“الشقّة” لفراس حميّة عمّا لا تقوله الأمكنة

لا تتوانى تلك القصص التي يبثّها فراس حميّة في مجموعته القصصيّة “الشقّة” (منشورات دار النهضة العربيّة – بيروت) عن البوح بكلّ شيء، كلّ شيء من دون حدّ أدنى من التحفّظات. فقصص “الشقّة” هي سرد للسعي الممضّ إلى المكانة، للإخفاق في العلاقات الجنسيّة، لتعرّض طفل للتحرّش الجنسيّ من قبل شيخ جليل، لهيمنة قوى حزبيّة على شؤون الأرض والسماء، للغوص في عوالم الحشيشة والماريغوانا وصولًا إلى سرديّات أخرى حيث تلك الرغبة المتوثّبة للفرار من ذلك الحيّز الجغرافيّ/ النفسيّ الذي أسّس لذلك السرد.

الغوص في متاهات تلك القصص يتيح للمتلقّي أن يموضع عنوان المجموعة المنطبع على غلاف الكتاب لتكون “الشقّة”، شقّة فراس حميّة هي المكان، هي كلّ ذلك المكان المتشعّب الطرقات والأرصفة والأحياء، والذي غذّى السرد في هذه المجموعة القصصيّة. إنّها تلك الشقّة التي تلزم الفرد بوابل من النوازع المتناقضة حيث الروح على دوم محلّ تيه وانحسار وشرود ووعي زائف إلى أقصى الحدود.

عمل روائيّ لا قصصيّ

تتشبّث الكآبة في جملة أشخاص هذه القصص بالتواري تارة، وبوضوح فاقع تارة أخرى، وكأنّي بهذه الكآبة التاريخيّة تحايث تلك الأمكنة، تلك الشقّة الكبرى التي عزّزتْ في ذهن فراس حميّة هذا النمط من السرد.

ثمّة ما يشي أنّ فكرة الأخذ بالثأر من كلّ شيء في العالم لم تبارح أذهان أيّ من أشخاص تلك المجموعة القصصيّة، فضلًا عن “موتيفات” أخرى موزّعة في كلّ القصص حتّى ليقع القارىء في الظنّ أنّنا إزاء عمل روائيّ يتحايل علينا كقرّاء عبر تقديم نفسه كقصص غير مرتبطة بعضها ببعض.

المجموعة القصصية “الشقّة” لفراس حميّة

في حكيه عن السرد بشكل عام والقصّة القصيرة بشكل خاص، يقول أرنست همنغواي: “إنّ السرد هو أشبه بالجبل الجليديّ، حيث القمّة تكون فقط محلّ رؤية وانقشاع، بينما حقيقة تلك القمّة، حقيقة ذلك السرد تكمن في ذلك المختفي، ذلك المتواري في الأصقاع، أيّ ذلك المنطوي على نفسه تحت قاع غالبًا ما لا يمكن سبر غوره وهو ما أُطلق عليه في الدراسات الأدبية Iceberg theory …”.

لعبة تأويليّة

وعلى الرغم من استرشاد فراس حميّة في مجموعته القصصيّة بجملة من الوقائع الواضحة والصريحة جدًّا والتي تعزّز تراكم الكلمات في هذه القصّة أو تلك، فإنّ ذلك المتواري عمدًا أو عن غير عمد تراه يحوم في الأفق ويبقى على القارىء من ثمّ رسم ملامح ذلك المتواري ومحاولة تعقّبه أو على الأقلّ لمحه، ومن النافل في هذا الصدد أن تلعب اللعبة التأويليّة لهذا القارىء أو ذاك لعبتها الفضفاضة.

إنّ المتواري تحت عتبات النصوص بعامّة لا يستجيب إلّا لخصوبة التأويل المفتوح، حيث النص عندئذ هو جملة من النصوص المتداخلة، هو جملة من التلميحات والإشارات المتحايلة.

إنّ “شقة” فراس حميّة هي في بعض متونها بمثابة دعوة للقارىء إلى رصد ما لم يقله النصّ. وإذا أردنا أن نكون أكثر دقّة حيال المصطلح النقديّ، فإنّ “الشقّة” هي دعوة للقارىء لأن يكون أكثر براغماتيّة في ملاحقة النصّ واستنطاقه وصولًا ربما إلى ما يتجاوز توقّعات كاتبه بالذات، وبهذا الصدد، إنّ البيئة الاجتماعيّة للضاحية والمتوارية خلف وضوح أحداث قصص حميّة، هي سيّدة مجمل اللعبة السرديّة في تلك القصص، بل هي الشخصيّة الرئيسة في كلّ تلك القصص شاء ذلك فراس حميّة أو لم يشأ.

