الصيد بالديناميت يجتاح بحر الصرفند والصيّادون يدفعون الثمن
في جنوب لبنان، وتحديدًا في بلدة الصرفند، ثمّة حرب من نوع آخر إلى جانب الحرب الإسرائيليّة، حرب سلاحها “الديناميت” وهدفها الثروة البحريّة وضحيّتها الصيّادون المنتمون إلى أكثر الفئات تهميشًا في المجتمع. فوفقًا لمعلومات ”مناطق نت“، تلجأ نحو 10 مراكب موزعة على المَوانِئ الثلاثة في البلدة إلى استخدام أحد أخطر أنواع الصيد، وهو الصيد بالديناميت. وهذه المراكب موزّعة على الشكل الآتي: خمسة مراكب في ميناء “الزيرة” واثنان في ميناء “عين القنطرة” وأربعة في ميناء “المونس”. فضلًا عن بعض الأشخاص الذين يعمدون إلى استخدام الديناميت دون امتلاكهم لمراكب.
ويصل مجموع المراكب في الموانئ الثلاثة إلى نحو 130 مركبًا، يعمل من ثلاثة إلى أربعة صيّادين على كلّ مركب، ممّا يجعل العدد الإجماليّ للصيّادين حوالي 500 صيّاد. وعلى الرغم من أنّ مهنة الصيد تتميّز بأنّها من المهن المُتوارثة، إلّا أنّ الوضع الاقتصاديّ الذي تمرّ به البلاد دفع كثيرين من الناس نحو الصيد البحريّ كمهنة ثانية.
في الطريق إلى ميناء “الزيرة” في الصرفند، يستوقفك حاجز لمخابرات الجيش اللبنانيّ، كما هي حال معظم الموانئ على الأراضي اللبنانيّة، إلّا أنه خلافًا لجميع الموانئ يُحّذرك عنصر المخابرات من التقاط أيّ صورة للميناء من دون أخذ إذن مسبق من الجهات المتخصّصة، الأمر الذي يثير استغرابًا حول التوفيق بين هذا التشدّد الأمنيّ من جهة وقدرة بعض المخالفين على إلقاء الديناميت في مناطق ليست بعيدة من الميناء.
إلى الأمام من حاجز المخابرات، ثمّة مبنى قديم يجلس أمامه عدد من الصيّادين العائدين من ”السرحة“ (رحلة الصيد) بعضهم يلعب ورق “الشدّة” والبعض الآخر يدخّن النرجيلة. نسير نحو الداخل حيثُ يستقبلنا رئيس الجمعيّة التعاونيّة لصيّادي الأسماك في الصرفند محمّد سليم الذي لا تُفارق الابتسامة وجهه إلّا عند الحديث عن الصيد الجائر ولا سيما بالديناميت، فيُسارع إلى القول بلكنته الجنوبيّة ”شو مفكّر لو طالع بإيدينا ما وقّفنا الديناميت؟”.
الصيد بالديناميت جريمة
يؤكّد سليم في حديثه لـ”مناطق نت“ أنّ الجمعية تُحاول باستمرار مكافحة هذه الظاهرة ولكن ”ما بيطلع بإدينا شي“. ويوازن سليم بين حسرته الكبيرة على الخسائر التي يُسبّبها الديناميت من ناحية وبين دبلوماسيّته التي تُحتّم عليه عدم الدخول بالتفاصيل فـ”التعمّق في هذا الموضوع لن يترك لنا صاحبًا سواء الذين يستخدمون الديناميت أو حتّى القوى الأمنيّة أو الوزارات المعنيّة“، فالبلد قائم على ”الفوضى”.
في السياق عينه، يُشير رئيس جمعيّة ”الجنوبيون الخضر“، الدكتور هشام يونس، إلى أنّ استخدام الديناميت يتركّز في ساحل الزهراني (التي تشمل الصرفند) وذلك يعود إلى عدّة أسباب تبدأ بـ”تقصير البلديّات ولا تنتهي بالمسؤوليّة السياسيّة التي تكمن في تغطية هذه الممارسة”.
ووفقًا ليونس، فإنّ الديناميت يُشبه السلاح الأعمى الذي يقضي بشكل عشوائيّ على جميع أفراد السلسلة الغذائيّة من الأنواع البحريّة، من السمك الصغير إلى الكبير. وهو ما يؤدّي إلى تدمير وإخلال في مكوّنات النظام البيئيّ البحريّ.
كما يوضح يونس أنّه ”منذ بداية عملنا البيئيّ وصلتنا كثير من الشكاوى حول استخدام الديناميت والوسائل غير الشرعيّة الأخرى مثل السموم والشباك في مناطق محظورة“، مشيرًا إلى انعكاس هذا الاستخدام على عديد من حالات إصابة ونفوق السلاحف البحريّة المهدّدة بخطر الانقراض إذ يؤدّي الديناميت إلى تعرّض هذه الثدييّات الحسّاسة إلى نزيف داخلي ممّا يؤدي إلى نفوقها“. ويؤكّد يونس محاولة التصدّي لهذا الخطر من خلال التعاون مع الوزارات المعنيّة وبشكل أساس وزارة الزراعة وكذلك مع وزارة البيئة نظرًا إلى الآثار البيئيّة الخطيرة المترتّبة من استخدام الديناميت، وكذلك مع قوى الأمن الداخليّ ”إلا أنّ ما تحقّق بقي محدودًا“.
الديناميت على عينك يا تاجر
وعلى الرغم من أنّ استخدام الديناميت يعود إلى سبعينيّات القرن الماضي، إلّا أنّ هذه الظاهرة أخذت تتوسّع خلال السنوات الأخيرة، إذ يُشير الصيّاد محمّد صالح في حديث لـ”مناطق نت“ إلى أن ”خيرات البحر تتراجع من عام إلى آخر، وذلك بسبب الديناميت، وفي حال لم يلاحق هذا الملف فالوضع سيصبح كارثيًّا“. كما يؤكّد أن استخدام الديناميت يعود إلى زمن بعيد ولكنّه كان يتمّ استخدامه بشكل محدود جدًّا وبطريقة مخفيّة، أمّا اليوم فترمى أكثر من 10 قنابل في فترة وجيزة وكأنّ ”مش فرقانة معو حدا“.
لا يحيد علي خرّوبي، وهو صيّاد منذ 39 عامًا في الصرفند التقته ”مناطق نت“ عمّا صرّح به صالح فيلفت إلى أنّ ”المشكلة الأساس التي تواجه الصيّادين هي الصيد الجائر الذي يبدأ من الديناميت ولا ينتهي مع استخدام الشباك الضيّق أو الصنانير غير القانونيّة“. كما يوضح تأثير الديناميت عليه شخصيًّا، إذ أنّه متخصّص بصيد البارودة ممّا يُحتم عليه البقاء مدّة طويلة تحت الماء وسماع أصوات الانفجارات الناجمة من الديناميت فـ”يوميًّا رأسي يصبح كالصّخر“ من دويّ الانفجارات.
ويؤكّد كذلك أن استخدام الديناميت يتزايد بشكل كبير من عام إلى آخر بدل انحساره، موضحًا أنّه ”في السابق كان يتمكّن أحدهم من رمي إحدى القنابل وتجميع السمك والهروب سريعًا، أمّا اليوم فيمكن في أيّ لحظة أن تسمع صوت الانفجار، وقد باتت ظاهرة عاديّة“. ويُطالب الدولة بمعالجة هذه الظاهرة ”وعند وجود النيّة لديها يمكنها إيقافها“.
مسؤولية ضائعة ومحاسبة غائبة
لا يبدو ازدياد استخدام الديناميت من دون حسيب أو رقيب غريبًا في بلد مثل لبنان تغيب فيه المساءلة والمحاسبة لصالح سياسة الإفلات من العقاب. ووفقًا لصالح فإنّ ”أحزاب المنطقة هي التي تغطّي الأشخاص الذين يستعملون الديناميت، ويجب رفع الغطاء عن كلّ المرتكبين”. وهذا ما يتوافق مع ما يُشير إليه يونس بأنّ هناك ”مسؤوليّة سياسيّة تكمن في تغطية هذه الممارسة، إذ في كثير من الحالات تقوم القوى الأمنيّة بتوقيف المخالفين إلّا أنّه سرعان ما يُطلق سراحهم بناءً على ضغوط سياسيّة“، وهو ما يضعف إنفاذ القانون، فحتّى في حال استدعاء المخالفين وتوقيعهم تعهّدات بعدم تكرار الفعل، فإنّ شعور المخالف بأنّه يحظى بالحماية يشجّعه على تكرار فعله. ويؤكد ضرورة عدم اعتماد المقاربة المجرّدة، أيّ تجهيل الفاعل ”فهذه القوى السياسيّة معنيّة بمعالجة هذه المشكلة خصوصًا أنّها تطال أهمّ حرفة في المجتمعات المحلّيّة الساحليّة“.
صالح: استخدام الديناميت يعود إلى زمن بعيد ولكنّه كان يُستخدم بشكل محدود جدًّا وبطريقة مخفيّة، أمّا اليوم فترمى أكثر من 10 قنابل في فترة وجيزة وكأنّ ”مش فرقانة معو حدا”
كذلك يوضح يونس أنّ ”هناك بعض الأشخاص يقومون بإبلاغنا بالتجاوزات من دون إبلاغ المخافر خوفًا من كشف هويّتهم ممّا يُسبّب لهم مشاكل مع المعنييّن في إلقاء الديناميت“. ويلفت إلى أنّ ”عناصر المخافر في منطقة الساحل هم من أهالي هذه المناطق ممّا يُسهّل عليهم التعرّف إلى المُبلّغين“. ويُشير إلى أنّ ”الشكاوى التي تقدّمنا بها وصلت إلى طريق مسدود، ففي معظم الأحيان يستدعى المعتدون ويطلب إليهم توقيع تعهّد بعدم المخالفة مرّة أخرى، ولكن هذه الإجراءات كانت دون جدوى أو نتيجة إيجابيّة“.
أضف إلى ما تقدّم، تُعاني المخافر من نقص كبير في الإمكانات، ويستذكر يونس كيف أنّ أحد المخافر الذي كان يتعاون معه يملك زورقًا مطّاطيًّا واحدًا، وهذا ما يحول دون تمكّنه من القيام بواجبه في مراقبة الخروق البحريّة.
وفي السياق عينه، يحمّل يونس البلديّات مسؤوليّة كبيرة في مكافحة هذه الظاهرة، مثنيًا على أداء بلديّة صور في هذا المجال حيث “تمكّنت من إيقاف هذه الظاهرة باستثناء المنطقة المحاذية لمخيّم الرشيديّة التي بقي استعمال الديناميت فيها وهذا تقع مسؤوليّته على اللجنة المحلّيّة في المخيّم”. إلى جانب البلديات، تتحمّل وزارة الزراعة المسؤوليّة الأكبر إزاء هذا الملف إذ يفترض أن تنسّق مع البلديات والتعاون مع وزارة البيئة ومعهد علوم البحار لرصد أنشطة الصيد غير الشرعيّ على الساحل اللبنانيّ، ولكن “ثمّة غيابًا لآليّة فعّالة في هذا الملف”.
وحاولت ”مناطق نت“ التواصل مع رئيس دائرة الصيد المائيّ والبرّيّ في وزارة الزراعة عماد لحّود للاستفسار عن دور الوزارة في مكافحة هذه الظاهرة، ولكن لحّود اعتذر لأنه غير مخوّل في إجراء لقاءات صحافية على رغم حصول ”مناطق نت“ على إذن مسبق من قبل وزير الزراعة عبّاس الحاج حسن.
ظاهرة أكثر خطورة
وفي السياق، يشير يونس إلى حاجة تطوير نظام العقوبات المتعلّقة باستخدام الديناميت، إذ ”ما زالت هذه العقوبات متروكة في كثير من الأحيان لتقدير القضاة، ممّا يُفسح المجال أكثر أمام التدخّلات السياسيّة“. وفي ما يتعلّق بمسؤوليّة وزارة البيئة، فيحصر يونس دورها بمراقبة الأنشطة التي تطال مواقع ذات خصوصيّة بيئيّة، وبالتي فإنّ مسؤوليّتها تكمن في ”التدخّل مع وزارة الزراعة لحماية الأنواع المهدّدة بالانقراض التي يضعها الديناميت في دائرة الخطر“.
