“الصعود إلى النهار” لـ علي السقَّا ملامح سوداويّة أكلها البؤس

يبدأ عالم رواية “الصعود إلى النهار” لـ “علي السقّا” (الصادرة عن شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، طبعة أولى، 2025) بواقعيّة شديدة: “حسن” رجل متّكئ على أريكة، يستدعي قيلولته، يقاوم رطوبة الطقس، يستدعي حوارًا مع جاره المتعنّت والمُستقوي الذي يرفض تصليح “أنابيب المياه في أرضيّة حمّام منزله فيتركها تنسلّ، وتأكل من إسمنت سقف من يسكنون تحته”. تلفاز يبثّ نشرة أخبار، طفلان يلعبان، زوجة متبرّمة “نجلاء” تُبدي تأفّفها من زوجها ولا تراعي له ودًّا: “لولا إنجابي طفليّ منك لبصمت بالعشرة بأنّك لست رجلًا”.

يحمي “حسن” نفسه من أكل الحرام، ينوي أن يأخذ دور البطولة فيقف أمام العاملين في المصنع، مقررًا أن يفديهم بنفسه لتتغيّر أحوالهم، فيخطب فيهم عن العبوديّة والاستغلال، وعن تهديد الذكاء الاصطناعيّ الذي سيسلبهم وظائفهم، وتتأجّج حماسته تهوّرًا عندما يقدم على حرق آليّتين حديثتَين، قبل أن تحترق حياته، ويُقبَض عليه، ويُركَل بأرجُل من ضحّى بنفسه من أجلهم، فيوضع في السجن، ويتحقّق الطلاق لزوجته.

سجن يحوي كلّ أنواع وأشكال المظاليم، وينفتح على كوّة من الغرابة والدناءة قوامها: “البلد الخراب، وعود المسؤولين الكاذبة عن تعافي البلاد، محاربة الفساد، الحفاظ على الوحدة الوطنيّة.. وقوع أزمة اقتصاديّة واجتماعيّة، تفشيّ الجوع والاستغلال، مدينة طوباويّة في وسط حزام البؤس..”.

يجد القارئ نفسه يسير في عتمةٍ مدقعة وبأعين نصف مغمضة، ليُلاحق الشخصيّات الهاربة من السجن، يتكشّف السرد على واقعيّة غرائبيّة، بيروت مدينة يأكلها العفن، الناس فيها يُقتلون بلا رحمة، الزعيم “داوود” يبني حصنه المنيع في مدينة فاضلة مسوّرة بالصفائح الإسمنتيّة، فيها كلّ أسباب الراحة، كهرباء صديقة للبيئة، خدمات اجتماعيّة، وحرّاس يقتلون كلّ من تسوّل له نفسه الدخول إلى حرم الأغنياء..

تحمل الرواية نقمة على المدينة الحديثة، التي تُهمّش الفقراء وترذلهم، وتفتح صدرها للأغنياء، لا مكان فيها للحلم إلّا على صدر دمية، “بيروت باتت جهنّم

سوداويّة النهار

يٌشير المؤلّف علي السقّا في حديث خاص لـ “مناطق نت” إلى أنّ العنوان -على عكس المُتوقّع- “يحمل إشارة سلبيّة، فالنهار هنا مرادف للتوحّش، للغابة التي يستيقظ فيها الوحوش ليبدأوا بنهش بعضهم البعض. والضحايا هم شخصيّات الرواية الذين كانوا يعيشون في الظلّ، والعتمة. فالليل حماية لهم بينما النهار غابة يخافون منها، ولكنّهم اضطروا إلى أن يصعدوا إلى النهار ويتواجهوا مع الوحوش على اختلاف أشكالها وأحجامها”.

تحمل الرواية نقمة على المدينة الحديثة، التي تُهمّش الفقراء وترذلهم، وتفتح صدرها للأغنياء، لا مكان فيها للحلم إلّا على صدر دمية، “بيروت باتت جهنّم، لن يثور فيها فقير لأنّه مشغول بتقليد الأغنياء”. وقد ضمّن المؤلّف سرده كثيرًا من العبارات والجمل المقطعيّة التي توصّف علاقة الشخصيّات الذين هم ضحايا المجتمع بهذه المدينة، فيصفونها بالغابة “أصبحت بيروت غابة واسعة صرنا ذئابًا نحن والكلاب..”؛ “أكل الأحياء أمواتهم”؛ “مدينة تعجّ بالكذب وتتغذّى منه”.

