الغواص محمد السارجي واكتشافاته المذهلة في أعماق البحر اللبناني
“البحر بلبنان كان للمجرور والزبالة بس”. بهذه العبارة يفتتح نقيب الغوّاصين المحترفين في لبنان محمّد السارجي، ومؤسّس معهد صيدون لتدريب المدرّبين حديثه عن تجربته الرائدة، من الألف إلى الياء. من ألف الشغف في عالم البحار، الذي دفعه لترك دراسة الطبّ، إلى ياء الفساد والنهب الذي لم يقتصر على اليابسة فقط، بل انتقل هذا التلوث البشريّ إلى أعمق نقطة يستطيع الانحلال اللبنانيّ الوصول إليها.
إنّه صاحب رحلة طويلة ومتنوّعة، امتدّت من حارة صيدا، إلى أميركا وأسبانيا ثمّ بيروت. ومن دراسة الطبّ إلى الإخراج السينمائيّ، ومنهما إلى الغطس في أعماق بحر لبنان، من أقصاه إلى أقصاه، ليكتشف كنوزه المخبّأة وجماله المدفون وكذلك الجرائم البيئيّة المرتكبة بحقّه.
من بحر صيدا إلى شواطئ فلوريدا
تتّخذ قصّة حياة الغوّاص محمّد السارجي مسارًا ملهمًا يجمع بين شغف الطفل المشّاء مسافات طويلة من حارة صيدا إلى شاطئها، وبين إصراره على اكتشاف عالم البحر الغامض، إذ لم يكن سهلًا على طفل يُؤنّب من أهله في كلّ مرة يذهب فيها سيرًا إلى شاطئ مدينة صيدا، في زمن لم تكن فيها المواصلات مؤمّنة وسهلة مثل أيّامنا هذه، أن يبقى محافظًا على مستوى مرتفع من الشغف اتّجاه البحر. لكنّ إصراره وعشقه لهذا الغامض الواسع لم يكن يقتصر على السباحة فحسب، بل جعلاه متمسّكًا بحلمه، في أن يكتشف هذا “اللغز” الغريب عنه.
تعود به الذكريات إلى أيّام طفولته، حيث كان يجد نفسه يتجاوز التحدّيات المفروضة عليه من قبل أهله، وقد كانوا يخافون عليه من خطر البحر، بسبب سمعته السيّئة في أنّه غدّار، ويرفضون رغبته في استكمال رحلته المشوّقة نحو الساحل. يعود السارجي إلى تلك الفترة قائلاً: “كلّ عمري وأنا طفل هوايتي البحر وعشقي البحر”.
ويضيف: “عشقي وحبي للبحر نابعان من متابعتي لمسلسل أميركي مشهور جدًّا في فترة الستّينيّات يُدعى “سي هانت” Sea Hunt (1958 – 1961) بطولة الممثّل الأميركيّ “لويد بريدجز”، وكان أوّل مسلسل في العالم يصوَّر تحت الماء في فلوريدا، ما بدّل مفهوم الناس تجاه البحر بشكل إيجابيّ”.
بالرغم من أنّ حبّه للبحر كان واضحًا وقويًّا، إلّا أنّه واجه تحدّيات جديدة عندما انفصل عن حبيبته، التي دفعت به لأن يغلق كتب الطبّ إلى الأبد، ويفتح فصلًا جديدًا، هو عالم الغوص.
يقول مستذكرًا تلك الحادثة بمشاعر مختلطة بين الفرح والحنين: “درست الطبّ في أميركا، ثمّ انتقلت منها إلى إسبانيا لأكمل دراستي هناك. في يوم من الأيّام تركتني حبيبتي بشكل مفاجئ. وكانت هذه هي القشة التي قسمت ظهر البعير. أغلقت الكتب وأغلقت معها هذا الفصل من حياتي. عدت إلى أميركا في أواخر السبعينيّات، وبدأت دراسة الإخراج السينمائيّ”.
محمد السارجي: عشقي وحبي للبحر نابعان من متابعتي لمسلسل أميركي مشهور جدًّا في فترة الستّينيّات يُدعى “سي هانت” (1958 – 1961) بطولة الممثّل الأميركيّ “لويد بريدجز”، وكان أوّل مسلسل في العالم يصوَّر تحت الماء في فلوريدا، ما بدّل مفهوم الناس تجاه البحر بشكل إيجابيّ.