وإلى جانب استخدام الديناميت بشكل عشوائيّ، ثمة ظاهرة أكثر خطورة بدأت تنمو في السنوات الأربع الماضية متمثّلة بإلقاء الديناميت في ”المواقع الاصطناعيّة“، إذ إنّ السمك يُهاجر مثل الطيور، بحيث ينتقل من المياه الإقليميّة إلى مياهنا الداخليّة. لذا يعمد بعض الأشخاص إلى إنشاء ”مواقع اصطناعيّة“ على عمق 60 مترًا، تأخذ هذه المواقع شكل ”سيّارة أو مركب أو مجموعة من حديد تالف أو أيّ شيء يمكن أن يصبح بيتًا للسمك، وبعد تجمّع السمك يقومون بإلقاء الديناميت في هذا الموقع. وهذا ما يفقد البحر كثيرًا من أنواع السمك.
أمام ما تقدّم، يدعو يونس إلى إطلاق حملات توعية بالتعاون مع الصيّادين ونقاباتهم ”وهذا ما قمنا به من خلال برنامج الصيّاد البيئيّ في صيدا والصرفند وصور الذي هدف إلى نشر التوعية، وكان واضحًا لدينا أنّ مستخدمي الديناميت محدودو العدد مقارنة بالصيّادين ممّن يعون خطورة ذلك ويرفضون هذه التجاوزات التي تعود بالضرر عليهم وعلى مستقبل الحرفة“.
وإذ يلفت إلى تأثّر نشاط الصيّادين الجنوبيّين وخصوصًا في منطقة صور ولغاية الناقورة بفعل الاعتداءات الإسرائيليّة منذ نحو عشرة أشهر، يختم مؤكّدًا ”الحاجة إلى تطوير هذا القطاع والعمل على مساعدة الصيّادين ممّن يعانون من تداعيات الضائقة الاقتصاديّة والمعيشيّة في ظلّ غياب الرعاية الصحّيّة والاجتماعيّة“.
قلّة الرزق وغياب المساعدات
يُجمع كلّ من التقتهم ”مناطق نت“ على أنّ غلّة الصيّادين تراجعت في السنوات الأخيرة على الرغم من غياب الأرقام الرسميّة في هذا المجال، ويستدلّ سليم على ذلك بالإشارة إلى أنّه في العام 1996 طلب مجلس الجنوب بإجراء إحصاء لعدد الصيّادين، فبيّن أنّ عددهم لا يزيد على 450 صيّادًا، وهذا العدد لم يزداد إلّا قليلًا منذ ذلك الحين بسبب ”قلّة الرزق في البحر“.
إنّ هذا التراجع في الإنتاج لا تنحصر أسبابه بالصيد الجائر والعشوائيّ فحسب، وإنما بكون الشاطئ اللبنانيّ الممتدّ من طرابلس إلى الناقورة ويبلغ نحو 200 كيلومتر، تبلغ المساحة الصالحة للصيد نحو 150 كيلومترًا، وإن هذه المساحة تُعتبر ضيّقة جدًّا بالنسبة لعدد الصيّادين في لبنان.
ويأتي ذلك في ظلّ غياب تامّ لأيّ مساعدات مقدّمة لهذه الفئة الاجتماعيّة، فآخر مساعدة تلقّاها صيّادو الصرفند تعود إلى العام 2015، حيث قدّمت إحدى الجمعيّات الأهليّة بعض شباك الصيد لعدد من الصيّادين.
وعلى الرغم من ذلك، فإنّ كمّيّة الإنتاج غير كافية للسوق المحلّيّة التي دائمًا ما تحتاج إلى الاستيراد، وفقًا لسليم الذي يؤكّد أنّ هذا الاستيراد يُساهم في المحافظة على سعر السمك بشكل يُناسب جميع طبقات المجتمع، لافتًا إلى أن السمك البلديّ دائمًا أغلى من المستورد.
تأثير الحرب
وعلى رغم عدم تأثّر صيّادي الصرفند بالحرب الإسرائيليّة على لبنان لناحية حرّيّة التجوّل في البحر بكلّ أريحيّة، إلّا أنّ المشكلة التي انعكست سلبًا عليهم وأدت إلى تراجع إنتاجهم بنسبة 70 في المئة تتمثّل بتوقف نظام تحديد المواقع ”جي بي اس“. فالصيّادون يقومون بالصيد في مناطق قاموا بتحديدها سابقًا عبر هذا النظام إلّا أنّ التشويش على النظام الذي يقوم به العدوّ الإسرائيليّ أدى إلى جعل الصيّاد ”أعمى“ في البحر.