الشيوعي الأول في بعلبك.. حكاية “فكرة” جاءت من أفغانستان!!
الشيوعية كـ”فكرة”، وصلت إلى بعلبك بطريقة مختلفة ومتأخرة بسنوات قليلة عن مناطق لبنانية أخرى كانت قد سبقتها إليها. ومع أن الحزب الشيوعي كان قد تأسس في العام 1924، تصادف ظهور الشيوعي الأول في بعلبك في سنة 1925 مع انعقاد الكونفرانس الأول للحزب في السنة نفسها، من دون أن يكون أي علاقة بين الحدثين.
وما يستحق الكتابة عن مجيء فكرة الشيوعية إلى بعلبك، ليس فقط، أنها من ضمن الأفكار الجديدة التي وفدت إلى المدينة بعد زوال الامبراطورية العثمانية، إنما لغرابة الطريق التي قدمت منه، فهي لم تأتِ إلى هذه المدينة، عبر “التبشير” الشيوعي الذي تولاه البلاشفة بعد سيطرتهم على الدولة الروسية، ولا بقنوات ارثوذكسية لبنانية تتمسك بالولاء لروسيا، ولا بالنشاط الحزبي للشيوعيين الأوائل في لبنان.
حطّت “الفكرة” الشيوعية في بعلبك بطريقة مختلفة ومغايرة، فقد جاءت من دون دعوة من أحد، ولم تكن مرسلة من أحد، فقد كان قدومها من صنع مصادفة بحتة ومن خارج نظام الأشياء، مصادفة لا تتوخى أسبابها نتائجها مطلقا، وقصتها يرويها عزيز صليبا في كتابه “العمل السري في الحزب الشيوعي اللبناني..”، نقلا عن المثقف والمناضل البعلبكي الراحل عبده مرتضى الحسيني الذي عاصر ذلك الحدث وتأثر به وكان شاهدا عليه.
يقول الحسيني “إن الحزب وُجد في بعلبك منذ العام 1925 ولو بشكل غير منظم، وأن أول شيوعي فيها كان يُدعى أحمد القيسي، وهو من أصل دمشقي ومن سكان بعلبك”.
الحزب وُجد في بعلبك منذ العام 1925 ولو بشكل غير منظم، وأن أول شيوعي فيها كان يُدعى أحمد القيسي، وهو من أصل دمشقي ومن سكان بعلبك
أما كيف عرف القيسي هذه الفكرة الجديدة أي “الشيوعية” وكيف اعتنقها، فهذان السؤالان شغلا اهتمام الحسيني بالرغم من صغر سنه وقتذاك، فقال: إن ابنة خالة القيسي كانت متزوجة من أحد أمراء أفغانستان، وأن القيسي كان يزورها في موطن زوجها، وهناك تعرّف القيسي على شيوعيين روس وأفغان. وقد اقتنع بالفكر الشيوعي مذ ذاك، وحمله معه إلى بعلبك التي عاش فيها، ويذكر الحسيني أن مهنة القيسي هي “صنع الحلوى والبوظة وبيعها في دكانه” التي لم نستطع التعرف على مكانها.
وعلى ما يظهر أو يُستنتج من ترجمة (سيرة) القيسي الشحيحة والقصيرة جدّا والتي يرويها الحسيني، أن اعتناقه الشيوعية لم يكن ترفا فكريا يأنس بها وحده، فقد نجح في جذب آخرين إلى اعتناق الفكرة الجديدة، وجمع حوله متعاطفين بعلبكيين، لكن لم يشكّلوا حالة تنظيمية ولم يلتحقوا بالحزب الشيوعي آنذاك، يذكر الحسيني منهم: “علي أسعد عواضة، مهدي علي رعد، أحمد شلحة، وشخص من آل رمضان لا يذكر اسمه، وتيسير يازرباشي”.
حتى الحسيني نفسه، الذي غدا فيما بعد علمًا لامعًا بين شيوعيي المنطقة والوطن والعالم، كان قد سمع بالشيوعية والشيوعيين لأول مرة من القيسي الذي يعود إليه تعريفه على هذه الفكرة الجديدة. وإن كان هذا الرجل (القيسي) لم يول الأهمية التنظيمية لنشر “شيوعيته” لأسباب نجهلها، إلا أن بصماته استمرت فيما بعد، فالذين انتقلوا بالشيوعية كفكرة ومبادىء إلى تنظيم حزبي، أفادوا من البذور الفكرية الأولى التي زرعها القيسي، ومعظم من تعاطف مع أفكاره الشيوعية جرى ضمهم لمنظمة الحزب في بعلبك. وينقل صليبا في كتابه، أن أول خلية للحزب أنشأها نظمي الرفاعي (وهو ابن عبد الغنى بك الرفاعي) في العام 1930، اي بعد أن قبعت فكرا خمس سنوات في رأس القيسي، وقد ضمت هذه الخلية إلى الرفاعي “فؤاد قانصو، أحمد القيسي، حسن قانصو، تيسير يازوباشي، رضا ياغي، محمد الحموي وأديب الأحمر.
أول خلية للحزب الشيوعي في بعلبك أنشأها نظمي الرفاعي (وهو ابن عبد الغنى بك الرفاعي) في العام 1930، وقد ضمت هذه الخلية إلى الرفاعي “فؤاد قانصو، أحمد القيسي، حسن قانصو، تيسير يازوباشي، رضا ياغي، محمد الحموي وأديب الأحمر.
