“الفقر تحت الكنباية” لرالف حدّاد كوميديا سوداء بلمسةٍ زحليّة
من على خشبة مسرح بيريت بجامعة القدّيس يوسف في بيروت قدّم المخرج والممثل اللبنانيّ رالف حدّاد عرض مسرحيّته الأولى “الفقر تحت الكنباية” مساء السّبت 24 شباط/فبراير الفائت.
عملٌ واقعيٌّ من كتابته وإخراجه يدرجه تحت وصف الكوميديا السوداء، وهنا ألتفتُ إلى الإقبال المتزايد على هذا النوع من الكوميديا صناعةً ومشاهدةً في الوسط اللبنانيّ، ولا يخفى ما في هذا من إشارةٍ إلى الواقع السّوداويّ الذي يعيشه اللبنانيّون ويواكبه المشهد الفنّي، وإن كنت أحبّ أن أصف مسرحيّة حدّاد هذه بأنّها كوميديا داكنة، تمييزًا لها عن نمطٍ حادٍّ من الكوميديا– ربّما أصفه بالكوميديا الحالكة- يُغرق صنّاعها المشهد اللبنانيّ بلافتاتٍ مباشرة تتعمّد إثارة الحفيظة والجدل، وكليشّيهاتٍ توظّف التفاوتات الطائفيّة والمناطقيّة لصناعة “الساركازم” العبثيّ في معظم الأحيان.
حبكةً بسيطةً ممتعة
يتّخذ رالف حدّاد اتّجاهًا مغايرًا وربّما محافظًا أكثر، فيختار الواقعيّة الكلاسيكيّة قالبًا ليقدّم قصّةً قصيرة مترابطة لا تدور حول بطلٍ أوحد بل تعتمد الثنائيّات؛ سارقان أحدهما مستجدٌّ يدعى “فراس” أدّى دوره ببراعة جان بول سيف والثاني محترف لقبه “أبو راس” أدّى دوره رالف حدّاد نفسه، وشرطيّان (شربل مهنّا وجاد عثمان) أحدهما ضابط.
يبتعدُ النّصُّ مسافةً عن التعقيد والسّخرية والتنميط والبذاءة والنكات الحسّاسة، فيبدو موجّهًا لجمهور مفتوحٍ متنوّع، وبذات القدر يبتعد عن التهريج لصالح كوميديا الموقف. نصٌّ ذكيٌّ خفيفٌ يعتمد حبكةً بسيطةً وممتعة، قدّمه ممثّلون موهوبون وظرفاء بإخلاصٍ وبلا استسهال، إنّما بلكنةٍ زحليّة مخفّفة لا افتعال فيها، أضافت للمسرحيّة لمسةً عفويّة.
ولستُ هنا في معرض المقارنة ولا المفاضلة بين أشكال من الكوميديا السوداء، ولا أدّعي أنّني مؤهّلٌ لذلك، ولكن لأقول إنّني وجدتُ في عمل رالف حدّاد كوميديا مغايرة كأنّها من روح مسرح ما قبل الحرب الأهليّة اللبنانيّة، تلامسُ الواقع دون الخوض في التفاصيل والأسماء، وتعالج اليوميَّ المعاش من منطلقٍ فنيٍّ يلمّح ولا يصرّح، لذا أتناولها في هذه العجالة محاولًا قدر الإمكان ألّا أحرق حبكتها عسى أن تحظى بعروضٍ أخرى.
ديكور واحد لمسرحيّة من فصلٍ واحد، تتخلّله فواصل موسيقيّة قصيرة تنطفئ خلالها الإضاءة البسيطة التي كان يمكن توظيفها أكثر. تدور الأحداث في منزل يلتقي فيه السارقان بالصدفة، حيث يسلّط الحوار والتفاعل بينهما الضوء على الأزمات التي سحقت المجتمع اللبنانيّ في السنوات الأخيرة، فيما يمثّل الشرطيّان السلطة باهترائها وفسادها وعلاقتها الملتبسة بنفسها وبمجتمعها.
يبتعدُ النّصُّ مسافةً عن التعقيد والسّخرية والتنميط والبذاءة والنكات الحسّاسة، فيبدو موجّهًا لجمهور مفتوحٍ متنوّع، وبذات القدر يبتعد عن التهريج لصالح كوميديا الموقف. نصٌّ ذكيٌّ خفيفٌ يعتمد حبكةً بسيطةً وممتعة.
في ما وراء النّص
تعتمر كلُّ الشخصيات قبّعات مختلفة وتتمايز أزياء السارقَين، فبينما يرتدي “أبو راس” قبعة وملابس توحي أنّه ثريّ، تدلُّ ملابس وقبّعة “فراس” على شخصيّة خجولة من درجة اجتماعيّة أدنى، وهذا ما نكتشفه أكثر مع الوقت، فنرى اتّساق أزياء كلّ شخصيّة مع صفاتها، فيما تذكّرُ أزياء الشرطيَّين بأزياء الشرطة في الأفلام الصامتة، وهو ما تذكّر به أيضًا حركة الممثلين (أو مطارداتهم) في المشاهد الصامتة التي ترافقها مقطوعات من الموسيقى الكلاسيكيّة، فتبدو مستوحاة من هوية هذه الأفلام. على مدى ساعة من الزمن، يتحرّك الممثلون على مساحة الخشبة كاملة ويوظّف السيناريو جميع الأدوات الموجودة من المقاعد والهاتف إلى المكتبة والأبواب والنوافذ وغيرها.
في ما وراء النّص يتعمّد رالف حدّاد الإخلال بلعبة “شرطة حراميّة” التي صنعها، الجميع لصوص والجميع سيّئون بدرجات متفاوتة، “فراس” و”أبو راس” دخلا يسرقان منزل “رامي”؛ تاجر مخدّرات وقوّاد، “سالي” شخصيّة افتراضيّة نسمع صوتها فقط؛ واحدة من البنات اللاتي وقعن في فخّ رامي، تصل الشرطة بعد أحداث متلاحقة، يدخل الشّرطيُّ ليفتّش الثلّاجة قبل تفتيش البيت، لأنَّ “المعاش صار 50 دولارًا والضابط حين يكتشف الأمر يأخذ الطّعام لنفسه “لأنّ وضعنا مش أحسن”.
من هنا طرق رالف حدّاد باب الكوميديا السوداء، حيث الجميع “أشرار مضحكون” وكلٌّ لديه مبرّراته، وبالحديث عن المبرّرات فإنًّ ظهور “سالي” وإن كان مبرّرًا في السياق، فقد كان يمكن أن يكون مؤثّرًا ومقنعًا أكثر لو رأينا شخصيّتها على المسرح، خصوصًا أنّ النّص يحتمل شخصيّة إضافيّة تضيف بعدًا مختلفًا للقصّة، فالحوار الذي دار بينها وبين أبو راس خارج المنزل ولم يره المشاهد، كان يمكن أن يتمّ على الخشبة، حتّى خطر لي أنّه قد يكون مشهدًا محذوفًا من السيناريو لدواعٍ لا نعرفها.
على العموم، يخرج المشاهد من مسرحيّة “الفقر تحت الكنباية” راضيًا عن الساعة التي قضاها على المقعد ومنفتحًا لمشاهدة أعمال أخرى لرالف، رالف الفائز أخيرًا بجوائز أوروبّيّة في فرنسا وإسبانيا كممثّل عن دوره في فيلمه القصير (كتابة وإخراج وتمثيل) “الحروب لا تنتهي”، نجح مع فريق متناغمٍ من الممثّلين والمعدّين الشباب في تقديم مسرحيّة جميلة ومعبّرة بأمانة عن الواقع، هكذا يتبلورُ بروفايل فنّان مثقّف متنوّع وصاحب مشروع، يخطو خطواته الأولى بحذرٍ وذكاء بين السينما والمسرح، عالمان متباعدان متقاربان وطريق يعرف أنّها لن تكون سهلة ولا معبّدة، خصوصًا أنّه اختار في المجالين أن يحاور الواقع اللبنانيّ، حوارَ الجيل الأوّل بعد الحرب، الجيل الذي حمل أوزار السّابقين ومسؤوليّة محوها من وعيٍ اللاحقين، جيلٌ يحبُّ النّكش في الذاكرة وطرح الأسئلة والتّشكيك في الموروث، كما لا يمكن لمن ورث الحرب أن يكون مطمئنًّا.