السّيّد محسن الأمين.. إصلاحيٌّ من جبل عامل
تقتضي مقاربة مشروع السيّد محسن الأمين الإصلاحي، نزيل دمشق، أن نأخذ في الحسبان مسألتان: تحديّات الحداثة الأوروبية وصدام الشرق معها من جهة، وبحثه عن نمط حداثوي إسلامي، ودعوات الإصلاح ولا سيّما التجديد الديني الذي اجتاح العالمين العربي والإسلامي في بداية القرن العشرين من جهة أخرى، فوجدت صداها الطيّب لدى السيّد محسن الأمين إبن جبل عامل.
الولادة والأصل
يتصل نسب عالم الدين الشهير محسن عبد الكريم الأمين، بالرسول العربي الكريم عن طريق أهل بيته، فهو سليل “الحسين ذي الدمعة ابن زيد الشهيد إبن الإمام زين العابدين إبن الإمام الحسين الشهيد إبن الإمام علي بن أبي طالب عليهم السلام”. ولد في بلدة شقراء (شقرا) الجنوبية في العام 1876، التي نزلها أجداده في العام 1098، ولم يكن فيها علماء من قبل.
ويُرجح السيّد أن يكون أسلافه قد انتقلوا من منطقة الحلة العراقية الى جبل عامل، والقصة تبدأ، كما هي واردة في الجزء الأربعون من موسوعة أعيان الشيعة (بحسب الطبعة الأولى المنشورة في العام 1957، في مجلة العرفان) بقلم السيّد، بقدوم أحد الأجداد الى جبل عامل بطلب من أهله ليكون مرجعاً دينياً ومرشداً، وكانت العشيرة تعرف قبل ذلك بقشاقش أو قشاقيش، ثم عرفت باسم آل الأمين نسبة الى السيّد محمد الأمين، ابن السيّد أبي الحسن موسى، ووالد جد السيّد محسن المدعو السيّد علي الأمين، فصار يقال لذريته آل الأمين.
وانتشرت فروع العائلة في بلاد الشام والعراق، و”وجد العدد الكثير من ذريّة رجل واحد قدم الى جبل عامل”، بحسب ما كتب في “خطط جبل عامل” وهذا الأخير يعد بمثابة تأريخ للمنطقة، حيث عمد السيّد إلى ذكر الوقائع المتعلقة به، وما تعاقب على الجبل من الدول والإمارات، ومن نبغ فيه من علماء وشعراء وأدباء وأمراء وما وقع فيه من حوادث.
كانت العشيرة تعرف قبل ذلك بقشاقش أو قشاقيش، ثم عرفت باسم آل الأمين نسبة الى السيّد محمد الأمين، ابن السيّد أبي الحسن موسى، ووالد جد السيّد محسن المدعو السيّد علي الأمين، فصار يقال لذريته آل الأمين
طلب العلم
وكما سائر عائلته من آل الأمين وهم بيوت علم، انصرف الفتى محسن إلى دراسة القرآن وعلوم النحو والصرف في بلدته أولاً، ثم في بلدة عيتا الزّط (تدعى عيتا الجبل اليوم) وكان فيها السيّد جواد مرتضى (1923 – 1850)، ودرس في مجدل سلم علم البيان والمنطق، وحضر في بنت جبيل مجالس الشيخ موسى شرارة (1886 – 1851)، الساعي للإصلاح التعليمي والديني، بدءاً من إصلاح مجالس العزاء. وقد تأثر به كثيراً وعدّه معلماُ له، وقرأ على السيّد نجيب فضل الله الحسنيّ (توفي في العام 1917). وتابع طلب العلم، فسافر الى النجف الأشرف في العام 1891 من طريق بحر بيروت إلى الإسكندرونة ومنها إلى حلب براً وصولاً الى العراق والنجف غاية السفر، وفيها كما يقول”نعيش عيش الأغنياء وننفق نفقة الفقراء”، ودامت حاله هناك عشر سنوات ونصف، غادر بعدها متجهاً الى الشام.
رحلة الإصلاح
وصل السيّد دمشق في العام 1901، وأقام في حي الخراب الذي تحول اسمه لاحقاُ الى حيّ الأمين. ومنذ أيامه الأولى ساءه حال المجتمع الأهلي وانتشار الأمية والجهل، ولا سيّما بين الأولاد والبنات، والانقسام بين الناس والتحزب، ومن ثم مجالس العزاء وما يُتلى فيها من أحاديث غير صحيحة، وما يجري من أعمال مستنكرة-في رأيه-مثل ضرب الرؤوس بالسيوف وبعض الأفعال المسيئة، فعزم السيّد على توجيه عنايته لإصلاح هذه الأمور.
