فنان “الغرافيتي” بانكسي يحوّل “جدار العار” صفحة لقضية فلسطين
بداية، ينبغي القول: إنّ الكتابة على الجدران أو ما يسمّى غرافيتي Graffiti، الكلمة المشتقّة من اللاتينيّة Graphium (القلم)، هي عبارة عن نقش أو رسم تمّ تنفيذه بطريقة غير مشروعة في الفضاء العام، على جدار، أو نصب تذكاريّ، أو وسائل النقل العام، أو المراحيض العامّة، وما إلى ذلك.
ويمكن اعتبار الغرافيتي شكلاً من أشكال التعبير العفويّ، وأحيانًا شكلاً من أشكال الفنّ، كما يُعتبر، في الوقت نفسه، عملاً شبه تخريبيّ (ضمن حدود معيّنة)، إضافة إلى كونه غير قانونيّ في معظم البلدان. هذا، وقد عرف الغرافيتي منذ العصور القديمة، ويمكن استخدام العديد من الأدوات من أجل تنفيذه كالفحم، والفرشاة، والطباشير، ومن ثم عبوات الرشّ منذ اختراعها في الستينيّات، التي تُصدر رذاذ الطلاء بألوان عديدة.
مواجهة “جدار العار” بالغرافيتي
لقد كان الجدار العازل الإسرائيليّ، الفاصل ما بين الكيان الصهيونيّ والضفّة الغربيّة المحتلّة، منذ بداية بنائه في العام 2005، مكاناً للتعبير المتعدّد الأوجه، والذي له خصوصيّاته. فقد تمّت تغطيته في البداية بالشعارات، ولكن سرعان ما أصبحت صفحته مساحة للأعمال الفنّيّة ذات المزايا المختلفة، الموزّعة بين كتابات على الجدران ورسوم وملصقات وسواها. بعض هذه الأعمال تمّ تنفيذها من قبل فنّانين مشهورين، من ضمنها ملصقات للمصوّر جيه آر، ولوحات جداريّة لفنّان الشارع الإنجليزيّ بانكسي، ولوحات للغرافيتي كانا، الذي يعمل أيضًا في مخيّمات اللاجئين الفلسطينيّين.
يطلق معارضو الجدار، ومن ضمنهم الحركات الإسرائيليّة اليساريّة، على البناء اسم “جدار العار” (تماثلاً بجدار برلين) أو “جدار الضمّ”. ويطلق عليه بعضهم أيضًا اسم “جدار الفصل العنصريّ”، تيمناً بنظام الفصل العنصري الذي أُلغي في يونيو/حزيران 1991 في جنوب أفريقيا.
من ناحيته يعترض البروفيسور جيرالد م. شتاينبرغ، عالم السياسة والباحث الإسرائيليّ، على هذه المفردات التي يستخدمها منتقدو الجدار، والتي تعتبر، بحسب رأيه، استراتيجيّة شيطنة. خصوم آخرون من الوسط الإسرائيليّ يقلّلون من أهمّيّة التعبير على “الجدار”، الذي تسمّيه وسائل الإعلام الإسرئيليّة الجدار “الأمنيّ”. ولكنّ كثيراً ما يشير إليه الفلسطينيّون (بما في ذلك وسائل الإعلام التابعة للسلطة الفلسطينيّة) باللغة العربيّة باسم “جدار الفصل العنصريّ”، كما ورد أعلاه.
بانكسي فنّان الغرافيتي
أمّا بانكسي فهو فنّان شوارع إنجليزيّ، ومخرج سينمائيّ وأيضاً ناشط سياسيّ. يخفي بانكسي هويّته عن الجمهور. (يُستخدم تعبير “فنّان شارع” للدلالة على تلك الفئة من الفنّانين الذين يعتبرون الشارع مكاناً مفضّلاً لأعمالهم، بحيث تكون متاحة للجميع). يستخدم معظم الناس مصطلح “مجهول” عند الإشارة إلى بانكسي، ولا شك في أنّه يبغي هذا الشيء في قرارة نفسه، إستناداً إلى سعيه لإحاطة شخصيّته بالألغاز والتساؤلات التي تثير فضولاً، أحياناً، أكثر ممّا تثيره “البهورة” الإعلاميّة.
يطلق معارضو الجدار، ومن ضمنهم الحركات الإسرائيليّة اليساريّة، على البناء اسم “جدار العار” (تماثلاً بجدار برلين) أو “جدار الضمّ”. ويطلق عليه بعضهم أيضًا اسم “جدار الفصل العنصريّ”، تيمناً بنظام الفصل العنصري الذي أُلغي في يونيو/حزيران 1991 في جنوب أفريقيا.
أراد بانكسي أن تبقى ملامحه مجهولة للعموم، وما تسرّب عنها يرتكز إلى صور التقطتها كاميرات مراقبة مزروعة في أماكن عامّة. أمّا عن مسقط رأسه فيُقال إنّه من نواحي منطقة ستوك أون ترنت في المملكة المتّحدة، وإنّه من مواليد العام 1974، أمّا اسمه الحقيقيّ فقد يكون روبرت بانكس، أو روبن غونينهايم، ويبدو أنّ هويّته تمّ اكتشافها في العام 2016، إستناداً إلى تحقيقات مُحدّدة، من دون أن يكون الأمر مثبتاً في شكل قاطع.
استخدم بانكسي فنّ الشارع الساخر للتعبير عن رأيه والتعليق على الأحداث السياسية في العالم. وبطريقة ما، كان يحاول الإطاحة بـ”الرجال الكبار المسؤولين”، في ما يشبه نظريّة فنّيّة تتوافق مع حرب العصابات، لذا فإنّ عبارة “Guerilla Graffiti” تناسبه جيّدًا. بدأ حياته المهنيّة كفنّان حرّ في العام 1990، واكتشف الطباعة بالاستنسل في العام 2000، وهو ما يُشتهر به بشكل رئيسيّ اليوم. وفي تلك السنوات العشر من بداية الألفيّة الثانية، بدأ عمله يحمل نغمات متشابهة ومقاربات معيّنة، إستناداً إلى أسلوب خاص صار معروفاً عنه.
بانكسي في فلسطين
زار بانكسي فلسطين المحتلّة للمرّة الأولى في العام 2005. خلال إقامته هناك، قام بتنفيذ مجموعة من الأعمال الفنّيّة لجذب انتباه العالم إلى بناء الجدار العازل. ويعتقد بانكسي، كما العديد من الناشطين الآخرين، أنّ هذا الجدار، الذي يبلغ طوله 425 ميلاً، وتعتبره الأمم المتّحدة غير قانونيّ، قد حوّل فلسطين إلى “أكبر سجن مفتوح في العالم”. وبعد زيارته، وصف عمله على الجدار العازل بأنّه “وجهة الرحلات المثاليّة لفنّاني الغرافيتي”. كما وصف الجدار بأنّه أشبه بلوحة قماشيّة، لكنّها مصنوعة من الإسمنت. ودعا بانكسي فنّاني الغرافيتي العالميّين الآخرين لزيارة فلسطين والرسم على هذا الجدار.
في خلال رحلته تلك، قام بتنفيذ تسعة أعمال مميّزة في جميع أنحاء الضفّة الغربيّة، وعلى الجدار الفاصل المعروف. بعض هذه الأعمال– الرسوم المونوكروميّة (لكونها تقتصر على الأسود والأبيض والرمادي، إضافة إلى الأحمر في بعض المواقع) هي: “الغضب- قاذف الزهور”، وهي اللوحة الجداريّة الأكثر شعبيّة وشهرة التي نفّذها بانكسي في فلسطين. تُظهر الصورة رجلاً مجهّزاً بمعدّات مكافحة الشغب التقليديّة، ويبدو أنّه من الصعب التعرّف على وجهه الملثّم مع القبّعة التي على رأسه. تمّ رسم يد الرجل بطريقة تجعله يبدو وكأنّه يصوّب ويستعدّ لرمي قنبلة، ولكن بدلاً من هذه القنبلة اليدويّة يحمل باقة زهور ملوّنة ترمز إلى السلام، ويستعدّ لقذفها.
عمل آخر تحت مسمّى: “فتاة البالون الطائرة”، يُعتبر بدوره من الأعمال ذات الشهرة الواسعة، وتظهر فيه فتاة صغيرة تحملها البالونات إلى الجوّ. ومن الظاهر أنّ وضعيّة الفتاة تجعلنا نفترض أنّها تطفو بعيدًا بملء إرادتها إلى أجواء الحرّيّة، بعيدًا من الدمار والقتال الذي ابتليت به الضفّة الغربيّة منذ أكثر من سبعة عقود.
“وثائق الحمير” أكبر الجداريات
زار بانكسي بيت لحم مرّة أخرى في العام 2007، وقام بتنفيذ عدد من الأعمال الفنية، كان أكثرها شهرة في تلك المجموعة عمله “Girl Frisking Soldier”. وفيه تظهر فتاة صغيرة وجندي وهما يتبادلان الأدوار فهي التي تقوم بتفتيشه، على خلاف ما يحدث عادة في المناطق المحتلّة، حيث يقوم الجيش الإسرائيليّ بتفتيش المارّة. وكما هو الحال في “فتاة البالون الطائر”، فإنّ الفنّان يعمد إلى رسم فتاة صغيرة كرمز إلى فقدان البراءة لدى الأطفال الفلسطينيّين.