وحال أهل بيروت كحال سليمان الشخصيّة التي تعيش صراعًا مريرًا مع هويّته الجنسيّة: “نسخة حديثة من بيروت التي كلّما نهض فيها طمعًا بحياة جديدة قتلته وأسكنته منذ ولادته هو والخوف جسدًا واحدًا”.

مدينة غارقة في الظلمات

في مقابل هذه المدينة الغارقة في ظلمات الفقر والجوع تعلو “دريمز أند بيوند” مدينة طوباويّة بناها الزعيم الانتهازيّ والمشهور بحنكته “داوود”: “ناطحات سحاب، وقصور مسوّرة، ومدارس وجامعات وحضانات، ومشافٍ ونادٍ رياضيّ… ومختبر طبيّ.. ومسابح وقاعات.. والأهمّ الملاجئ التي شُيّدت أسفل المدينة والقادرة على حماية سكّانها من أيّ هجوم بما فيها الهجمات النوويّة”.

يتابع السقّا: “بيروت بالفعل مدينة لم تعد تتّسع للفقراء، فيها أحزمة بؤس تعيش على الهامش، وتواجه مصيرها واحتياجاتها بلا أدنى اهتمام من أيّ مسؤول، و‘دريمز أند بيوند‘ هي المدينة الخياليّة التي تستجدّ في قلب بيروت لينعم بها فقط من يملكون ثروات ماليّة، ولكنّها فعليًّا ليست خياليّة كثيرًا! بل هي موجودة في معظم دول العالم، من أميركا، حتّى أوروبا، حتّى بلادنا العربيّة، بحيث يختلف فيها نمط الحياة الاجتماعيّة والثقافيّة والماليّة والصحّيّة، ويُصبح ما هو قديم عبارة عن أحزمة، وهذه المدن الحديثة هي مدن مسيّجة ومحميّة، والناس خارجها متروكون لمصيرهم الأسود. أناس متروكون كي يأكلوا بعضهم البعض”.

رواية “الصعود إلى النهار” ل علي السقا
رواية بشخصيّات كثيرة

لا تصنع الرواية أبطالًا، فنحن أمام شخصيّات، معادية في سماتها للمجتمع، شخصيّات تواجه قلق المصير، تعيش في ظلّ ماضٍ كسيح بما يحمله من تعب وطفولة موجعة ونزقة.

شخصيّات اعتنى بها المؤلّف عناية جادّة، ملقيًا عليها الضوء والحركة لتنقل سلوكًا من خلال تصوير تقلّباتها وهواجسها النفسيّة العميقة.

يمكن القول إنّ كلّ شخصيّة من الشخصيّات فيها هو بطل نفسه، ويمثّل ضحيّة من ضحايا المجتمع، (حسن، سليمان، فارس، رشدي، رياض..) شخصيّات تتفاوت في نسبة انحرافها عن قواعد المجتمع، تظهر بكلّ وقاحتها وجلافتها لتقول ما هي عليه من تمرّد على القوانين المجتمعية. لا يحاول المؤلّف تأسيس تعاطف مع هذه الشخصيّات بقدر ما يعطيها المجال لتحكي عنها، ويمثّل “رياض” أكثر الشخصيّات أذيّة، تحرّكه غرائز القتل والاستغلال والاعتداء. الذي ذاق طعم الحلال للمرّة الأولى عندما أكل بقايا الطعام من القمامة، ويقول عن نفسه: “أنا الحرام الذي يتكلّم ويمشي ويأكل ويشرب”.

تشريح نفسيّ

يقول الكاتب سعيد مقيديش في مقال عن “تطوّر مفهوم صورة البطل في الرواية العربيّة الحديثة” (نُشر في مجلّة “مقامات للدراسات اللسانيّة والنقديّة والأدبيّة” في الجزائر العام 2017): “إنّ تفسّخ القيم الإنسانيّة النبيلة يُفرز بطلًا يعيش السقوط من أوّل وهلة مسلوب، يتقاسم أفراده البطولة مع الشخصيّات الأخرى التي تساعده في تشخيص معاناته”.

يظهر السقّا مرونة في تبنّي حسّ الملاحظة والتحليل النفسيّ ودراسة الشخصيّة من حيث المزاج والبيئة، فنحن أمام تشريح نفسيّ لحكاية حسن مع الدمية، والوقوف على التناقضات التي تهيمن عليه في صراعه مع القدر والبيئة، وتبيان أسباب كرهه لأمّه.

يسأل حسن دميته التي أسماها نجلاء: “أنت دمية بحقّ؟ أم أنّك روح حيّة غير مرئيّة للناس ولا يراها إلّا أنا؟.. لماذا أبثّ الحياة فيك والبشر من حولي كُثر؟”.

