“الشتوة الأولى” تداهم النازحين وتحرك سوق الملابس في طرابلس
يبدو أنّ شتاء هذه السنة مثقل بالهموم والخوف من المستقبل، فمع أول شتوة أمطرتها السماء، ثارت ثائرة القاطنين في مراكز الإيواء غير المهيأة لاستضافة المواطنين الهاربين من الموت والعدوان الإسرائيليّ. إذ تفتقر المدارس إلى التدفئة، فيما لم تفسح الحرب الداهمة المجال أمام النازحين لحمل ما يقيهم “قرصة” البرد والأمطار، واضطر هؤلاء إلى تأمين قسط من الدفء بما تيسّر لهم داخل أماكن الاستضافة، أو شراء ملابس سميكة “كلّ بحسب قدرته”.
في الشمال كما سائر المناطق، تحاول الجمعيّات والمجتمع المحلّيّ تأمين ما تستطيع لمساعدة الناس، ويقوم هؤلاء بالتعاون مع الجهات الحكوميّة والمنظّمات الدوليّة والجهات المانحة بتأمين ما أمكن من الإعانات التي تخفّف وطأة المعاناة.
خرجنا على عجل
تختصر قصّة “انتخاب” ابنة البرغليّة وعائلتها، معاناة أبناء الجنوب النازحين نحو أماكن أكثر أمانًا، تروي كيف خرجت هي واثنين من أبنائها من ذوي الإعاقة على عجل، فالهجمات الاسرائيليّة والإنذارات كانت مباغتة لهم، ولم تمنحهم ترف جمع أغراضهم الضروريّة، فحال عائلتها وضع على عاتقها مسؤوليّات إضافيّة، إذ كانت مضطرّة إلى حمل ما أمكن من أغراض خاصّة، وفي الوقت نفسه تأمين الحماية لها.
تلفت انتخاب إلى أنّها لم تتمكّن من حمل غير القليل من أغراض لا تتناسب مع الطقس البارد. فيما تعبّر ابنتها هلا عن حزنها بسبب ترك مقتنيات تعني لها كثيرًا في المنزل القديم، فتقول لـ “مناطق نت”: “كان لديّ كثير من الأشياء الجميلة لم أتمكّن من إحضارها بسبب إغارة الطائرة علينا”. وتثني الوالدة انتخاب لـ “مناطق نت” على “المعاملة الجيّدة التي حظيت بها من الشبّان والشابّات المتطوّعين في مركز الإيواء ضمن بلدة بخعون الضنّيّة”. تتابع: “قام هؤلاء بتأمين بعض الأغراض والملابس والأغطية من أجل مواجهة برد الشتاء”، فيما تشعر ابنتها بالسعادة بسبب البيجاما الجديدة التي حصلت عليها كهديّة.
تكثر القصص التي يرويها الناجون من الاعتداءات الاسرائيليّة، وتشترك بالإشارة إلى حال الرعب التي نجمت من الغارات العنيفة التي طالت مناطق آمنة، وعدم وجود وقت كافٍ لحمل الأغراض الأساسيّة، حتّى أن بعضهم خسر حقائبه بسبب مراحل النزوح المتكرّرة.
اضطرّ البعض إلى الخروج من منازلهم بداية إلى المدن الكبرى في الجنوب كالنبطيّة وصيدا وصور، قبل الانتقال نحو خلدة أو بيروت، وصولًا إلى ملاذ آمن في شمال لبنان. يلفت الشاب رأفت لـ “مناطق نت” أنّه: “مع اشتداد القصف، خرجت عائلتي بالملابس الصيفيّة، ولم ندرك حقيقة الأمور إلّا بعد أن ابتعدنا نحو بيروت”. ويضيف: “قضينا ليلتنا في السيّارة، وكان الظنّ أنّنا سنعود ربّما في اليوم التالي بعد انتهاء سلسلة الغارات، ولكن اتضح أنّ الحرب اشتعلت وحركة النزوح غير مسبوقة”.
في الشمال كما سائر المناطق، تحاول الجمعيّات والمجتمع المحلّيّ تأمين ما تستطيع لمساعدة الناس، ويقوم هؤلاء بالتعاون مع الجهات الحكوميّة والمنظّمات الدوليّة والجهات المانحة بتأمين ما أمكن من الإعانات
يقيم رأفت حاليًّا في طرابلس مع مجموعة من الشبّان الذين غادروا منطقة الحوش في صور، ويشترك هؤلاء في الحياة اليوميّة، وأحيانًا يتبادلون بعض الأغراض والملابس.
سوق الملابس الجاهزة
في أسواق طرابلس القديمة حركة تجاريّة ملحوظة، حيث يقوم النازحون بشراء بعض الملابس والبيجامات الشتويّة. ويشهد السوق الممتدّ من منطقة التلّ، باتّجاه السوق العريض، صعودًا نحو سوق البازركان، والتربيعة، إلى بركة الملاحة اكتظاظًا في الشوارع. وتشترك هذه الأسواق في الملابس رخيصة الثمن، أو التي يمكن وصفها بأنّها في متناول الجميع، إذ تتراوح الكنزة بين الخمسة والـ10 دولارات، أمّا البيجاما فتبدأ بسبعة دولارات وتصل إلى 12 دولارًا أميركيًّا بحسب ما أفادنا سلمان، أحد أصحاب المحلات لـ “مناطق نت”.