لا يذكر الحسيني ولا غيره، الاسباب التي منعت القيسي من تحويل الحالة الفكرية للشيوعية إلى وضع حزبي منظم، هل لأنه من أصول غير بعلبكية، أو يفتقد إلى ثقل عائلي في المدينة يلتحف به بوجه مناوئيه، أو لعدم تناسب المؤهلات الشخصية؟ لا نملك أية اجوبة عن هذه الاسئلة، لكن يجدر التمعن، في أن يكون ابن أحد كبار الإقطاعيين (نظمي الرفاعي) في المنطقة هو أول من بادر الى تأسيس الحالة الحزبية للشيوعية في بعلبك، والذي لم يستمر كثيرا، وأن يخلفه فيما بعد على قيادة هذه الخلية الحزبية، فؤاد قانصو الذي تميز بمؤهلات شخصية تلائم “الرفيق” الحزبي، فقد عُرف عنه على ما يقول الحسيني بأنه كان “جريئًا ومقدامًا لا يهاب شيئًا، وكثيرًا ما اشتبك مع الدرك أو كل من يمس الحزب والشيوعية بكلمة سوء”.
وهنا تحضرنا ملاحظة جديرة بذكرها، وهي، مع أن القيسي هو أول من ذكر الشيوعية أمام عبده الحسيني، لكن لم يقنعه بها أو يُحسب على المتعاطفين معه، وقد يكون عدم الإقناع ليس ناجما بالضرورة عن الفشل، بينما فؤاد قانصوه نجح في إدخال الحسيني إلى الحزب وقتذاك، بطريقة ذكية على حد وصف الأخير، قد تكون هذه الملاحظة كفيلة بإيضاح الفوارق في المؤهلات الشخصية بين القيسي وقانصو، مع الإشارة إلى أن القيسي علّم قانصو مهنة صنع البوظة، لكن لا نعلم إن كان فعل ذلك لاجتذابه للشيوعية أو غير ذلك.
وعلى ما يظهر من طرفة يوردها عزيز صليبا في كتابه (السابق ذكره) تشارك في روايتها له الحسيني والقيادي الشيوعي البعلبكي الراحل عبد الجليل خزعل، أن الشيوعية عند القيسي ليست مسألة فكرية فقط، بل كان يجسدها في مواقف سياسية واجتماعية، وقد جاء في هذه الطرفة اختصارا: كان القيسي يصنع البوظة يدويًا (البوظة العربية) باستعمال الثلج الصناعي، وهو ماء مجلّد يكون على شكل مكعبات مستطيلة، وكان صنّاع البوظة يستخدمون مناشير لقصها وتقطيعها إلى قطع صغيرة.
تميز فؤاد قانصو بمؤهلات شخصية تلائم “الرفيق” الحزبي، فقد عُرف عنه على ما يقول الحسيني بأنه كان “جريئًا ومقدامًا لا يهاب شيئًا، وكثيرًا ما اشتبك مع الدرك أو كل من يمس الحزب والشيوعية بكلمة سوء”.
حدث ذات مرة، عندما كانت بعلبك تحت سلطة الانتداب الفرنسي، أن اعتقل القيسي بسبب توزيع مناشير تهاجم هذه السلطة وتحرّض عليها. أثناء التحقيق معه، سأله المحقق عن امتلاك المناشير وتوزيعها، وكي ينقذ نفسه، تظاهر القيسي بالبلاهة، وقال للمحقق: أجل سيدي، أنا عندي مناشير كثيرة، وهي في المحل. سرّ المحقق باعتراف القيسي وأمره بإرسال من يجلبها من مكانها. ذهب أحدهم وعاد جالبًا معه مناشير حديدية لقطع مكعبات الماء المثلّج. عندها قال له المحقق مذهولا: ما هذا؟، فأجابه القيسي: هذه هي المناشير التي عندي يا سيدي وليس عندي غيرها، فأسقط بيد المحقق وأطلق سراحه.
للأسف هذا كل ما نعلمه عن الشيوعي الأول في بعلبك، ليس هناك حكايات أكثر عن حياته، ولمّا سألنا بعضًا ممن كتبوا عن تاريخ بعلبك، اكتفوا بالقول أنه كان بائع حلوى من دون أي إضافة. كان مغريًا لنا أن نحصل على تلك المعلومات، لنعرف كيف تفاعل هو نفسه مع الفكرة، وكيف استقبل أهل المدينة فكرة غريبة وجديدة عليهم، ولنعرف ايضا، ما هي الوسائل والأساليب والإغراءات التي استعان بها لحصد المتعاطفين معه، وهذه مسألة مهمة، أبعد من أن تكون نوستالجيا بعلبكية، ففي الفترة التي حطّت فيها فكرة الشيوعية في بعلبك، كان من العسير على هذه الفكرة الجديدة غير المسنودة تنظيميًا أو بقوّة ما، أن تخترق حالة اجتماعية محصنة بنظام إقطاعي ما زال في اوج قوته وبنية قبلية وعشائرية لم تتخلص من بداوتها وانغلاقها، فاستقبال الفكرة تلك أو رفضها، هما أمران في غاية التشويق والأهمية.
لكن لا بد من القول، بأنه لولا عبده الحسيني لأنطفأ ذكر كل ما تقدم، وكان الشيوعي الأول نسيًا منسيًا، وما كان لـ”شيوعية” بعلبك أن تعرف كيف وُلدت ومن أي رحم خرجت.