جداريّة أخرى رسمها بانكسي في بيت لحم وتعتبر من الأكثر طرافة وهي “وثائق الحمير”، وفيها يظهر حمارًا يتمّ تفتيشه من قبل جندي إسرائيليّ. هذه القطعة هي من أكبر وأهمّ الجداريّات، بحسب بعض من زاروا فلسطين وشاهدوا تلك الجدارية. وقد تمّت إزالتها في وقت لاحق وعُرضت في مزاد “جوليان” العلنيّ.
لم تبقَ أعمال بانكسي من دون ردود فعل، فقد تلقى انتقادات عنيفة من العديد من الإسرائيليّين، خصوصاً أحزاب اليمين المتطرّف، ووجّهت إليه التهمة المعتادة الجاهزة دائماً، والتي صارت محطّ سخرية لدى الكثيرين، بكونه معاديًا للساميّة. إنتقدت باتيا عوفر، زوجة الملياردير الإسرائيليّ البريطانيّ إيدان عوفر، الملصق علنًا. لكن هذا الأمر لم يتسبّب بأيّ انزعاج لبانكسي، إذ اعتاد على هذه الإتّهامات التي لا يعيرها اهتماماً.
وبينما ينظر البعض إلى الكتابة على الجدران على أنّها عمل من أعمال التخريب، نجح بانكسي في تحويل أعماله إلى قطع فنّيّة رفيعة، استطاعت جذب انتباه العالم إلى القضايا التي يؤمن بها، واستطاع، في الوقت نفسه، الحفاظ على سرّية هويّته، بالرغم من كلّ التكهّنات المحيطة بهذه المسألة.
تصويب التحريف المعادي
من خلال فنّ الشارع الذي رسمه بانكسي على الجدار الفاصل في الضفّة الغربيّة، قام العديد من الناس بزيارة فلسطين من أجل رؤية الحقيقة بأمّ أعينهم. والحقيقة أن شعوباً كثيرة حول العالم، لا تعلم الكثير عن فلسطين، والمعلومات القليلة التي ترد إليها غالباً ما تكون محرّفة في اتّجاه واحد، وتضفي على الفلسطينيّين سمعة سيئة (وهو ما نشهده في هذه الأيام بالذات من أخبار مغلوطة يضجّ بها الإعلام الغربيّ).
نجح بانكسي في تحويل أعماله إلى قطع فنّيّة رفيعة، استطاعت جذب انتباه العالم إلى القضايا التي يؤمن بها، واستطاع، في الوقت نفسه، الحفاظ على سرّية هويّته، بالرغم من كلّ التكهّنات المحيطة بهذه المسألة.
جذبت أعمال بانكسي أعدادًا كبيرة من الزوّار من جميع أنحاء العالم، ما جعل الفلسطينيّين فرحين بذلك، خصوصاً أن بانكسي لم يكتفِ بالفن فقط، إذ افتتح في العام 2017، فندق “The Walled Off”، الذي تمّ بناؤه بجوار الجدار العازل، الذي يقول بانكسي إنّه يطل على “أسوأ منظر في العالم” (المقصود الجدار العازل).
اكتسب الفندق قوّة جذب أكبر ممّا كان متوقّعًا، إذ أدّى إلى قدوم ما يزيد على 140 ألف زائر إلى فلسطين، وربّما لم يكن هؤلاء ليذهبوا إلى هناك لولا بانكسي. لقد أصبح الفندق بمثابة عامل محفّز للسياحة في فلسطين، وصار الناس الآن قادرين على رؤية المعاني المختبئة خلف الجدار، كما تولّدت لديهم رغبة بمعرفة تاريخ فلسطين، والاستماع إلى قصص السكّان، وتذوّق الطعام التقليديّ.
لقد أصبح بانكسي مصدر إلهام للعديد من الشباب الفلسطينيّ في جميع أنحاء العالم. يقول أحد الشبّان الفلسطينيّين من سكّان الضفة الغربية: “أتذكّر، حين كنت طفلاً، كنت أرى عمله، وكان لديّ ذاك الشعور الساحق بالقوّة والفخر. شيء ما ترك أثراً في كيفيّة رؤيتي للعالم.
لقد كان فنّ بانكسي يتمتّع – ولا يزال- بقدرة مذهلة على الوصول إلى ملايين الأشخاص من خلال إبداعه، وقد استخدم هذا التأثير لمساعدة فلسطين، وهو أمر أعتقد أنّ جميع الفلسطينيّين يجب أن يكونوا ممتنّين له”.