نلمس في حوار حسن الداخليّ صورة الأمومة المشوّهة، علاقة فريال (الأمّ) بابنها حسن، فريال التي ترضع ابن سيّدها طمعًا بالمال، وتعطي ابنها الحليب المعلّب

يقول فرويد إنّ حبّ الطفل لأمّه يتحقّق بنجاح المرحلة الفمويّة، فالطفل عندما يتجاوز هذه المرحلة بشكل سليم ويرضع من ثدي الأمّ تتكون لديه صفات إيجابيّة. من هنا نلمس في حوار حسن الداخليّ صورة الأمومة المشوّهة، علاقة فريال (الأمّ) بابنها حسن، فريال التي ترضع ابن سيّدها طمعًا بالمال، وتعطي ابنها الحليب المعلّب: “بتّ أنا وابن سيّد منيف أخوين، لكنّه لصّ كبير، أبدلني حليب الحياة الخارج من ثدي أمّي بآخر لا يسيل إلّا بماء.. كان يعوّضني بقنان يرسلها لي يوميًّا مع فريال لتدسّها في فمي..”. رجال هائمون، يحرّكهم الجوع، حتّى يجدوا في لحم الكلاب النافقة ما يسدّ جوعهم.

عن الرواية وعوالم النشوء

تتآلف الرواية مع كثير من أحداث ومُستجدات الحاضر الحاليّ، وتتناصّ مع أزمة سعر الصرف التي ألمّت بالبلاد، وأزمة احتكار المواد الغذائيّة والنفط (البنزين والمازوت..)، ويمثّل رياض راعي هذه المرحلة، حيث يؤدّي الشخصيّة التي كانت تستغلّ هذه المرحلة بكلّ شيطنتها تحت رعاية الزعيم الذي نجد أنّه عند وقوع المصيبة ربّما تخلّى عنه.

يقول السقّا: “بدأت كتابة الرواية قبل أحداث ثورة “17 تشرين‘ الأوّل (أكتوبر) وبطبيعة عملي كصحافيّ أقرأ وأتابع الأخبار اليوميّة، كان من المتوقّع جدًا دخولنا في أزمة اقتصاديّة، حاولت في حينه تخيّل تبعات الموضوع وتداعياته”. ويُضيف:” إنجاز الرواية استغرق خمس سنوات، فالكتابة بالنسبة إليّ مزاجيّة”.

يوضّح السقّا أنّ رؤيته الاقتصاديّة والاجتماعيّة للواقع المُشرّح في الرواية ليس إسقاطات من عالم الأخبار، بل هي “رواية عن المجتمع اللبنانيّ ومعايشته للظروف، تعاطيه مع مشكلاته، وكيف كان سيتعاطى مع الأحداث لو صارت مشكلات أكبر”.

بحاجة إلى عناق

ويذكر أنّه لم يستعن بأيّ دراسات نفسيّة أو اجتماعيّة ليتمكّن من بناء الشخصيّات وإظهارها على ما هي عليه في سلوكيّاتها وتعاطيها مع نفسها ومع الآخرين، ويؤكّد: “بنت لي قراءاتي وتجاربي في الحياة رؤية شكّلت هويّة شخصيّات الرواية، قد يظهر حسن أنّه الشخصيّة البطل، ولكن هناك أكثر من شخصيّة، ولكلّ منها دورها الرئيس، الشخصيّات الهامشيّة قليلة جدًا، ودورها موضعيّ في الحدث. كلّ شخصيّة فيها هي شخصيّة وطن، لكلّ منهم قصّته وتجربته، ولكن إذا جُمعت قصصهم مع بعضها، بالإمكان تكوين لوحة عامّة وشاملة عن حياتنا وعن أزماتنا الاقتصاديّة، والاجتماعيّة والسياسيّة، وعن الثقافة وعن كلّ هذا الحضيض الذي نعيشه”.

يختم السقا: ” الإنسان مهما يعبر من أزمات قاسية، ربّما لا يكون بحاجة أولويّة لعلاج نفسيّ أو لمالٍ بقدر ما يحتاج إلى عناق. و”حسن” هو طفل كبر وعاش تجربة قاسيَة، وكلّ حاجته الأساسيّة التي حاول التعبير عنها هي حاجته لعناق، شعر بدفء فارس فاستشعر به حنان أمّه المفقود، والذي لم يتمكّن من تعويضه لا مع زوجته ولا مع أبنائه، وبمجرّد عناق فارس له استيقظ هذا الجوع القديم، ولم يعِ أنّ من يعانقه ليس أمّه والحبّ الأوّل هو الأمّ، فقتله عناقًا ولم يكن يعي ذلك”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى