القاع تفتح ذراعيها للضيوف: لا نازحون في الشوارع
لم تَعُدْ بلدة القاع في البقاع الشماليّ كما كانت بوابة لبنان إلى سوريّا ومعبرًا مهمًّا منها، باتت مراكز إيواءٍ مثل كثير من البلدات التي تُعتبر آمنة، فتستقبل النازحين من مُدُن وقرى محافظة بعلبك- الهرمل، وغيرها أيضًا، تُبَلسِم جراحهم، تُحَاول قدر الإمكان دعمهم ورفدهم بأسباب الصمود.
لا نازح في الشارع
يؤكّد عضو خليّة الطوارئ والناشط في بلديّة القاع حكمت عاد، أنّه “منذ اللحظة الأولى لبدء الحرب وقدوم النازحين، رفض أهالي القاع بقاء أيِّ ضيف منهم في الشارع”. يشرح لـ “مناطق نت” واقع النزوح وآليّة العمل التي اعتمدت في البلدة فيقول: “صباح 24 أيلول (سبتمبر) الماضي كان بدء وصول النازحين، دعا رئيس البلديّة بشير مطر كلّ فاعليّات البلدة، المختارين، الأحزاب، الآباء الكهنة، مديري المدارس، الجمعيّات والمنظّمات، إلى اجتماع طارئ في البلديَّة، حيث جرت مناقشة واقع النزوح المستجدّ وكيفيَّة استقبال الضيوف، شَكَّلنا خليَّة أزمة، مهمّتها تنسيق الجهود والأعمال في سبيل راحة إخوتنا القادمين إلى البلدة”.
يتابع عاد: “وصل إلى بلدتنا 4776 شخصًا، غالبيّتهم من مدينة الهرمل ومحيطها، يقيم منهم حاليًّا حوالي 3450 (قرابة 834 عائلة) في البيوت، ضيوفًا أو مستأجرين، فيما توزّع الباقون على أربعة مراكز إيواء هي: مهنيّة القاع 293 عائلة، المدرسة التكميليّة 217 عائلة، الثانويّة 213 عائلة، صالة الكنيسة 240 عائلة، إضافة إلى تأهيل سوق الخُضار وتحويله إلى مركز للإيواء، بعدما امتلأت المراكز الأربعة بالكامل”.
يضيف عاد “المراكز المذكورة غير مجهّزة للسكن طبعًا بخاصّة في فصل الشتاء (غياب التجهيزات موكيت عوازل برد)، يترافق ذلك مع تأخّر دعم الدولة بمادّة المازوت”.
الدولة الغائبة والجمعيّات
تَتَرَّدد في كلّ مراكز الإيواء في البقاع الشماليّ الشكوى ذاتها “غياب الدولة” شبه الكامل، تقديمات شكليّة قليلة، تصريحات واجتماعات بالجملة لكن من دون فائدة، لذلك شَكَّلَت الجمعيّات والمنظّمات صَمَّام أمانٍ، بحسب ما يؤكد الأستاذ المتقاعد الياس التوم وهو مدير مشروع “مكاني” أحد برامج الجمعيَّة اللبنانيَّة للدراسات والتدريب في القاع.
يقول التوم لـ “مناطق نت”: “القصف المعادي لم يكن عسكريًّا أو يستهدف المراكز التابعة لـ “حزب الله” فحسب، بل طال بيئة الحزب المدنيَّة بالكامل، وطال مناطق البقاع والجنوب، تأخّر الدولة (تقاعسها) أجبر الجمعيّات على المسارعة إلى إغاثة الناس، وإنقاذها من التشرّد في الشوارع. صحيح هذه مهمّة الدولّة، لكن يدخل في أهداف وقِيَم الجمعيّات أيضًا، لذلك نحن سواء كنّا في خليّة الطوارئ أو الجمعيّات، نعمل ونسعى إلى تكامل وتضافر الجهود للتخفيف عن الناس، الاحتياجات كبيرة جدًّا والمُتَوافر قليل، لكنّ المهمّ ستر الناس ومنع “بهدلتها” فنحن أخوة في الوطن والإنسانيّة”.
امتنان الضيوف
كسرت الحرب العدوانيَّة على لبنان، كثيرًا من الحواجز الوهميَّة بين اللبنانيّين، سياسيّة مناطقيّة أو طائفيّة، بات الشعب اللبنانيّ اليوم مُوَزَّعًا على ثلاث فئات، نازحين، مستقبلي النازحين، عاملي إغاثة وإعانة النازحين، وفي الحالات الثلاث تَتَجلّى الروح الإنسانيّة الصادقة.
كسرت الحرب العدوانيَّة على لبنان، كثيرًا من الحواجز الوهميَّة بين اللبنانيّين، سياسيّة مناطقيّة أو طائفيّة، بات الشعب اللبنانيّ اليوم مُوَزَّعًا على ثلاث فئات، نازحين، مستقبلي النازحين، عاملي إغاثة وإعانة النازحين
محمّد مرتضى ابن مدينة الهرمل، انتقل رفقة زوجته وأطفاله الخمسة، إلى متوسّطة القاع الرسميّة. يُعْرِب عن “شكري وامتناني الكبيرين لأهل القاع الكرام”.
