القاضي النزيه والشعب الذي يحارب “خياله”
حسين حمية
اغتبط اللبنانيون كثيرا بحديث رئيس الهيئة العليا للتأديب القاضي مروان عبود على “المنار”، وفيه نقل الواقع المحزن للإدارة اللبنانية، لجهة تغلغل الفساد في كل مفاصلها وانحرافها عن أهدافها في خدمة المواطن وحفظ دولته، والكل يعرفه، بدءا من التوظيف الذي يستخدمه السياسيون لزرع النفوذ في الدولة وكسب الولاءات وإرضاء الأزلام أو بيع الوظائف بأسعار يعرفها الناس، ومرورا بالأداء السيىء لهذه الإدارة، بامتناعها عن القيام بواجباتها وتنكيلها بالمواطنين وإذلالهم لتأمين خدمات هي حق لهم، أو إعطاء هذه الخدمات لقاء الرشاوى والبراطيل لمن لا حق لهم فيها، إضافة إلى تحول بعض الوظائف إلى أدوات تسلط على الناس أو لتحقيق الترقي الاجتماعي ليس بالجهد الشخصي إنما باستغلال مكانة الدولة وتخصيصها لمصلحة أحزاب وقوى سياسية وأشخاص، إلى أن ينتهي عبود بالإشارة إلى غياب المساءلة والمحاسبة الإدارية والقضائية عن هذه الأفعال المشينة والمعاقب عليها قانونا عبر تهميش دور مؤسسات الرقابة والمحاسبة وإضعافها ومنعها من القيام بواجباتها بالوسائل المعروفة.
السؤال، هو لماذا هذه الدهشة من كلام يعرف اللبنانيون ما هو أخطر وأشد فظاعة وقبحاً منه عن إداراتهم الرسمية؟ ما قاله عبود، هو من الحقائق المعروفة ولا شيء جديدا فيها، حتى أنه لا يشكل أية إضافة في إدانة الإدارة ولو أنه صدر عن مسؤول إداري رفيع إليه مرجع الأمور في تجريم مثل هذه الأفعال.
حتى أن القاضي عبود، لم يشأ من حديثه، أن ينضم إلى جوقة المتسلين على وسائل التواصل الاجتماعي بنشر الأخبار عن الفساد والتجاوزات في الإدارة اللبنانية، فهو يعرف جيدا، أن هذه التسلية ليست سوى لت وعجن لا طائل منها، وغالبا ما يتم استخدامها للتراشق السياسي بين الأحزاب والقوى الراعية لهذا الفساد، ولسنا نحن في مرحلة إثبات واقعة الفساد، إنما بتنا في مرحلة ما بعد الفساد أو ما بعد هذه الحقيقة.
ليست مشكلة القاضي عبود، في الموظف الذي لا يحضر ويقبض راتبه كاملا، وليست مع الذي يتقاضى “بدلات” من دون وجه حق عن خدمات إئتمنته الدولة عليها، او مع ذاك الذي يخالف القانون ولا يخاف لومة لائم في انتهاكاته للقوانين والانظمة، مشكلته في مكان آخر، وسبق له قبل “المنار” أن صوّب في أحاديث صحافية وتلفزيونية إلى ذاك المكان، وقد تتبّعه بالتسلسل الإداري ووصل إلى الينبوع الاول لهذا الفساد الذي يضخ في كل اقنية الإدارات والمؤسسات اللبنانية.
يعرف عبود، أن كل فاسد ومرتكب فوق رأسه خيمة نصبها له رئيسه، وكذلك ذاك الرئيس يغطيه رئيسه، والسلسلة معروفة، وهي تنتهي برأس النبع، واسمه الرؤساء والوزراء والنواب. وبخلاف معظم الدول في العالم، هؤلاء في بلدنا، القانون يمنحهم الحصانة ولا لسلطة قضائية أو تأديبية الصلاحية في أن تساءلهم أو تحاسبهم. ومصلحة الناس والدولة ليس لها حام منهم سوى ذممهم وضمائرهم، لكن المشكلة أن هؤلاء أنفسهم لديهم مصالح متضخمة ومتنوعة في البلد، ويجب أن لا نلومهم إذا التبس عليهم محاباة مصالحهم على حساب المصلحة العامة، فنحن ارتضينا أن يحكمنا من فيه الخصام “وهو الخصم الحكم”.
لا شيء يكسر هذه المعادلة سوى إقرار قانون يُسقط الحصانة عن الرؤساء والوزراء والنواب ويخضعهم لكل أنواع المساءلات والمحاسبات التي يخضع لها نظراءهم في كل دول العالم بما فيها الدول الإفريقية، واتخاذ كينيا مثالا التي سنّت القوانين اللازمة لاسترجاع كل ما نهبه الفاسدون من المال العام ورده إلى الدولة صاحبة الحق.
هذا الذي يجب فهمه من كلام القاضي النزيه عبود الذي يشهد له ديوان المحاسبة عندما كان مستشارا فيه، مناقبيته واستقامته وذبّه عن مصلحة الدولة والمواطن، فما قاله لم يكن للتندر والجعدنات والانتقادات الافتراضية، فالحديث عن الفساد لم يعد يخيف أحدا من المستفدين منه، ولا يحرّض أحدا من المتضررين منه، فما لجرح بميت إيلام، علما أن لا آلام تقع عندما يحارب شخصا “خيالو”.