الطبخ خارج النظام الأبويّ فعل اختيار أم إكراه؟

الطبخ أو عمليّة تحضير الطعام، أصبحت همًّا يُقلقنا ويشغل بالنا في عالم السرعة والحداثة، وقد نستبدلها بموادّ سريعة التحضير لاستيفاء العناصر الغذائيّة من الطعام، فوجدنا أنفسنا نشرب البروتين بدلًا من أكل اللحوم، ونخلط بعض المواد في الماء لنحصل على الـ Electrolytes أو المعادن اللازمة بدل استيفائها من الأطعمة. مُتناسين العنصر الأساس للطبخ: الحُبّ.
وبالحُبّ، لا أقصد رَمسنَة (من رومانسي) الطبخ كفعلٍ مفصولٍ عن النظام الأبويّ والذكوريّ والعمل المنزليّ والرعائيّ غير المأجور للنساء، بل أحاول تفكيك الطبخ كما يراه ويتعامل معه هذا النظام، وأيضًا أحاول فهم الطبخ من خارج النظام، ومن دواخلنا، من علاقاتنا المعقّدة، كما علاقتي مع الطبخ.
عمليّة خلق وعطاء
وسط كلّ هذه السرعة، أتذكّر بُطء نهاري عندما كنت في المدرسة، عائدةً إلى البيت عند الساعة الثالثة بالضبط، أتشوّق لأعرف محتوى قائمة طعام اليوم. كنتُ أصل إلى مدخل البيت وأحاول أن أحزر من الرائحة ما الذي طبخته جدّتي اليوم، وكانت تُنهي تحضير طبختها يوميًّا في تمام الثالثة بعد الظهر مع دخولي إلى البيت.
كانت جدّتي تطبخ لمَن تُحبّهن وتُحبّهم، ولم ترفض تحضير أيّ طبخة لي اشتهيتها، مع كلّ جُهد التحضير، كانت تضع شيئًا من حُبّها لي في كلّ أكلة. لذا، دائمًا ما خلطتُ المشاعر بالطبخ، لم أُصدّق أنّها مجرّد خطوات عمليّة لتجهيز طبخة، بل كانت عمليّة خلق وعطاء، وقرار. وكونها عملًا غير مأجور، لا ينفي عنها صفة الشعور أحيانًا.
كانت جدّتي تطبخ لمَن تُحبّهن وتُحبّهم، ولم ترفض تحضير أيّ طبخة لي اشتهيتها، مع كلّ جُهد التحضير، كانت تضع شيئًا من حُبّها لي في كلّ أكلة.
بعيدًا من عالم اللا- أنسنة، ما هو الطبخ؟ ماذا تعني لنا هذه العمليّة كبشر وما علاقتها بالرعاية؟ كيف تتموقع في صلب ثقافتنا وحياتنا اليوميّة ومشاعرنا؟ ولِمَ أضيع أحيانًا بعلاقتي مع الطبخ كامرأة، ما بين التعامل معه كلغة للتعبير عن الحبّ والمشاعر، وما بين فرضه عَلَي كعملٍ مؤنّث؟
الطبخ ما بين العطاء والإجبار
القدرة على تحضير الطعام للآخر والأخرى، هي قدرةٌ على العطاء والرعاية، وأعني هنا، إن كانت طوعيّة. بعبارة أخرى، ترتبط أخلاقيّات هذا العمل- الطبخ- بالقرار والموافقة، هل تمتلك فعلًا مَن تُحضّر الطعام لعائلتها كلّ يوم، رفاهيّة الرفض مثل حتميّة الموافقة؟
أنا أقرأ طبخ النساء في المنازل، كعملٍ رعائيٍّ غير مأجور، لأنّه عملٌ مُجهد، يستدعي ساعات طويلة من التحضير، بخاصةً مع ارتفاع أعداد أفراد العائلة وتنوّع أذواقهم! كذلك لم تحصل النساء على أيّام عطلٍ من هذا العمل المتكرّر والأبديّ، ولا مُقابل مادّيّ أو معنويّ، وإن لم يكن الطعام المُحَضَّر بحسب أذواق الزوج والأولاد أو إن اكتشفوا بعض “العيوب” المخفيّة فيه، فربّما ينزعجون ويتوجّهون إلى النساء اللواتي حضّرن الطعام، بتعليقات تافهة بعد يوم عملٍ طويل، هنّ أصلًا مُجبرات عليه!
