العيد.. من سيارة بربورة إلى كبيس اللفت
قبل العيد بعشرة أيام، تجوب مها السوق جيئةً وذهاباً، بحثاً عن أثواب جديدة لوحيدتها لين، التي لم تبلغ السادسة من عمرها بعد. ثوب تلبّسه للبنت حينما تزور مها بيت أهلها في العيد، وثوب آخر خاص لزيارة أهل زوجها. بينما تخبرنا حوراء أنها لن تشترِي لأولادها ثياباً هذا العيد، ولا حتى من محلات الثياب المستعملة، فالظروف خانقة، حدّ الغصّة.
أعادت الأزمة الاقتصادية في لبنان، ترسيم الطبقات، بحيث لم يعد بمقدور أحد التظاهر بما ليس عنده، فثلاث سنوات من الجلْد بسوط التفقير كفيلة بكشف المستور، وإسقاط ورقة التعفّف التي لطالما تغنّى بها سكان الطبقة الوسطى التي جرفتها الأزمة.
لكن، هل كان “الزمن الجميل” بالفعل جميلاً، أم هي الذاكرة التي تعيد رسم الذكريات بطريقة حميمة، وباهرة؟
فخذ لحم على غصن شجرة
مع الأستاذ غسان أبو جهجه سوف نرجع بالذاكرة إلى مرحلة الستينيات، حيث عايش العيد طفلاً في بلدته حانين (قضاء بنت جبيل)، ليخبرنا انهم كانوا يحتفلون ليوم واحد في العيد، لتعود الحياة إلى روتينها في اليوم التالي.
وقتذاك كانت ثياب العيد “خلعي” أي من البالة، وهو أمر لا بأس به حين يستطيع رب البيت شراء أثواب مستعملة لخمسة أولاد، أو سبعة، أو تسعة. حين كان يصادف شهر رمضان في فصل الشتاء، “كان أبي يشتري لنا جزمات جلدية ملونة، حمراء وخضراء، وصفراء، وبنّية، بينما لو جاء العيد صيفاً، لكانت الصنادل من نصيب اقدامنا”.
يتابع ابو جهجه: “في منطقة بنت جبيل كان السيد عبد الرؤوف فضل الله، مصدر طمأنينتنا لناحية تأكيد إعلان العيد. لم تكن هناك هواتف، ولا وسائل اعلام في البلدات، والأمر كان يعتمد على الزائر من خارج البلدة، الذي يأتي ومعه الخبر اليقين. هو دور كان يحققه شخص اسمه السيد محمد (من سكان بنت جبيل) وكان لحّاماً، فيتناول فخذ بقر ويأتي به إلى حانين، قاصداً بيت المختار ليخبره انه قد زار السيد عبد الرؤوف، وقد أخبره ان اليوم هو العيد، فيتم التنسيق مع أحد نواطير القرية، ليرفع الصوت من على سطح الجامع قائلاً: “يا سامعين الصوت، صلّو عالنبي، أوّلكم محمد، وتانيكم علي، وتالتكم فاطمة بنت النبي. عن السيد عبد الرؤوف فضل الله، ثبت أن اليوم عيد، تنعاد عليكم بالبركة”.
في منطقة بنت جبيل كان السيد عبد الرؤوف فضل الله، مصدر طمأنينة لناحية تأكيد إعلان العيد. لم تكن هناك هواتف، ولا وسائل اعلام في البلدات، والأمر كان يعتمد على الزائر من خارج البلدة، الذي يأتي ومعه الخبر اليقين
ثم يضيف “بعدها كان يقوم الزائر بتعليق الفخذ على غصن شجرة، ليأتي سكان البلدة إليه لشراء اللحم، فمنهم من يدفع نقداً، وأكثرهم يؤجل الدفع حتى يأتي موسم الحصاد، وهي عملية تجارية كانت سائدة في شتّى المجالات”. في حانين كانت هناك دكانة وحيدة، يقوم صاحبها بعرض “صدور” الحلوى، بشكل استثنائي، لتتضمن المشبّك، والنمّورة، والغريبة، والمرشوشة التي تشتهر بها بنت جبيل.
كان وجهاء القرية يجتمعون، ومن ضمنهم المختار، فيزورون جميع البيوت للمعايدة. كانت هناك صلاة عيد، لكن روّادها قلّة، يعدّون على الأصابع. لم يكن عندنا رجل دين من البلدة، بل هناك سيد يعتمر طربوشاً عليه لفّة، يلتزم حانين لناحية عقد الزيجات، والوفيات، والصلاة في أحيان أخرى، ومن ضمنها صلاة العيد. بينما تقول السيدة زُهرة صوفان عن المرحلة ذاتها: “صبيحة العيد، كانت أمي تعطينا مبلغاً صغيراً من المال، لنشتري عيدان بخّور، لنشعلها عند قبور الأقارب، فكّنا نقتطع من ذلك المبلغ جزءاً لنا، دون أن تعرف الوالدة، فنشتري “الموز المحزّز”، وهو نوع من السكاكر الشائعة آنذاك.
سيارة بربورة “الكشف”
“كنّا عشرة أولاد بالبيت. مع بيّي وأمّي، منصير طنعشر نفس. المرحوم بيّي استاذ مدرسي، يعني بمعاش استاذ بدنا نعيش كلنا. كان العيد فرحة للأولاد، لكن للوالد كان مأساة حقيقية. بالصيفية كانت المرحومة إمي تخيطلنا تياب العيد. شورت وقميص عالماشي. لكن بالشتا الأمر أصعب”. هذا ما يقوله الطبيب نظام ابراهيم عن العيد في النبطية في تلك الايام. ويخبرنا دكتور الأشعة ان العيد كان يقام على البيدر، (ساحة عاشوراء اليوم)، “هناك كانت تنصب الأراجيح، وتباع الألعاب، والمفرقعات. “كان الحاج قطيش يبيعنا الحلوى، ويؤجرنا الدراجات الهوائية. أما عباس بربورة فكان يمتلك سيارة كشف، يأخذ فيها الأطفال مشواراً من بيدر النبطية حتى مفرق زبدين، ويعيدنا لقاء مبلغ مالي موزّع على الجميع، بمعدل عشرة قروش على كل طفل. وقتذاك كنّا ننادي بصوت واحد: “يا ولاد الكوشي، يويا، عنّا جاروشي يويا”. عند آخر النهار، كانت الوالدة تسأل عمّا تبقّى في جيوبهم من مال العيدية، فتأخذه لوقت الحاجة في مناسبة ثانية”.
مفاقسة في طرفلسيه في خمسينيّات القرن الماضي
في بلدة طرفلسيه كان لباس العيد عبارة عن شروال، وحطّة وعقال، بينما أهم ألعاب الصبية في ذلك الوقت، فكانت “خميس البيض”، وهي شبيهة بعادة مفاقسة البيض في عيد الفصح عند المسيحيين. يخبرنا السيد حسن شلهوب ان العيدية كانت جزءاً رئيسياً من تفاصيل العيد، حيث يقوم الاولاد بجولات على الأقارب بغية الاستحصال على العيدية من الكبار، مثل الأعمام، والخؤولة، فكانت الهدايا تتراوح بين العشرة قروش، ونصف الليرة. أما حلوى العيد، فهي ذاتها في معظم القرى في تلك الايام: مشبك، ونمّورة، وغريبة.
فريسكو في حرش العيد
لكن إذا ما رجعنا بالزمن إلى الأربعينيات، فستخبرنا السيدة فوزية درويش، إبنة بلدة المجادل (قضاء صور) ان الكثير من عائلات البلدة قد دلفوا نحو بيروت، الغبيري على وجه التحديد، ناقلين معهم العادات ذاتها التي يحملونها مع إضافات لا بد منها، لطبيعة السكن والاختلاط بسكان المنطقة، حيث ان أغلب عائلات الغبيري يحتفلون بالعيد في حرش بيروت، حتى سمّي بـ “حرش العيد”. هناك كانت الطفلة فوزية تشتري الفريسكو من البائع الذي يبرش الثلج على ورقة من لوح كبير، ليضيف عليه نكهة التوت، أو الفريز، على أن تُلتَهَم من على الورقة. كذلك كان ينتشر باعة الكبيس في زحمة العيد، فيقدمون المخلّلات في أوراق، ليأكلها الصغار بفرح عارم، خاصة اللفت المصطبغ بحمرة الشمندر.
اكتسب العيد قيمته، وبهجته في تلك الأيام، لشدّة الفقر، فكان موعداً لاستثناء حقيقي، تُذاق فيه الحلوى، وتُشترى فيه الألعاب، وتُنصَب فيه الأراجيح، وتُلبَس فيه الثياب الجديدة، حتى لو كانت من البالة.