داخل السوق نلتقي بعديد من العائلات، من ضمنهم السيّد علي الذي قصد أحد محلّات الملابس الجاهزة، ويلفت إلى أنّه نزح بداية من أرنون (النبطية) نحو الليلكي في ضاحية بيروت الجنوبية، ولكنّه اتجه لاحقًا إلى سوريّا، مضيفًا لـ “مناطق نت”: “وجدنا هناك أنّ أسعار السلع مرتفعة للغاية، وكثير منها وهو أساسيّ مفقود، لذلك عدت إلى طرابلس من أجل تأمين بعض الأغراض للعائلة”. ويشير علي إلى أنّه سيشتري بيجامات شتويّة لزوجته، كما سيقصد “البالة” عند جسر “أبو علي” لشراء أحذية أوروبّيّة شتويّة قبل عودته إلى طرطوس.
من جهتها، تتحدّث إحدى الأمّهات عن شراء البيجامات، وبعض الحرامات الخفيفة كي تواجه “قرصة” البرد مساءً. وتلفت لـ “مناطق نت” إلى أنّ “رحلة السوق الشعبيّة جيدة لإراحة الأعصاب، والتعرّف على الناس، والأسواق الغنيّة بالتراث، وكذلك من أجل شراء ملابس بأسعار مقبولة نسبيًّا”. تتابع: “إنّ أسعار هذه الأسواق ليست مرتفعة، وهي تشبه بعض الأسواق الشعبيّة في بيروت والضاحيّة، وتتوفر داخل السوق وفي مكان واحد جميع السلع التي تحتاجها العائلة في يومها”.
حركة نسبيّة
انعكس النزوح الكثيف نحو طرابلس ومناطق الشمال حركة سير واكتظاظ بالطرق، ويشبّه بعض أبناء المدينة الأجواء بما هو الحال عليه في شهر رمضان ومواسم الأعياد. يقرّ أصحاب المتاجر بوجود حركة ملحوظة في الأسواق.
ويشير صفوان إلى “أنّ الاكتظاظ يعود إلى أسباب عدّة، منها بدء العام الدراسيّ، وبالتأكيد يعود الجزء الأكبر منها إلى الأخوة القادمين من الجنوب والبقاع والضاحية، ولا ننسى أيضًا السوريّين”. ويؤكّد صفوان لـ “مناطق نت” أنّ “الإقبال يتركّز على بعض الملابس والمعاطف الشتويّة، والمعاطف (الروبات) المنزليّة”. ويجزم أنّ “الأسعار ما زالت كالمعتاد، ولكنّ استمرار الضغط على ما هو عليه، ربّما يسبب لاحقًا في ارتفاع الأسعار، لأنّ البضائع الموجودة في المستودعات ستنفد، وكلفة النقل سترتفع بفعل الأوضاع الأمنيّة”.
تجارة “الضروري”
يطالب التجّار عدم الاستعجال في إصدار الأحكام، بأنّه هناك تعافٍ اقتصاديّ. يؤكد عزمي صاحب محلّ ملابس شتويّة لـ “مناطق نت” أن “هناك أعدادًا كبيرة من المتسوّقين، ولكنّ السلوك الشرائيّ يقتصر حاليًّا على الضروريّ فقط، حيث يقوم الأهل بشراء قطعة واحدة لكلّ طفل، لذلك لا يمكن القول بأنّ الوضع الاقتصاديّ بخير”.
يتابع عزمي: “عندما نريد الحديث عن تعافٍ اقتصاديّ، فلا بدّ أن تكون الحركة شاملة، وتشمل السكّان والمقيمين”. ويوضح “في العادة كنّا نأتي بالأغراض من معامل ومستودعات موجودة في الضاحية الجنوبيّة لبيروت أو محيطها، ولكن بدأنا حاليًّا نشعر بارتفاع أسعارها، إذ بات تاجر الجملة يطالب بأسعار أعلى من تجّار المفرّق بحجّة نقص المواد”. لكن “في مطلق الأحوال ما زالت رخيصة مقارنة مع المتاجر الكبرى والمحال في بيروت”.
مساعدات عينيّة
تفتقر مراكز الإيواء إلى معدّات التدفئة، والمرافق الخاصّة بكلّ غرفة وعائلة. ويعتمد الناجون على الهبات والمساعدات العينيّة المقدّمة من أصدقاء لبنان، وتحديدًا المملكة العربيّة السعوديّة، والإمارات العربيّة المتّحدة وقطر والأردن وتركيّا. وتوزّع من خلال بعض الجمعيّات التي يأتي في طليعتها “كاريتاس” والصليب الأحمر اللبنانيّ.
يلفت الناشط ساري شاكر منسّق أحد مراكز الإيواء في بخعون لـ “مناطق نت” إلى أنّه “تمّ تأمين 240 حرامًا إضافيًّا وزعت على عدد الأشخاص المقيمين، كما قدّمت حصر وسجّادات رقيقة لوضعها تحت الفرش من أجل تخفيف وطأة البرد بالتعاون مع الهيئة العليا للإغاثة”. وكشف شاكر عن تقديم بعض الجمعيّات ملابس شتويّة للأطفال الصغار، والأشخاص الكبار، وقام أحد المتموّلين بالتبرّع بسترات خاصّة. من جهتها أمّنت “منظّمة أطبّاء بلا حدود” مزيدًا من المخدّات والحرامات والفرش الشتويّة، فيما دعم الصليب الأحمر مراكز الإيواء بمزيد من الحرامات”.