يقول لـ “مناطق نت”: “خرجنا مثل غالبيّة أهالي الهرمل تحت وابل القصف، لم نُفَكّر مرّتين في وجهتنا، فورًا اتّجهت إلى هنا، والحمدلله- الجماعة يْكَتّر خيرهم ما مقصّرين معنا بشي- يعملون قدر استطاعتهم على تأمين جميع المتطلّبات اليوميّة للنازحين، عبر مبادراتهم بالتعاون مع الجمعيّات، فيما الدولة غائبة كليًّا- ما في غير الوعود- لكن للأسف وعود كاذبة اعتدت عليها شخصيًّا. أتمنّى ألّا تكون وعودها في تأمين مواد التدفئة، مثل وعودها العلاجيّة لمرضي الخبيث، إذ توقّفت رحلة علاجي بسبب الحرب” يختم مرتضى مُتَحَسِّرًا.
أما هـ. ناصرالدين الصبيَّة الجالسة رفقة والدتها تحت شجرة في ملعب معهد القاع الفنّيّ تقول لـ “مناطق نت”: “نشكر أهالي القاع جميعًا من دون استثناء على كلّ ما قاموا به لأجلنا، أمنيتنا أن تتوقّف الحرب سريعا -اليوم قبل بكرا- والعودة إلى بيوتنا، طلبنا من الدولة أن تهتمّ بنا وبأهلنا في القاع، خصوصًا لجهة تأمين مواد ووسائل تدفئة، إنّ غياب الدفء يعني حتمًا مشروع مريض، التدفئة هي الحاجة الأساس الأولى في البقاع الشماليّ حاليًّا”.
“الكنيسة هي الناس”
لم تكن أبرشيّة القاع بعيدة من إغاثة النازحين، بل كانت سَبَّاقة إلى ذلك، منذ تفجيرات “البيجرز” وَضَعَت سيّارات الإسعاف التابعة لها في خدمة كلّ مشافي البقاع الشماليّ لنقل المصابين، ونظّمت بإدارة وإشراف كاهن رعيَّة القاع الأب إليان نصرالله عمليّات سحب ونقل الدم إلى معظم مستشفيات البقاع.
شَرَح الأب نصرالله لـ “مناطق نت” أهمّيّة مساندة الناس بعضها بعضًا فقال: “السياسة لها أهلها والعاملون بها، أمَّا نحن ككنيسة رسالتنا هي الإنسان، الإنسانيّة لا تتجزّأ. الكنيسة ليست المباني المُشَيَّدة بأبهى حُلَّة عمرانيّة، أو المزخرفة المزيّنة بالأثاث الجميل، الكنيسة هي الناس، أجراسها صوت الناس، فرحًا أو حزنًا، فإذا لم تكن الكنيسة –عالأرض- في مثل هذه الظروف فمتى تكون؟”.
يشكر الأب نصرالله وزارة الصحّة على تلبيتها نداءاته بشأن مركز الرعاية الصحّيَّة، ويثني على جهود أبناء رعيّته من مؤسّسة البلديّة إلى القوى السياسيّة والجمعيّات والمنظّمات حتّى الأفراد.
ويؤكّد استمرار الكنيسة في لعب دورها الرسوليّ الإغاثيّ عبر كلّ أجهزتها الصحّيَّة الوقفيَّة والتربويَّة ويتوجَّه برسالة خاصّة إلى أبناء رعيّته قائلًا: “يا أحبّتي أفخر بكم وأتباهى بكم، ما تقومون به من جهد يُمَثّل الروح المسيحيَّة الحَقَّة، روح المحبّة والتسامح، كما ورد في الإنجيل المُقَدَّس -لأنّي جُعتُ فأطعَمتُموني، وعَطِشتُ فسَقَيْتُموني، وكُنتُ غَريبًا فآوَيْتُموني، وعُريانًا فكَسَوْتُموني، ومَريضًا فَزُرتُموني، وسَجينًا فجِئتُم إليّ- وعلى نحو ما يُمَثّل قِيَم الأجداد والأباء التي توارثناها في هذه البلدة المعطاء، لجهة حُسْن الجوار وإكرام الضيف ومساندة الضعيف، آزروا إخوانكم وأبناء جلدتكم فالخير هو الباقي والشرّ والحرب إلى زوال” يختم الأب نصرالله.
إنّ معظم أبناء لبنان المفجوعين بوطنهم، يرونه أمام عيونهم، تأكله نيران الحقد والدمار، يلتهمه وحش البارود والخراب، يتساءلون دائمًا بحسرة وقلق: لماذا تجمعنا المصائب والأهوال ثمَّ نفترق ونَتَفرَّق بعد زوالها؟ سؤال لا جواب له في أفقهم المنظور.