كان جدي يدعو للعزائم في بيته، ويحضُر نحو خمسين شخصًا، بينما تقضي جدّتي يومين أو أكثر لتحضير الطعام لهم ما بين التسوّق لشراء الحاجيّات واللوازم، وعمليّة التحضير نفسها. بعد مرور أكثر من عشرين سنة على هذه “العزومات”، تحكي لي جدّتي هذه القصّة بغضب، غضب من كلّ هذا التعب وتقول: “أكل الدهر من إيدييّ… كلّ هالتعب وين بدّه يروح؟”.
عمل منزلي غير مأجور للنساء
لا يقتصر الطبخ على أنّه عمل منزليّ غير مأجور للنساء، بل على نتائجه فوق أجسادهنّ. تروي جدّتي تعبها، أوجاعها، كغيرها من النساء، إذ جلست ساعات طويلة منحنية الظهر لتلفّ ورق العنب، وتغسل أوراق الملوخيّة في الماء البارد، وتعصرها، وتُقطّع البصل وقوفًا، وتنقر عشرات الكيلوغرامات من الكوسى!
كانت مُجبرة، لا تمتلك خيار رفض العمل ولا تستطيع الردّ على التعليقات السلبيّة الموجّهة لها عن طبخها، لكنّ حال جدتي اليوم اختلف، في الفترة الزمنيّة التي عايشتها فيها، كانت تردّ على التعليقات السلبيّة عن طبخها برديّن فقط ما زلتُ أحفظهما حرفيًّا: “إذا مش عاجبكن غيروا المطعم”، و”اعتزلت الفنّ”. مُحتجّةً على عملها غير المأجور بهذَيْنِ الرَّدَّيْنِ البسيطَيْن، اللَّذَيْن لا يحملان مصطلحاتٍ معقّدةً ولا شعاراتٍ فضفاضة، بل يُعبِّران عن رغبةٍ واضحةٍ في مقاومة الظلم والاحتجاج عليه بكلّ تلقائيّة.
كذلك انتزعت بعض النساء حقّهنّ بأيّام العطل، إذ أعرف عددًا لا بأس به من ربّات المنازل اللواتي لا يطبخن أيّام الأحاد، يوم عطلة؛ “دبّروا حالكن” أو “تعبانة اليوم”، هذا التعبير عن التعب والإرهاق، وانتزاع الحقّ برفض العمل، ولو ليومٍ واحدٍ أسبوعيًّا، هو في صلب النضال النسويّ الخارج من الداخل، من البيوت، ومن النساء أنفسهنّ.
المرأة الخارقة بالإكراه؟
إضافةً إلى ذلك، لعب خروج النساء إلى سوق العمل أيضًا دورًا بفرض واقعٍ جديد، لا تقدر فيه النساء على تحمّل الأعباء المنزليّة وحدهنّ. وهو ما صنع أرضيّة خصبة لخطاب ذكوريٍّ أيضًا، يدّعي أنّ مكان المرأة الطبيعيّ، هو المطبخ، وأنّها لا تستطيع الموازنة ما بين الاثنين. يُعمّق هذا الخطاب المشكلة ولا يواجه جذورها؛ وهي أنّ النساء يتحمّلن معظم، لا بل، كلّ الأعباء المنزليّة من الطبخ إلى الرعاية والتمريض والتنظيف والاهتمام بالأطفال. هذه الأعمال يستفيد منها جميع أفراد الأسرة، فلِمَ لا يتشاركون القيام بها؟ سؤالٌ بديهيّ، يبدو طرحه مُستهجنًا في مجتمع يشجّع الرجل على الزواج ليحصل على خادمة وممرّضة ومربّية أطفال في شخص واحدة ومن دون أجر.
لذا وجدتِ النساء العاملات أنفسهنّ في تحدٍّ يشعرهنَّ أنهنّ مُجبرات على خوضه: إثبات قدرتهنّ “الخارقة”. فمع انتشار عباراتٍ مثل “سوبّر وومن” أو “المرأة الخارقة” لوصف النساء العاملات اللواتي يقمن أيضًا بالأعمال المنزليّة والرعائيّة والطبخ وحدهنّ من دون مساعدة، يُصبح التعب الإنسانيّ الطبيعيّ أمام كلّ هذه المهام غير الواقعيّة وغير العادلة وكأنّه فعلُ استسلامٍ أو خسارة للتحدّي. وبالتالي، يكون خروج النساء من المنزل إلى سوق العمل، هو خروجٌ مشروط من النظام الرأسماليّ؛ عدم التعامل مع الأعمال المنزليّة كعمل، واستمرار النساء بتقديمه مجبرات إلى الرجل العامل كمكافأة مع تحمّل أعباءٍ إضافيّة هي العمل خارج المنزل أيضًا.
من النظام الأبويّ إلى الحبّ
كان غريب بالنسبة لي أن أفهم عمليّة الطبخ خارج النظام الأبويّ، وخارج إطار الأعمال المنزليّة غير المأجورة، لكنّ حُبّي لهذه العمليّة أجبرني على مواجهة الفكرة، ووجدتُني أُسائل هذا الحبّ أيضًا؛ هل هذه فعلًا طريقة من الطرق التي أعرف التعبير من خلالها عن حبّي؟ أم أنّها الطريقة التي علّمني إيّاها النظام، وأقنعني بأنّها ما تشبهني لأنّني امرأة؟
تذكّرتُ شيئًا واحدًا، محاولات أمّي تعلّم الطبخ من أجلي، لم تكن أمّي تعرف شيئًا عن الطبخ، لكنّها حاولت، بإرادةٍ نابعةٍ من حُبّها، أن تطبخ. لم تحاول لفّ ورق العنب أو نقر الكوسا، كانت تقول ببساطة إنّ هذه أكلات “صعبة عليها”، حاولَت بالمُتاح وبقدرتها، وبدأت بأمور بسيطة مثل “اللوبيا بزيت” ويخنة القرنبيط. لم تكن هذه أفضل الأكلات التي تذوقتُها من حيث الطعم، لكنّها كانت تحمل شيئًا أستطيع تمييزه، المحاولة من أجل الحُبّ.
أرى الطبخ/ إعداد الطعام أو الشراب كفعلٍ رعائيٍّ طوعيّ؛ عندما أتذكّر صديقتي في السكن المشترك التي كانت تُحضّر لي الحساء كلّما مرضت، وأتذكّر ترياق الزنجبيل والحامض الخاصّ بصديقي، أتذكّر طعم طبخة الأرزّ بالفول التي كان يُحضّرها صديقي لي بعد يومٍ طويلٍ ومُنهكٍ من العمل، أتذكّر شعور الراحة عند رؤية حَلّة الأرزّ بالفول على موقد الغاز، هذا الشعور الذي استحال امتنانًا مُتأخّرًا بعد الفقد.
طبختُ لكلّ مَن أُحبّهن وأحبّهم، لصديقاتي وأصدقائي وأحبّائي. طبختُ حاملةً معي شعورًا واحدًا هو الحبّ لا الإكراه. طبختُ لنفسي، عند الغضب والفرح والحاجة، مع مشاعر مختلطة من الامتنان، والراحة، والتفريغ، والعناية بالذات. طبختُ من خارج النظام الأبويّ، وعرفتُ الطبخ من بابه الأوسع: المشاعر. تصالحتُ مع هذه العمليّة السحريّة عبر أصدقائي وصديقاتي وتجربتي ونسويّتي.
طبختُ لكلّ مَن أُحبّهن وأحبّهم، لصديقاتي وأصدقائي وأحبّائي. طبختُ حاملةً معي شعورًا واحدًا هو الحبّ لا الإكراه.