نادرة جدًّا تلك المقاطع التي احتلّتْ فيها “الضاحية الجنوبيّة” كمصطلح إلّا أنّ طيف الضاحية لا ينفكّ يرسم ملامح وسلوك وردّات أفعال الكتاب

اللامتوقّع في المتن القصّيّ

لا يسترشد حميّة في جلّ قصص “الشقّة” بمعطى فانتازيّ بعينه، ولا يدعو قرّاءه للركون إلى بوصلة بعينها في تتبّع شخوصه، إلّا أنّ اللامتوقّع في المتن القصّي العام لهذه المجموعة القصصيّة هو أنّ ثيمة واحدة هي من تنسج الأحوال النفسيّة لناس القصص في هذا الكتاب، وهي من تحرّك توجّهاتهم، وهي أيضًا من تستدعي ردّات أفعالهم إزاء هذا الواقع أو هذا الحدث أو ذاك.

إنها تلك الرغبة الناريّة بالحضور، بالمنافسة في جلّ النشاطات، بالإمتلاء، بالسعي إلى المكانة في عالم لا يأخذ أيًّا من شخوص تلك البيئة على محمل الجدّ حتّى لو كان في أعلى علّيّين كما تتوهّم هذه الشخصية أو تلك، الأمر. تقوم كلّ قصص حميّة على تلك الأرضيّة الصلبة التي تستدعي تلك الرغبات، وهي أرضيّة لم يستدعها الكاتب بالمباشر أو بصدح الصوت، إنّما ترى تلك الأرضيّة لا تني تطلّ برأسها على غفلة عن الشخصيّات موضوع القصّ، وعلى غفلة عن هذا الحدث أو ذاك، وتراني أجرؤ على القول إنّها أرضيّة تغافل حتّى الكاتب، فتنبثق من دون علمه وتساهم في بنيان النصّ.

نادرة جدًّا تلك المقاطع التي احتلّتْ فيها “الضاحية الجنوبيّة” كمصطلح اللعبة السرديّة في قصص فراس حميّة، إلّا أنّ طيف الضاحية لا ينفكّ يرسم ملامح وسلوك وردّات أفعال وجلّ توجّهات شخصيّات الكتاب، بل ترى هذا الطيف كما تمّت بلورته في هذه المجموعة، ينقضّ بعنف على تلك الشخصيّات التي تصارع الحياة، بدءًا من انقضاض حيّ الكرامة (كما جاء في الكتاب والمقصود حيّ السلّم) على بعض ناسه، وصولًا إلى غيره من الأحياء.

فالضاحية في قصص حميّة ليست مجرّد واقعة مكانيّة تجترّ فيها الأحداث نفسها ليل نهار، بل هي عبر سرد حميّة واقعة انفعاليّة تُلزم ناسها بأنماط من ردّات الفعل والسلوكات حتّى لو كانوا في جغرافيّات أخرى بعيدة من الضاحية ولا تمتّ إليها بصلة، بدءًا من فرن الشبّاك وصولًا إلى أبعد من ذلك بكثير.

الطابق السفليّ

يتميّز السرد في مجموعة “الشقّة” بحيويّة فائقة وهي حيويّة تعاضدها بقوّة جملة من الكلمات أو حتّى العبارات التي غالبًا ما توصف بالنابية وصولًا إلى وصفها بالبذيئة من قبل بعض القرّاء ممّن “يتمتّعون” برهافة الإحساس والتقيّد بما يسمّى بالآداب العامّة، وهم – استطرادًا – غالبًا ما يكونون قرّاءً مملّين إلى أقصى الحدود. لقد أجاد فراس حميّة في إصداره القصصيّ الأوّل في توظيف تلك الكلمات، بل إنّ تلك الكلمات هي في بعض توظيفاتها بمثابة خيوط تشدّ ثوب القصّ؛ وحبّذا لو كان بالمستطاع إيراد كلّ تلك الكلمات الجميلة في هذه المقالة.

فنحن مع هذه المجموعة القصصيّة إزاء إضاءة متردّدة على حقيقة ما يمكث في أعماق تلك الأمكنة التي تطرّق إليها حميّة بالغمز وبالهمس، ولعلّ القصّة الأخيرة في مجموعة “الشقّة” وهي بعنوان “الطابق السفليّ” خير مثال على ضرورة أن يحمل أحدهم فانوسه السرديّ ويغوص في كلّ الطوابق السفليّة، حيث الله وعقود الزواج والطلاق، وحيث المرأة ونمط علاقاتها بأولادها هي رهن مسؤول حزبيّ من أحزاب الأمر الواقع في الضاحية الجنوبيّة… أمّا عن المكان الذي كانت امرأة “الطابق السفلي” تبثّنا منه أخبارها، فلن أبوح به هنا وأترك اكتشافه للقرّاء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى