنّنا نعتمد على موسم الصيف”.
سيعودون حتمًا
لا يبتعد حديث برجي عن رأي الناشط السياحيّ وصاحب الصفحة السياحيّة “الرسميّة” لمدينة صور على مواقع التواصل الاجتماعيّ، هشام نجدي، إذ يجزم في لقائه مع “مناطق نت” أن “أعداد المغتربين تراجعت كثيرًا عن السنوات الماضية على رغم سعينا الدائم إلى طمأنتهم بأنّ صور ما زالت منطقة آمنة، وذلك من خلال نشر صور وفيديوات تُروّج للسياحة في الجنوب عمومًا وصور خصوصًا”.
ويقارن نجدي بروّاد شاطئ صور بين السنوات السابقة وحاليًّا، فيقول: “عادةً كان يعجّ شاطئ صور الرمليّ بأعداد كبيرة من المغتربين الذين يتوافدون إلى الخيم البحريّة على مدار الأسبوع، أمّا اليوم فتكاد هذه الخيم تخلو من المواطنين”. ويختم: “إنّ التحدي الكبير سيكون بعد انتهاء الحرب الإسرائيليّة من خلال وضع خطّة مدروسة لجذب المغتربين والسائحين مرّة أخرى إلى الجنوب وتكريسها في وعيهم كمنطقة آمنة”.