الطبخ أمام الفقدان أيُعلّمنا الامتنان؟
كيف نتعامل مع الخسارات؟ بالتذكّر. ما هو الفقدان؟ فعل التذكّر. الامتنان؟ أن تتذكّري قبل أن تفقدي. جانبٌ من العطاء؟ قرار الرعاية والطبخ. ما علاقة كلّ هذا بعمليّة تحضير الطعام؟
أتذكّر صديقي يُعدّْ لي الزنجبيل والليمون أثناء مرضي، له طريقته الخاصّة بإعداده، لا يُقطّع الزنجبيل بل يدقّه في الجرن حتّى يُخرِج عُصارته. أمام الفقد؛ أُشاهد قلبي عن بُعد يُعصر كقطعة الزنجبيل. يُضيف الماء المغليّ إلى الزنجبيل والليمون، ويتركه منقوعًا مدّة حتّى يمتزج الطعم مع الحبّ. إنّها طريقته السرّيّة، التي جرّبتُها ولم أحصل على الطعم نفسه، فلا تُرهقوا أنفسكم بالتجربة. إنّه ترياق المرض، لا الزنجبيل والليمون نفسه، بل الحبّ، الحبّ والرعاية التي نضعهما أمام مَن نحبّهم ونحبّهن بملء قرارنا في العطاء.
كانت جدّتي تُعدّ لي طبخة الأرزّ بالفول أيضًا، ولم يُحضّرها أحدٌ كما فعلت، حتّى إنّني رفضت تذوّقها من غير يديها، إلى أن أعَدَّها هو، لم يُحضّرها كما تفعل جدّتي، كانت له طريقته الخاصّة مُجدّدًا، طريقته السحريّة، كان يمتلك سحرًا بتحويل أبسط طبخة، إلى منحوتةٍ فنّيّة لا تستطيعين نسيان طعمها إذا ما تذوقتيها يومًا. وهذا سرّ قرار العطاء بالطبخ.
أرزّ وفول
لا يضع فيها لحمًا، تخيّلوا، طبخة من مكوّنين فقط، أرزّ وفول، طعمها عالِقٌ في حلقي حتّى اليوم كالغَمّ؛ لِمَ الغَمّ؟ ما أشعر به الآن هو grief، وتُتَرجم هذه الكلمة إلى العربيّة بعدة كلمات أو معاني: جَزَع؛ حُزْنُ (أو غَمّ) شديد، كَمد، أسًى، ضيق، وهَم، وغالبًا ما ترتبط بالاستجابة العاطفيّة القويّة لفقدٍ كبير. كلّ هذا لأنّني لم أمتلك فرصة الامتنان، لم أتذكّر قبل أن أفقد.
يضع السحر في طبخة الأرزّ بالفول، والسحر هو هذا الشعور المُخصّص المُقدَّم لي منه، والذي ألمسه، عندما أتذوّق الطبخة التي أعدّها. شيءٌ أعجز عن وصفه، بينما يصفه هو بأبسط طبخة. أضحك أحيانًا عندما أحاول إبدال هذا السحر، ببضع عناصر غذائيّة موجودة في مسحوقٍ داخل علبٍ بلاستيكيّة مُحكمة الإغلاق تُباع بأسعار باهظة.
قد نرى للوهلة الأولى، الأعمال اليوميّة كالطبخ، خارج السياق السياسيّ والنضاليّ وبعيدةً كل البعد من النظام الذكوريّ، وربّما لا نُفكّر بتقاطعها مع مشاعرنا أو علاقاتنا الحميميّة مع أصدقائنا وصديقاتنا والنساء من حولنا. لكنّ نظرةً واحدةً أعمق إلى دواخلنا، وبعض التحليل السياسيّ، ستكشف لنا عن مغاراتٍ مُخبّأة من المفاجآت وتفتح الطريق نحو فهمٍ أعمق للأمور؛ نرى من خلاله الطبخ مثلًا، خارج النظام الأبويّ، ومن علاقاتنا.