من الحيّ حيث يسكن، بدأت رحلة “الإصلاح” الشاقة، باستئجار دار وتحويلها الى مدرسة للبنين أولاً، أسماها “المدرسة العلويّة”، أدخل اليها العلوم الحديثة، واستأجر داراً أخرى خصصها لتعليم البنات، وحين ضاقت بطالباتها، تم شراء دار خاصة لها بتبرع من الحاج يوسف بيضون (1927 – 1840)، المقيم في الحي قبل أن ينتقل الى بيروت، والد رشيد بيضون (1971 – 1889)، مؤسس الكلية العاملية. واعترافاً بفضله سُمّيت “المدرسة اليوسفية” (1920). ومن ثم نجح بمساهمة وعضد أهل الخير في شراء وإنشاء مدرسة نظامية ناجحة هي “المحسنيّة”.
وفي شأن الإنقسامات، لم يجد السيّد حلاً سحرياً ولا دواءً شافياً لعلاج الشقاق والنزاعات غير دعوته الى تحقيق “المساواة بين الناس، وعدم التحيّز لفريق دون آخر”، جاهداً في وحدة صفوف المسلمين.
أمّا معركة السيّد الكبرى كانت في إصلاح مجالس العزاء في عاشوراء، بعد سماعه لكثير من الأخبار المكذوبة والأغلاط الشائنة، ولا سيّما في “بحار الأنوار” للمجلسي (1700 – 1627). فأكثر القراء في زمنه كانوا من دون علم ومعرفة “ومن كان ذا معرفة، يتحرى الصواب”، بعبارات السيّد. فانصبّ جهده في تنزيه هذه الذكرى، فكتب الكثير لهذا الغرض، منها “المجالس السنيّة في مناقب ومصائب النبي والعترة النبوية” (1924)، في أجزاء خمسة، لتدريب القراء على التزود بصحيح الأخبار.
ومن جهة الخلل في إقامة العزاء مثل جرح الرؤوس بالسكاكين والسيوف وغيرها من الأفعال، رأى السيّد إن هذا مُحرّم بنص الشرع وحكم العقل، وخصوصاً إيذاء النفس. وكتب أيضاً رسالة “التنزيه في أعمال الشبيه” (1928)، التي تُرجمت إلى اللغة الفارسية، وهاجمها البعض بعنف، وأبرز المعارضين لها كان الشيخ عبد الحسين صادق العاملي (1942 – 1862) من كبار أئمة مدينة النبطية، وبحجتها تم التشنيع على السيّد. ومنهم من أيدها واستحسنها ودافع عن كاتبها، حتى في راهن الأيام، مثل الشيخ محمّـد الحسّـون، الذي قال عنها: “وما هذه الرّسالة “التنزيه” إلاّ واحدة من تلك الصيحات المخلصة التي تعالت مطالبةً بتنزيه الشعائر الحسينيّة ممّا لحقها من شوائب أخرجتها عن مسيرها الصحيح، أطلقها أحد علماء أتباع أهل البيت (عليهم السلام) هو السيّد محسن الأمين العاملي “.
ومن جهة الخلل في إقامة العزاء مثل جرح الرؤوس بالسكاكين والسيوف وغيرها من الأفعال، رأى السيّد إن هذا مُحرّم بنص الشرع وحكم العقل، وخصوصاً إيذاء النفس.
وفي عرف الشيخ، أنّ بعض محبّي أهل البيت: “أدخلوا في هذه الشعائر ما يشينها ويبعدها عن روح الإسلام المحمّدي الأصيل، وهم يتصوّرون ـ في أعمالهم هذه ـ بأنّهم يخدمون الإمام الحسين (عليه السلام) الذي استرخص دمه ودم أهل بيته وأصحابه من أجل أهداف ساميّة”.
يُعدد د. عبد المجيد زراقط في مؤلفه “محسن الأمين، العالم المجتهد وحركته الإصلاحية” (2012) المسائل التي أدخلت على الشعائر، وفاقاً لرسالة التنزيه، وهي: الكذب بذكر الأمور المكذوبة، المعلوم كذبها، وإيذاء النفس وإدخال الضرّر عليها، واستعمال آلات اللهو كالطبل والزمر والصنّوح النحاسية وغير ذلك. وتشبُه الرجال بالنساء في وقت التمثيل وإركاب النساء في الهوادج مكشوفات الوجوه وتشبيههن ببنات الرسول، وصياح النساء بمسمع من الرجال الأجانب، والزعيق بالأصوات المُنكرة القبيحة. ومن مآخذ السيّد على مجالس ذاك الزمان أن الأحاديث فيها كانت تتلى ملحونة في حين يجب أن يكون السرد بلغة عربية سليمة، كما سعى السيّد في الوقت نفسه لمحاربة الخرافات والشعوذة.
والحال، مقصد السيّد محسن المتوفي في العام 1952 في عمله الإصلاحي بشقيّه التربوي والديني كان، بعبارات د. زراقط، السعي :”لبناء الإنسان والمجتمع الصالحين، وقد مثّل هو القدوة، وعمل على أن يبني هذا الإنسان”.