ويؤكّد أنّه بدأ هواية الغطس فعليًّا في سان فرانسيسكو في الثمانينيّات. ثمّ أسّس مع شقيقه شركة إنتاج، حيث كانا من أوائل الأشخاص الذين قاموا بالتصوير تحت الماء”.
صيدون ويرموتا الغارقتان في الماء
بعد عودته من أميركا، أسّس السارجي “معهد صيدون للغوص” في حارة صيدا (جارة المدينة)، ومن خلاله سجّل غوّاصو المعهد اكتشافات مذهلة في أعماق البحر اللبنانيّ، تحديداً في ما يتعلّق بمدن أثريّة غارقة. تبرز من بين هذه الاكتشافات مدينتا “صيدون” و”يرموتا”، وقدّموا أدلّة قاطعة من خلال الصور والأفلام المصوّرة تحت الماء، تسلّط الضوء على هاتين المدينتين الأثريّتين.
يقول السارجي: “كان لدينا اندفاع مهمّ بالكشف عن مدينتين أثريّتين هامّتين هما: صيدون ويرموتا، وتمكّنا أيضًا من رصد عدّة سفن غارقة، بالإضافة إلى اكتشاف آبار مياه كبريتيّة نادرة في البحر اللبنانيّ، وكذلك ينابيع مياه حلوة”.
ويضيف: “لقد تركت هذه الاكتشافات الرائعة للماضي النائم في أحضان الماء في العام 2001، بصمة مهمّة لا تُقدّر بثمن على الساحة اللبنانيّة والعربيّة والعالميّة. ومن ثمّ تبلور هذا الأثر العظيم بخطوة مهمّة أخرى لاستكمال هذا السفر نحو الماضي، كانت من خلال تحقيق حلم إنشاء حديقة صيدون تحت الماء في العام 2018، وقد تمّ تحقيقها بالتعاون مع الجيش اللبنانيّ الذي بذل جهودًا حثيثة في هذا السبيل”.
ويلفت السارجي إلى مساهمات وتبرّعات لعبت دورًا إيجابيًّا ومهمًّا في تحقيق حلم الحديقة، من قبل “جمعيّة الطيّارين”، التي قدّمت طائرات صغيرة، والدكتور مازن البساط الذي قدّم طائرته الخاصّة الكبيرة “بساط الريح”، إلى جانب هبة خاصّة من جمعيّة روتاري.
يؤكّد السارجي: “أنّ هذه الحديقة تعتبر أكبر حديقة تحت الماء في البحر الأبيض المتوسّط، وتظلّ حتى يومنا هذا رمزًا للابتكار والإنجاز. لقد جذبت انتباه الصحافيّ العالميّ الشهير “بوب ويدورد” وابنه، اللذين قاما بإنتاج حلقة خاصّة حول هذه الحديقة لصالح شركة ديزني”.
“حرّاس المتوسّط”
عندما كان يتعلّق الأمر بحماية بيئتنا البحريّة، كان لبنان مثالًا ونموذجًا رائدًا يستحقّ التقدير. ظهر لبنان كدولة رائدة في تنظيف النفط الغارق في مياه بحره، خصوصًا بعد الإعتداءات الإسرائيليّة على الحدود البحريّة اللبنانيّة. كانت مناطق جونية وجبيل والجيّة والرملة البيضاء تشهد تراكمًا ملحوظًا من التلوّث النفطيّ، وكان على أكثر من 50 صيّادًا وغوّاصًا محترفًا وخبيرًا التطوّع لتنظيف هذه المناطق، سواء على الشاطئ أو تحت الماء.
ونتيجة لهذا الإنجاز، حصلت الجمعيّة على لقب “حراس المتوسّط”، إذ تمّ تكليفها بمراقبة أيّ حالة تلوّث نفطيّ في المنطقة، وتنفيذ عمليّات المسح اللازمة. هذه التجربة الرائدة تحوّلت إلى كتاب تمّت ترجمته إلى ثلاث لغات مختلفة، إلّا أنّ الجمعيّة لم تقم بنشره.
في حديثه، يُشير السارجي إلى تأسيس جمعيّة “بحر لبنان” في العام 1992 بالتعاون مع رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، “الذي كان يعتبر البحر جزءًا مهمًّا من هوّيّته. وتمثّلت أهداف الجمعيّة في تعزيز الوعي بأهمّيّة الحفاظ على بيئة البحر والمساهمة في تطوير حلول فعّالة لمكافحة التلوث؛ كما كانت تسعى للحفاظ على تنوّع الحياة البحريّة والساحليّة، وتعزيز إدارة فعّالة للمناطق الساحليّة”.
ذهب لبنان الأصفر
فقدت سواحل لبنان الأمجاد الطبيعيّة المعتادة، حينما أصبحت الشواطئ الذهبيّة ورمالها البيضاء محطّة لسرقة غير مسبوقة. إنّها الرمال، العنصر الأساسي في نظام البيئة الساحليّة، أصبحت ضحيّة لعمليّات السرقة المستمرّة.
تأسيس جمعيّة “بحر لبنان” في العام 1992 بالتعاون مع رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، الذي كان يعتبر البحر جزءًا مهمًّا من هوّيّته. وتمثّلت أهداف الجمعيّة في تعزيز الوعي بأهمّيّة الحفاظ على بيئة البحر.
“لقد نهب هذا النشاط غير الأخلاقيّ حيّزًا كبيرًا من البحر، مشكّلًا تهديدًا خطيرًا على البيئة البحريّة والسواحل اللبنانيّة. وسبّبت عمليّات السرقة تدمير النظام البيئيّ الساحليّ وتأثيرًا سلبيًّا على التنوّع البيولوجيّ وحياة الأنواع البحريّة” يقول السارجي.
جمهورية الإحباط والنفايات
“وضع البلد أحبَطني كثيرًا. بذلنا كلّ جهد مستطاع كلّ هذه السنوات من أجل بلد نظيف ومستقبل بيئيّ صحّيّ. وبدلًا من جبل الزبالة في صيدا أصبح هناك جبلين، وبدلًا من مجرور واحد لمياه الصرف الصحّيّ، بات هناك أربع إلى خمس مجارير موجّهة إلى البحر في مدينة صيدا” يردّد “النقيب” السارجي هذه العبارات بألم مختزن لم يقدر وجهه على إخفائه.
ويتابع: “الجمهوريّة اللبنانيّة بمختلف أركانها، تعمل دائمًا ضدّ مصلحة مواطنيها، ولكن الذي تغيّر الآن هم الناس. الناس ملّت وأحبطت. ملّوا حتى أصبحنا كائنات عاجزة، لدرجة أنّ البلد أضحى مكبًّا ضخمًا للنفايات بحجم 10452 كيلومترًا مربّعًا، والشعب لا يسأل وغير مهتّم”.
تعد الوثائقيّات، وتحديدًا عندما تكون موجّهة نحو البيئة، وسيلة قويّة لنقل الرسائل والقضايا البيئية بشكل هام، إذ إنّها تعزّز الثقافة البيئيّة. “ومع ذلك، يظهر عدم التقدير لهذه الأعمال في ضآلة الاهتمام العام، والدعم للمبادرات الفنّيّة والوثائقيّة التي تسلّط الضوء على التحدّيات البيئيّة، وحاجتنا الملحّة للحفاظ على البيئة، وتحديدًا في الإعلام اللبنانيّ، الذي لا مانع لديه من صرف أموال طائلة على برامج النعرات الطائفيّة، ولكن عندما يأتي الدور للبرامج المهمّة تُغلق حنفيّة الأموال” بحسب السارجي.
أنتج محمّد السارجي من خلال شركة الإنتاج الخاصّة به والمتخصّصة في إنتاج الوثائقيّات، مسلسل “عالم بحر المتوسّط”، وفاز في السعوديّة بجائرة المرتبة الثانية عن فيلم البيئة البحريّة في لبنان.
صورّ السارجي فيلمين لجمعيّة “الخط الاخضر”، الأول بعنوان “السلاحف البحريّة: النداء الأخير”، والذي فاز بجائزة الذهبيّة في تونس، في المهرجان السينمائيّ، كذلك ترك أثرًا كبيرًا في فرنسا، لأنّه يتناول معاناة السلاحف البحريّة في لبنان. وقام أيضًا بإنتاج فيلم ثانٍ بعنوان: “لمن يهمّه الرمل” لصالح جمعيّة الخط الأخضر، وحصد الجائزة الفضّيّة في تونس.
كذلك أجرى العديد من الأفلام عن التلوّث البحريّ وتفجير الديناميت، ونال فيلم الصيد بالديناميت الجائزة الثانية في مهرجان “أنا بيروت”.